يندرج المقال في ملف عن الخوف أعده وأشرف عليه تمّام الهنيدي.
"آني زلِمة، الزلِمة ما يخاف" قالها بكسر اللام (زلِمة)، كما تقال في اللهجة البدوية، طفل لم يتجاوز السابعة من العمر، التقيت به عند بقالية حارتنا.
ذكّرني الفتى بصديقي ناصر الذي تعذر عليه، حين كان طفلًا، البوح بخوفه المُستنكر غير المألوف في بيئته، فهو رجل والرجل لا يخاف. لكنّ ناصر الشاب الانطوائي الذي فاجأه ازدحام دمشق حين جاء إليها من ريف درعا للالتحاق بالجامعة، كان خوفه مضاعفاً؛ فهو يخاف من الوصمة في قرية صغيرة سيشير الجميع فيها إليه على أنه جبانٌ رعديد أو مجنون في أحسن الأحوال، ناهيك عن افتقاده للمفردات المناسبة لشرح ذلك الرعب الذي كان يصيبه في الأماكن المزدحمة، فقد درج الشاب اللطيف على تورية الخوف بالتحايل على اللغة، كأن يكتفي باستخدام تعبير "ماني مرتاح" حين تشاء الصدف بأن يتواجد وسط جمع من الناس.
خلال حياته في دمشق كان يتجنب الذهاب إلى الأسواق والمطاعم، وكان الجزء الأكبر من دخله يذهب إلى سائقي سيارات التكسي للابتعاد عن وسائل النقل العامة والازدحام الذي تفرضه.
ثم جاء الزلزال
أكثر ما أخافه في المعتقل كان الوحشية التي تعاملوا بها معه، ابتداءً من أصغر رتبة. وكانت نجاته الوحيدة حين تنتهي جولات التحقيق والتعذيب، ويعاد إلى زنزانته المنفردة، حيث يكون وحيداً كما أراد دائماً
حين بدأت الثورة قرر ناصر، على نحو مفاجئ، أن يشارك في المظاهرات. للمرة الأولى في حياته رغب بأن يكون جزءاً من الحشد. يوم الخامس والعشرين من آذار/مارس عام 2011 هتف ناصر في رحاب الجامع الأموي "بالروح بالدم نفديكي يا درعا"، والتحم بالرجال، ثم خرجوا جميعاً من الجامع في كتلة واحدة باتجاه سوق الحميدية. تحدى مخاوفه دفعة واحدة: خوفه من النظام، من الاعتقال، من الموت، وخوف من الحشود؛ لا يفرق بين مظاهرة أو حفلة أو تجمع لمباراة. وجد نفسه وسط عدد هائل من الناس، وحين دهمته نوبة الهلع تراجع للخلف لا إراديّاً. أراد التقاط أنفاسه فحسب، لكن عناصر الأمن انقضوا عليه واعتقلوه.
أكثر ما أخافه في المعتقل كان الوحشية التي تعاملوا بها معه، ابتداءً من أصغر رتبة. وكانت نجاته الوحيدة حين تنتهي جولات التحقيق والتعذيب، ويعاد إلى زنزانته المنفردة، حيث يكون وحيداً كما أراد دائماً. كانت المرة الأولى التي يتمنى فيها أن يكون ضمن حشد.
غادر ناصر البلاد، ويقول إنه ربما تخلص من خوفه من النظام، لكن تلك المظاهرة كانت المرة الوحيدة التي يتحدى فيها خوفه من الحشود، غاضبةً أم سعيدة، على حد سواء، ولا يدري إن كان سيتخلص من رهابه يوماً.
نتعلم منذ الصغر أن الرجل لا يخاف، لكن أحداً لم يعلمنا كيف نفعل ذلك.
نتعلم منذ الصغر أن الرجل لا يخاف، لكن أحداً لم يعلمنا كيف نفعل ذلك
***
رجل العائلة
التقيت جمال في أربيل، شاب في الثلاثين من عمره، يعمل في محل لبيع قطع سيارات. عند هجوم جيش النظام السوري على درعا في عام 2011. ترك جمال الجامعة، وعاد ليعتني بإخوته الصغار. كان عليه تأمين احتياجاتهم وإرشادهم، فوالده مغترب في الكويت، وجمال أكبر إخوته. وجد نفسه فجأة يلعب دور رجل العائلة في ظروف استثنائية لا خبرة لديه في التعامل معها، ولم يكن معتاداً على تحمل المسؤولية. كان طفلاً في جسد راشد، مهمته الأصعب أن يهون عليهم خوفهم ويحضنهم ويمسح دموعهم، دون أن يكون لديه من يهون عليه خوفه. وبعد تجارب عديدة نجا فيها من الموت الوشيك عقب اشتداد المعارك واقترابها من بيته، نزح مع عائلته ثم عبر الحدود لاجئاً إلى الأردن.
لم ينته خوف جمال رغم مرور الزمن. قال إنه لا يزال خائفاً، لدرجة أنه لا يقوى حتى على مشاهدة الأفلام الحربية، ولا يطيق رؤية طائرات الهليكوبتر، وحين يصادفها يختبئ إلى أن تغادر. يقول إنّ لديه فوبيا منها، وفي كل مرة يراها أو يسمع صوتها يخيّل إليه أنها ذاتها لا سواها، الهليكوبتر التي رمت برميلًا كاد ينهي حياته ذات نهار، حين غطى الدخانُ والغبار الضوءَ وحل الظلام، فظن أنه مات حتى أخبره التراب المتساقط على رأسه أنه مازال على قيد الحياة.
قال الخاطفون إنهم قاموا بعملية نوعية أسروا فيها عناصر و"شبّيحة" تابعين للنظام السوري، والحقيقة أنّ سائق الشركة التي يعمل فيها ربيع قام بتسليم موظفي الشركة للجماعة المسلحة لأنهم دروز!
تجسّد خوف جمال على نفسه وعلى إخوته في شكل الآلة الحربية التي كانت تهاجمه، في حين تعقدت المسألة على ربيع الذي أخذ خوفه شكلاً أعقد، فانعزل في منزله في جرمانا بريف دمشق. حكا لي قصة اختطافه من قبل جماعة مسلحة بينما كنا نتابع مباراة كرة قدم. كان مبتسماً لدرجة أنني اعتقدت أنه يمزح عندما فاجأني بالفيديو الذي نشره الخاطفون، يقولون إنهم قاموا بعملية نوعية أسروا فيها عناصر و"شبّيحة" تابعين للنظام السوري، والحقيقة أنّ سائق الشركة التي يعمل فيها ربيع قام بتسليم موظفي الشركة للجماعة المسلحة لأنهم دروز!
معاناة ربيع استمرت لشهور، فلا أحد تدخل لإنقاذه لا النظام ولا أرباب العمل ولا شيوخ الطائفة، ولم يكن لينجو لولا جهود أخيه صفوان الذي استطاع الحصول على معلومات عن الجماعة وقائدها الذي كان شاباً من عائلة بسيطة من ريف دمشق، تواصل صفوان معه على مدى أسابيع استطاع خلالها كسب ثقته وحقق ما يشبه معجزة في ذلك الوقت بتحرير ربيع وباقي المختطفين دون مقابل.
تجربة ربيع المريرة تركت أثراً عميقاً في داخله، فعلى الرغم من إيمانه أن الحظ قد وقف الى جانبه، إلا أنه تحول إلى شخص لا يثق بأحد، ولا يغادر بيته إلا للضرورة القصوى، حتى إلى بيوت الأصدقاء والأقارب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...