شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
عندما تحولت كوابيسي إلى حقيقة... ثمّ صادقتُ الخوف

عندما تحولت كوابيسي إلى حقيقة... ثمّ صادقتُ الخوف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 14 يونيو 202203:35 م

يندرج المقال في ملف عن الخوف أعده وأشرف عليه تمّام الهنيدي، المحرر الضيف في رصيف22 لشهر حزيران/يونيو

عانيت في طفولتي من ظاهرة "الهلع الليلي"، وهو اضطرابٌ في النوم يصيب نسبةً تصلُ إلى 40٪ من الأطفال في عمر مبكر، ويختلفُ عن الكوابيسِ في أنّ مصابيه لا يستطيعون تذُكّرَ تفاصيلِه، على عكسِ الكوابيس، ويظهرُ في النصفِ الأول من النوم بأشكالٍ عدّة، بدءاً من التعرق وصعوبة التنفس وتسارع نبضات القلب واحمرار الوجه وتوسع حدقة العين، وصولًا إلى المشي في النّوم مروراً بمجموعةٍ أخرى من الأعراض كنهوض المصاب هلعاً، والجلوس على السرير بعينين مفتوحتين، والبدء بالصراخ، وهي الحالة التي كانت تصيبني.

كانت أمي تحاول (وقد انتزعتُها من نومها) تهدئتي حتى أستيقظ، ثم تبدأ بإقناعي أن الكابوس لم يكن حقيقياً. ولطالما كانت كوابيسي حية وحقيقية، وإن كنت لم أتذكرها، ولطالما كانت علاقتي بالخوف مرتبطة بشكل وثيق بالكوابيس. أحاول اليوم كثيراً أن أفكر بطبيعة تلك الكوابيس التي لاحقت طفولتي، وأعجز عن توقع ماهيتها.

ينحسر هذا الاضطراب عادة مع بلوغ الطفل سنّ المراهقة، وبالفعل قد توقفت نوبات الهلع الليلي مع وصولي إلى المرحلة الإعدادية، ولكنني حافظتُ على علاقة مضطربة بالأحلام.

في المرحلة الثانوية بدأ يلازمني كابوسٌ اكتشفت لاحقاً أنهُ سوريٌّ بامتياز، وهو كابوسُ امتحان البكالوريا، وكان لهذا الكابوس تنويعات عديدة؛ كأن أصل إلى مكان الامتحان فلا أجد المدرسة، أو أصل إلى المدرسة وتضيع بطاقتي الامتحانية، والأكثر تكراراً: أصل إلى باب المدرسة لأكتشف أنني أرتدي البيجاما أو حافية القدمين، ولا يمكنني الدخول إلى الامتحان.

كانت الخشية من اعتقال أحد أفراد أسرتي تأكلني؛ أخشى كثيراً أن تعتقل أمي بسبب انخراطها في العمل المعارضِ للنظام بشكل فعال منذ ربيع دمشق، وبدا أنّ كوابيسي كلها في تلك المرحلة قامت على الهرب من ملاحقة الأمن، كنت أركض طوال الليل في شوارع دمشق، وأستيقظ لاهثة على وقع ضربات قلبي 

أن نبدأ حياتنا المهنية في "زمن الخوف"

دخلت الجامعة والمجال المهني في سنّ مبكرة، وظل امتحان البكالوريا الثقيل حاضراً بقوّةٍ، خاصة في الأيام التي تسبق اللحظات المهنية المفصليّة في حياتي؛ أذكر مثلاً أنني وقفتُ حافيةً في المنام على باب المدرسة، أحاول إقناع المسؤول بالسماح لي بالدخول لإجراء الامتحان الذي حضّرتُ لهُ طويلاً.

حدث هذا قبل اليوم الأول في تصوير أول مسلسل تلفزيونيٍّ أخرجته في حياتي، ولعلها لم تكن صدفة أن أول مسلسلٍ أخرجته في الرابعة والعشرين من عمري، محاطةً بفريق يكبرني بأعوام كثيرة، كان اسمُه "زمن الخوف" وكان قد كتبه الروائي خالد خليفة بحرفية عالية، وتناول فيه أشكالاً من الخوف والقهر السورييْن في مطلع الثمانينيات.

كنا قد تجنبنا في المسلسل مواضيع يمكن أن تؤدي إلى منعه رقابياً، ولكننا حاولنا تقديم رواية تتناول جانباً من حكاية الخوف، وقد أعملت رقابة المشاهدة لاحقاً مقصّها في حلقات المسلسل، فحذفت مشاهد عديدة، من بينها مشهد يسأل فيه الأب (سليم صبري) ابنَه حسين (مكسيم خليل) عن سبب سؤال المخابرات عنه، ومشهد تسأل فيه أم هزار (رجاء يوسف) حسين بعد إخلاء سبيله إن كان الأمن قد عذب ابنها أثناء الاعتقال.

