شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أمضيتُ حجراً صحياً كبيراً جداً... مع خمسة عشر شخصاً من أفراد العائلة

أمضيتُ حجراً صحياً كبيراً جداً... مع خمسة عشر شخصاً من أفراد العائلة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

السبت 25 يونيو 202212:32 م

منذ عامين ونصف تقريباً، وأنا أهرب من فايروس كورونا، لدرجة أنني صدقت أني أحمل مناعة تقاوم الفايروسات وآمنت أنني محظوظة جداً.

فخلال العامين خالطت الكثير من الأصدقاء الذين فاجأوني في اليوم التالي بإصاباتهم، ولم أصب حينها.

أنا تغريد أعاني من وسواس قهري بالتعقيم والهرب من الأمراض المعدية.

أملك في منزلي خمسين علبة معقم وألف كمامة، إذا عطس أحدهم في منزلي حجرت نفسي في غرفة بناتي حتى يرحل.

فاتتني الكثير من المناسبات  والرحلات بسبب شكوكي بأن أحدهم يحمل الفايروس، لكن ما جرى هذا الأسبوع جعلني أعيد ترتيب مشاعري تجاه كل الأشياء.

كبرت مخاوفي وأصبح الوسواس واضحاً للعيان عند انتشار الفايروس، وعند إنجابي بناتي وتجربة نزلات المرض معهن، لا يمكنني تخيّل كيف سيكون شكل الليل والنهار مع مرضي وطفلتين. 

فاتتني الكثير من المناسبات والأمسيات وأعياد الميلاد والرحلات بسبب شكوكي بأن أحدهم يحمل الفايروس، لكن ما جرى هذا الأسبوع جعلني أعيد ترتيب ظنوني ومشاعري تجاه كل الأشياء.

أنا ابنة عائلة صغيرة، لا يتفرع من عائلتي المحيطة أعمام وعمات، أو على الأقل أنا لا أعرفهم، بسبب اللجوء والهجرة الأولى.

يسكن أعمامي غزة وعماتي أبو ظبي وأبي وحيداً سكن دمشق.

لهذا فإن خالاتي هن عائلتنا الوحيدة، في كل مرة أشعر بالوحدة ترجعني ذاكرتي لالتفافنا حول إبريق الشاي وأغاني أمي ودق ابن خالتي على طنجرة ما كأنها دربكة!

هذا المشهد يأكل رأسي، وقد أكون لا أحن لشيء في دمشق سوى جمعتي مع بنات وأبناء خالاتي يوم الخميس في بيت جدتي هند.

 حين كنا نجتمع حول مدفأة جدتي نتهامس بأعيننا ونمارس النميمة بأقسى درجات الحرص، إبريق الشاي الذي لا ينضب، تغلي جدتي الشاي مع السكر وتضع الكاسات الصغيرة على فمها جاهزة لأي ضيف مفاجئ.

أعرف أنني فقدت متعة العائلة ومتعة اجتماعات يوم الخميس وضجة الخميس ومشاكل الخميس، وأعرف أني فقدت هذه اللّمة للأبد، لكني ما زلت أحن إليها، إلى الدفء الذي كنت أشعر به حينها، لا أذكر لحظة ضحكت فيها كما كنت أضحك بينهم ولا أذكر للحظة أني كنت أنا نفسي كما كنت بينهم.

لدى زوجي عائلة كبيرة متفرعة في أوروبا. أولاد وبنات عم، أعمام، عمات، وكنت كأي كنة جديدة أنحي نفسي دائماً وبحذر عنهم، وهذا لا يفسد الود، بل تجربة مني للحفاظ عليه، فلم أعطِ نفسي فرصة لأن أكون فرداً بينهم، بل دائماً ضيفاً خفيفاً.

وضعت مخاوفي في كيس مع أغراض السيران وأحكمت إغلاقه، وفيما أنا على الباب أحمل أملاً لإيجاد فرصة لأكون فرداً من عائلة زوجي، رن الهاتف  ليخبرونا بإصابة عمة زوجي بفايروس كورونا وأنهم جميعاً في الحجر الصحي 

في بداية الأسبوع اجتاحني شعور الحنين لجمعة خالتي مجدداً لدرجة أنني بكيت، في حين اتصلت عمة زوجي لتخبرنا أنها على الطريق من ميونيخ البعيدة، وعم زوجي من هولندا، وابن عمه من بوخم وتجمعت عائلته كما كانوا يجتمعون دوماً.

هذه المرّة كانت لدي رغبة جامحة بأن أكون بينهم، أن أعطي نفسي فرصة بأن أعيد شعور الألفة القديم مع أشخاص جدد، فوضعت مخاوفي في كيس مع أغراض السيران وأحكمت إغلاقه، وفيما أنا على الباب أحمل أملاً لإيجاد فرصة لأكون فرداً منهم، رن هاتف المنزل ليخبرونا بإصابة عمة زوجي بفايروس كورونا وأنهم جميعاً في الحجر الصحي معاً. وكوننا الوحيدين الذين كنّا خارج منزل التجمع فنحن في أمان لأننا لم نختلط بهم، كان لدي عشر دقائق للاختيار بين وسواسي وخوفي وبين حاجتي وعائلتي لنمضي وقتاً مع عائلتنا الأكبر.

نظرت للكيس الذي وضعت فيه الأغراض ولزوجي وقررت أن أختلط وأن نمضي حجراً صحياً كبيراً

نظرت للكيس الذي وضعت فيه الأغراض ولزوجي وقررت أن أختلط وأن نمضي حجراً صحياً كبيراً، كبيراً لدرجة أنّه يحوي خمسة عشر شخصاً، وكوني ملقحة بثلاث جرعات خفف هذا من مخاوفي.

صعدت الدرج وأنا لا أفكر سوى بأنني أريد هذا.

 كنّا نتعامل مع كورونا على أنها نزلة برد ستمضي لم يلحظ أحد منا أعراضها وكنّا نضحك على بحة أصواتنا ويأكل بعضنا دون أن يميز الحلو عن المالح لكن الفرح كان سيّد الموقف. 

أصيب النصف منا في أول ثلاثة أيام، وبقي النصف الآخر ينتظر، لكن شيئاً غريباً بدا واضحاً هو أن الفايروس كان حنوناً دافئاً، لم نخف ولم نتعب. قد يبدو هذا مخالفاً لكل نظريات العلم والمنطق والأبحاث، لكنه كان كذلك فعلاً، فلم نعانِ من حرارة ولا آلام حادة لحسن الحظ، وأرجعت هذا لرفضنا الداخلي للمرض، كنّا جميعاً نلهث للفرح.

 أمّا أنا فقد اكتشفت أننا بحاجة دائماً أن نبتعد عن دوائرنا، أن نخالط أشخاصاً لا نعرفهم، أن نعطي الآخر البعيد فرصة ليبني فينا جسراً جديداً من الألفة والمحبة، منذ وقت طويل وأنا حبيسة مخاوفي، خوفي من المرض، من الأشخاص، من التجديد. 

أحمل علبة كحول معقمة وأبخ بها الفايروسات والأشخاص والعلاقات على السواء  

أحاول أن أجعل كل دخيل يختفي بسرعة.

أرجعتني عائلة زوجي حيث كنت طفلة تجلس ضمن دائرة في بيت جدتها، قاسمت أفرادها ذكرياتهم وأسرارهم ونميمتهم القديمة والجديدة

عند قرار المخالطة استرجعت جزءاً من نفسي، الجزء الذي فقدته في الخوف.

أرجعتني عائلة زوجي حيث كنت طفلة تجلس ضمن دائرة في بيت جدتها، قاسمت أفرادها ذكرياتهم وأسرارهم ونميمتهم القديمة والجديدة، ابتعدت عن دائرتي التي أحب واكتشفت أن الأشياء التي نحبها وتحبنا لها القدرة على خنقنا مع الوقت، إذا لم نبتعد عنها قليلاً، كل الأشياء السيئة وحتى أسوئها ستبدو ألطف في حضن العائلة.

  اكتشفت أن هناك دائماً متسعاً من الوقت لنصنع عائلات جديدة، للتجديد والاندماج، أن نكون فرداً جديداً لعائلة محبة   

أدركت أنني لم أصب بالفايروس لأنني كنت أكثر حرصاً وخوفاً من أن أقترب منه. 

اليوم أنا مصابة، كنت آخر من حمله، محجورة في منزلي وحدي، لكنني سعيدة. وهذا أضعف الإيمان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image