تقطع السيارة شوارع المدينة، ويتردد بداخلي صوت الشيخ سيد مكاوي متغنياً بكلمات الشاعر طاهر أبو فاشا: "قالوا منين البلد أنا قلت دمياطي/وأبو المعاطى نزيل أرضي ودمياطي/بلد تجلى عليها المنعم العاطي/وولادها عمال لهم آمال/صانيعيه/وأسطوات يا ولد/مايحطوهاش واطي".
هكذا الدمياطي، صاحب الصنعة "إيديه تتلف في حرير"، يحول قطعة الخشب الصماء بإزميله ومطرقته إلى لوحة فنية تنطق بالجمال، لتزين قطع الأثاث المختلفة، فتتحول لتحف لا تقدر بثمن. لذلك من يرغب في اقتناء قطعة أثاث "تعيش العمر كله" يشدّ الرحال إلى دمياط، وتحديداً إلى شارع عبد الرحمن.
كان الزمان وكان
شارع طويل يقترب طوله من النصف كيلومتر. يضم على جانبية محالَّ تفتح أبوابها مع كل صباح ليزدحم الشارع بقطع الأثاث المختلفة من كراسٍ وطاولات وشماعات وصالونات وأنتريهات وأنتيكات، وغيرها من قطع الأثاث وإكسسواراته التي يعرفها أبناء الصنعة.
أكثر من 300 محل في الشارع الرئيسي تعرض قطع الاثاث للبيع بأسعار تناسب الجميع وأذواق مختلفة ترضي الكل.
يتفرع من الشارع على امتداده حارات وأزقة امتلأت بالورش الصغيرة التي تفوح منها رائحة الخشب وغباره، ويتصاعد صوت الدق والنشر ليملأ الأرجاء حياة؛ أصوات كانت تختلط بضجيج الزحام الذي كان يملأ الشارع منذ سنوات قليلة، فلا يُفرَّق بين صوت زبون يفاصل في سعر قطعة وبين دقة مطرقة على رأس مسمار. لكن اليوم الدقات تتصاعد ويتردد صداها حتى تلقى مصيرها المحتوم على ساحة طريق خلا من المارة دون أن تخترق أذن زبون أو تجبر بائعاً على رفع صوته.
"من كم سنة كنتي ترشي الملح ما ينزلش الأرض من زحمة الناس فيه. دلوقتي زي ما إنتي شايفة لو جالنا زبون في اليوم يبقى جبرت"؛ جملة تقطر ألماً نطق بها الحاج محمود أبو عبدالله، واحد من أقدم وأشهر تجار الخشب في شارع عبد الرحمن، والذي حكى لنا عن بداية الشارع: "بدا الشارع بورشتين أو ثلاثة في أواخر الستينات، وعشان حالهم مشي، كترت الورش والمعارض جنبهم، وبدا الشارع يتعرف في السبعينات بتجارة العفش وإكسسورات الموبيليا، وبقى ليه زبونه اللي بيدخله عشان يشتري كل اللي يخصه من موبيليا وأثاث. وواحدة واحدة فتحت ورش في الشوارع الجانبية، وبقت بتخدم على المحالات التجارية فيه. وربنا فتح بسببه على كتير، وكان بيجي لنا ناس من المحافظات تتعلم على إيدينا صناعة الموبليا وفن الأويما. دلوقتى بقوا أصحاب ورش ومعارض في بلادهم".
شهره عابرة للقارات
الشارع الذي فتح أبواب الرزق للمئات من العمال و"الصنايعية"، سواءً من أبناء دمياط أو المحافظات المصرية المختلفة، كان سبباً في فرحة المقبلين على الزواج عبر عقود مضت؛ فالشارع يقدم لهم أثاث عشّ الزوجية بأسعار في متناول الجميع وموديلات متنوعة وبجوده عالية يثق فيها الكل، ليس فقط المصريون ولكن العرب أيضاً، فكثير من أبناء الخليج يعرفون الشارع، سواءً كانوا من زواره أو ممن يستوردون منتجاته عن بعد.
"من كم سنة كنتي ترشي الملح ما ينزلش الأرض من زحمة الناس فيه. دلوقتي زي ما إنتي شايفة لو جالنا زبون في اليوم يبقى جبرت"؛ جملة تقطر ألماً نطق بها الحاج محمود أبو عبدالله، واحد من أقدم وأشهر تجار الخشب في شارع عبد الرحمن
فالميزة التى يقدمها الشارع لرواده هو بيعه الأثاث في مرحلته الأولى أي "قبل التشطيب"، كما قال الحاج أبو عبدالله: "هنا تلاقي كل اللي انتي عايزاه من عفش بيتك، من الإبرة للصاروخ زي مابيقولوا، بس خشب أبيض، تاخديه وتشطبيه على ذوقك وعلى حسب إمكانياتك، فتكلفته بتبقى قليلة وبتضمني أساسه وبتشوفي الخشب بعينك قبل مايتلون أو يتنجد ودي حاجة مش متاحة في المعارض الكبيرة. والشارع كمان بيقدم خدمة التشطيب للي يحب ويطلب".
الشارع هجره زبائنه
تأثر شارع عبد الرحمن بارتفاع سعر الدولار ثم بجائحة كورونا، فهجره زبائنه ليس لتغيير أصاب جودة بضاعته ولكن للجوء الزبون للبضاعة الأقل سعراً، حتى إن كانت رديئة الصنع عديمة الجودة.
يقول لنا الحاج: "دلوقتي الزبون بعد ارتفاع الأسعار بقى يدور على أي حاجة تأدي الغرض، والسلام. مبقاش يدور على الجودة، ولا حتة العفش اللي تعيش عمر. الشاب من دول بيدبر أموره بالكم جنيه اللي حوشهم عشان يأسس بيته، وللأسف الشديد الدخلاء ع الصنعة وقفوا حالها. ناس كتير اشتغلت في شارع عبد الرحمن أغراب مش دمايطة، وسرقوا الصنعة وعرفوا أسرارها، ورجعوا بلادهم عملوا ورش وبقوا يعملوا عفش شكل من برة وبس عشان يراضوا الزبون، وده وقف حالنا وحال الشارع".
الحل عند الحكومة
الزيادة الغريبة في أسعار الخامات، واختفاء زبائن الشارع الأصلي جعل بضاعة معارضه راكدة، وتأثرت حركة البيع والشراء بشكل كبير، فاضطر الكثير من أصحاب المحال في الشارع للإغلاق؛ هكذا صرح محمد النماس، أحد تجار شارع عبد الرحمن الشباب، والذي تخصص في بيع الأنتيكات منذ سنوات طويلة، وهو من تجار الشارع أباً عن جد كما قال لنا: "كان جدي نجار سواق، ثم غير نشاطه في السبعينيات لنجارة الكراسي والطاولات، واستمر الوضع لسنوات طويله حتى قررتُ التجارة في الأنتيكات".
يؤكد النماس أن شارع عبد الرحمن كان مقصد العرب والأجانب وسكان إفريقيا أيضاً للفوز بقطعة أثاث مميزة من حيث الجودة والسعر، وكانت له شهرة عالمية منذ سنوات، لكن الآن البيع قليل جداً، وأسعار الخامات في زيادة، لذلك يجب أن تجد الحكومة المصرية حلاً لتقليل أسعار استيراد الخامات، وتهتم بشكل أكبر بالدعاية الدولية والمحلية للأثاث الدمياطي، لأنه ثروة قومية تستحق الحفاظ عليها واعتلاء الصدارة بها.
تسمية الشارع
بعيداً عن أزمات الشارع والحزن الذي خيم على تجاره بسبب الهدوء الذي فرض سطوته بعد سنوات من الضجيج المحبب، بحثت عن سبب التسمية التي اشتهر بها الشارع، وحاولت الإجابة على سؤال من هو عبد الرحمن الذي يحمل الشارع اسمه؟
فجاءتني الإجابة من أغلب أهل الشارع مؤكدين أن اسم الشارع يعود لسيدي عبد الرحمن الإدريسي، صاحب المسجد الذي يتوسط الشارع، والذي بني في أوائل ستينيات القرن الماضي، قبل أن يكتسب الشارع هويته الحالية.
إحذروا السماسرة!
على الرغم من قلة الزبائن وضعف حركة البيع والشراء بشارع عبد الرحمن في الوقت الحالي، كان لا بد من السؤال عن الأمور التي يجب مراعاتها من قبل الزبائن إذا ما قرروا أن يزوروا الشارع لاقتناء قطعة أثاث منه.
شارع عبد الرحمن كان مقصد العرب والأجانب وسكان إفريقيا أيضاً للفوز بقطعة أثاث مميزة من حيث الجودة والسعر، وكانت له شهرة عالمية منذ سنوات... قال لنا أحد التجار في الشارع
الإجابة جاءتنا من محمد عبده، أحد تجار شارع عبد الرحمن الشباب. محمد، صاحب محل شهير في هذا الشارع، تخصص في بيع الصالونات والأنتريهات والسفرة وغرف النوم والأطفال والأنتيكات، يمارس نشاطه منذ أكثر من 15 عاماً، يمتلك خبره طويلة، ويعرف مستوى الزبائن بمجرد دخولهم للمحل.
طلبت من محمد نصيحة للراغبين في الشراء فقال: "يعتقد الزبون أن جودة قطعة الأثاث تزيد كلما زاد وزنها، وهي معلومة خاطئة جداً، وفخ يقع فيه الكثيرون؛ فجودة قطعة الأثاث ليس لها علاقة بوزن الخشب، بل بجودة نوعه. لذلك على كل من يرغب في شراء قطعة أثاث أن يكون على دراية كافية بصفات الخشب الجيد، ولا ينخدع في الوزن أو الشكل".
وأكمل محمد كلامه: "ينخدع الزبون أيضاً في شكل القطعة، فكثير من القطع والموديلات يتمّ تقليد شكلها الخارجي دون الاهتمام بخامتها وجودتها، فكثيراً ما يصادف الزبون قطعة غالية الثمن في الشارع ويرى نسخة منها في مكان آخر بسعر أقل بكثير، فيتصور أن أسعار الشارع مبالغ فيها ويلجأ للأرخص، لكنه لا يدرك الخطأ إلا بعد استعمالها. حينها فقط يدرك الخدعة".
الأسعار في شارع عبد الرحمن تتحدد وفقاً لأسعار الخامات، والمعروضات فيه هي من أجود خامات الخشب لذلك جاءت شهرته العالمية، لأن من يقتنون قطعة أثاث منه يعرفون الفرق بينها وبين غيرها.
وآخر نصيحة وجهها محمد عبده لزبائن شارع عبد الرحمن هي ضرورة تجنب السماسرة، والتعامل مباشرة مع أصحاب المحال التجارية، فالأمر سوف يوفر على الزبائن الكثير من المال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...