كانت معركتي مع الرقابة قد بدأت في العام الذي سبق، عندما منع بشار الجعفري تصوير فيلمي الأول، والحقيقة أنني فوجئتُ بنفسي في مواجهتي لهذه المعارك، وقدرتي على الدفاع عن عملي بما استطعتُ من صلابة، بما في ذلك مراجعة فرع الاستطلاع الأمني للحصول على موافقة من أجل تصوير فيلمي الوثائقي "المعبر" عند معبر القنيطرة إلى بقيّة أراضي الجولان السوري المحتل. كانت قدرتي على تلك المواجهة تتناسب طرداً مع كثافة الكوابيس وحضورها في حياتي اليومية.

لم أشعر يوماً أنني شجاعة، ولكني نجحتُ في العيش في ظل الذعر: بكرامةٍ ودون أن يكسرني خوفي، فقد صادقته على أمل الانتصار عليه، والالتفاف على أثره اليومي في حياتي

 لطالما فكرتُ بالعلاقة بين الخوف الدائم في حاضر حياتنا وكوابيسنا، فقد كنت أخاف باستمرار، حتى في مضمار عملي المهني، فعلى الرغم من اقتحامي مجال عمل صعب، مليء بالتحديات، في عمر مبكر، ورغم قدرتي على الإدارة بدبلوماسية وحذر لفريق من ذكور تربّى أغلبهم على اعتبارِ المرأة أضعف منهم قدرةً وأدنى مكانة، إلا أن كوابيسي كانت تعكس خوفي الدائم من ألا أكون على قدر الامتحان الذي أواجهه بشكل يومي. كنت أخرج أعمالي وأخوض مواجهاتٍ وحروباً يومياً لأعود ليلاً، فأفشل وأنسى كل ما درسته وحضرته.

الكابوس الذي صارَ حقيقةً يوميّة

مع اندلاع الثورة السورية انحسرت "شجاعتي" كلها وعاد الذعر ليسكنني، وتدريجياً عادت الكوابيس القابلة للتصديق لملاحقتي بكثافة. كانت الخشية من اعتقال أحد أفراد أسرتي تأكلني؛ أخشى كثيراً أن تعتقل أمي بسبب انخراطها في العمل المعارضِ للنظام بشكل فعال منذ ربيع دمشق، وبدا أنّ كوابيسي كلها في تلك المرحلة قامت على الهرب من ملاحقة الأمن، كنت أركض طوال الليل في شوارع دمشق، وأستيقظ لاهثة على وقع ضربات قلبي المرعبة.

اختار النظام الحلَّ العنيف لمواجهة الثورة، وشيئاً فشيئاً تحولت أسوأ كوابيسي إلى حقيقة: استشهدت عمتي في مجزرة جامعة حلب، اعتقل أصدقائي وروى من خرج منهم "مولوداً" حكايات لا يصدقها عقل، قتل أهل بلدي في مجازر جماعية، ودفنوا في مقابر مجهولة، احتلت داعش مدينة جدي، وأعدمت أحد أبناء العمومة. وكنت مع كل خبرٍ أفقد القدرة على التمييز بين الواقع والكابوس، وأظل أنتظر اللحظة التي ستوقظني فيها أمي لتخبرني أن ما جرى ليس حقيقياً، وأن الكابوس القاتم لم يكن سوى منام مزعج. لكنني لم أستيقظ هذه المرة، وظللت في السنوات العشر الأخيرة أسبح في ذلك الكابوس المرعب، الذي لا أجد له آخرَ.

أنظر حولي، أرى المحيطين بي وهم يواجهون معاركهم اليومية، من اقتلاع من بلد أحبوه وعناء يومي داخل البلد، من صبر على الفقد ومواجهة آلة القمع، وأفكّر: لعل هذه هي الشجاعة الحقة، أن نصاب بالذعر وأن نكمل طريقنا رغماً عن الخوف، وربما برفقته أحياناً

خرجت من سوريا وحيدةً لا أحمل سوى حقيبة صغيرة، ثمّ خرج زوجي بعد محاولة فاشلة لعبور الحدود؛علقتْ أمي خلف الحدود لسنواتٍ ممنوعةً من السفر؛ وظلت الكوابيس حاضرة، لكنها لم تعد تُحدث الأثر ذاته، فالواقع كان أشد قسوة بكثير.

ولدهشتي، لم أجلس في سريري جاحظة العينين أصرخ، تابعتُ حياتي وتعلمت معايشة خوفي يوماً بيوم؛تعلمتُ مع الثورة التماسك والمواجهة، دون التخلي عن خوفي، أمسكت بيد الخوف، وسمحت له بمرافقتي دون أن يكبّلني، قبِلته رفيقاً للرحلة، ولم أشعر يوماً أنني شجاعة، ولكني نجحتُ في العيش في ظل الذعر: بكرامةٍ ودون أن يكسرني خوفي، فقد صادقته على أمل الانتصار عليه، والالتفاف على أثره اليومي في حياتي.

أنظر حولي، أرى المحيطين بي وهم يواجهون معاركهم اليومية، من اقتلاع من بلد أحبوه وعناء يومي داخل البلد، من صبر على الفقد ومواجهة آلة القمع، وأفكّر: لعل هذه هي الشجاعة الحقة، أن نصاب بالذعر وأن نكمل طريقنا رغماً عن الخوف، وربما برفقته أحياناً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard