في الشريط الفني لمسيرة العبقري عادل أدهم كثير من المشاهد التي تدل على مدى براعة هذا العملاق في القدرة على الانسلاخ من عادل أدهم الإنسان ليعيش حيوات جديدة مع شخصيات صنعها بدمه وروحه لتعيش معنا عمراً طويلاً.
في هذا الشريط الحياتي، الممتد من العام 1928 إلى العام 1996 تبقى كثير من المشاهد حاضرة ومؤثرة، باستثناء تلك البقعة السوداء المحذوفة من الشريط، والتي امتدت لنحو 15 عاماً، اعتزل فيها عادل أدهم أي نشاط فني بعد صفعة قوية تلقاها من نجم المرحلة أنور وجدي.
على شاطئ الإسكندرية وكما يروي لنا الكاتب الصحافي محمود ربيع، الذي يجهز كتاباً عن مسيرة النجم الكبير، بدأ أول الخيط في الحكاية، حين راح عادل أدهم، المولود لأب من أصول تركية وأم يونانية، يمارس عادته اليومية بالتجول على الشاطئ قبل أن يلمحه المخرج عبدالفتاح حسن، والذي اعتقد للوهلة الأولى أنه واحد من أبناء الجاليات الأجنبية، فيما زادت سعادته أضعافاً حين علم بأنه مصري. في هذا اليوم ودون أي مقدمات وجد عادل أدهم نفسه على أول طريق الفن حين أشار عليه "حسن" بأنه يزوره في القاهرة حتى يسند إليه دوراً جديداً في فيلم يستعد لتصويره.
يتابع ربيع: "وقتها فرح عادل، وتهلل لهذا الاقتراح، فقد كان متيماً بالسينما الأمريكية، وينتظر اليوم الذي يأتي ليمضي على خطى أبطالها. حاول عادل أدهم في تلك الأثناء أن يقنع أسرته بالسفر وخوض تجربة التمثيل، وفي النهاية وأمام خوفه من رفض والده أقنع أمه بأن تتستر عليه لحين العودة من الاختبار، على أن تخبر والده بأنه سافر مع الزملاء إلى رحلة للقاهرة. وافقت الأم على الخطة، ونزل عادل إلى القاهرة ليضرب الموعد الأهم في تلك المرحلة، ورغم أن شعوراً بالفشل كان يطارده خلال رحلته إلى الإستوديو للقاء عبدالفتاح حسن، إلا أنه نجح في الاختبار غير أن حسن طلب منه أن يخضع لبعض التدريبات في القاهرة، وهو ما يعني أنه كان بحاجة إلى البقاء لمدة أطول، ويعني أيضاً، بمنتهى البساطة أن سره سيُكشف رغما عنه".
"حين التقى عادل، أنور وجدي صدمه الأخير بعد أن أكد له أنه لا يصلح ممثلاً، وقال له نصاً: (هو كل واحد شكله حلو وعامل شعره يفكر نفسه ممثل، روح يا شاطر مثل قدام المراية في البيت)"
"عاد عادل إلى الإسكندرية واستعان بأمه للمرة الثانية لكن لتقنع والده هذه المرة بأن يجرب ابنهما الذي كان معروفاً في الإسكندرية بتفوقه الرياضي في الجمباز والمصارعة، كرة السلة، والسباحة، مجالاً جديداً عشقه حتى النخاع. بعد فترة من محاولات الإقناع والتوسل وافق الأب، ليعود عادل أدهم من جديد إلى القاهرة، غير أنه لم يكن يتوقع هذه المرة أن أحلامه سوف تتبخر سريعاً، بعد أن تلقى صدمة عمره على أبواب الإستوديو، حين علم أن المخرج عبدالفتاح حسن قد توفي منذ ساعات".
لم يعرف وقتها عادل كيف يتصرف. وقف فقط يراقب تلك الدموع التي تتساقط من عينيه، حتى اقترب منه أحد العاملين في الإستوديو، ودار بينهما حوار قصير انتهى إلى اقتراح بأن يذهب إلى أنور وجدي، الذي عانى ظروفاً مشابهة، لعله يقدم إليه يد العون، وهنا وافق عادل أدهم على الاقتراح بدلاً من أن يعود إلى الإسكندرية يجرجر أذيال الخيبة".
يحدثنا الناقد الفني حسام شلبي: "في تلك الأثناء قاده القدر أولاً إلى المخرج علي رضا، الشقيق الأكبر لمؤسس فرقة رضا للفنون الشعبية، والذي منح أدهم مشهداً في فيلم (ليلى بنت الفقراء) عام 1945 كراقص جمباز، ولأنه لم يحقق الصدى المنتظر، راح يجرب الحل الثاني في مكتب أنور وجدي كشاف النجوم الأول آنذاك، حيث انتظر عادل لساعات، وحين التقى وجدي صدمه الأخير بعد أن أكد له أنه لا يصلح ممثلاً، وقال له نصاً: (هو كل واحد شكله حلو وعامل شعره يفكر نفسه ممثل، روح يا شاطر مثل قدام المراية في البيت)".
أشعلت كلمات أنور وجدي النيران في مشاعر عادل أدهم، فصنعت ثقباً في منتصف الروح تسربت منه الأحلام والآمال ليجد عادل أدهم نفسه على أرض الواقع بين خيارين: البقاء في القاهرة محفوفاً بالمخاطر، والعودة المضمونة إلى الإسكندرية، لكنها ستبقى تذكره بخيبة أمله.
يكمل شلبي: "عاد عادل من جديد إلى علي رضا يطلب منه العون ليضمه الأخير إلى فرقة راقصة تقدم عروضها في عدد من الأفلام ليطل عادل أدهم على الجمهور كراقص بدلاً من أن يقف أمام الكاميرا كممثل، ولأنه لم يجد نفسه في تلك المهنة قرر أن يعود أخيراً إلى الإسكندرية، وينهي رحلته مع التمثيل إلى الأبد. مع عودته إلى بيته عرف اليأس والاكتئاب الطريق إلى قلب عادل أدهم، وكان أول ما فعله أن تخلص من شعره الجميل، لسببين، الأول أنه شعره هو الذي وقف عائقاً أمام دخوله السينما كما قال له أنور وجدي، أما السبب الثانى فهو أنه سيضطر مجبراً على عدم الخروج من المنزل حتى لا يراه أحد على تلك الحال، خصوصاً وأنه بدا أكبر من عمره بسنوات طوال".
مرت الأيام طويلة على عادل أدهم حتى وقع في يديه كتاب "دع القلق وابدأ الحياة" للكاتب الأميركي ديل كارينغي، فكان القطرة التي أفاضت الإناء، وجعله يخرج من عزلته إلى دنيا البشر، بحسب حسام شلبي الذي أضاف: "كان يفكر وقتها في المجال الذي سيقتحمه بعيداً عن عالم الفن، فافتتح له والده مرأباً للسيارات يشرف عليه بنفسه، غير أنه مل سريعاً من تلك المهنة لأنه لم يجد نفسه فيها، وفي ليلة صيفية التقى بعض من زملاء الدراسة الذين نصحوه بأن المستقبل كله في بورصة القطن. وعلى الرغم من أن عادل لم يكن من هواة التجارة إلا أنه دخل المجال لينافس أصحابه بعد أن سخروا بأنه إذا انضم إليهم في تلك المهنة سيُطرد منها بعد أيام، لكن المفارقة أن عادل أثبت نفسه فيها بجدارة واستمر بها نحو 15 عاماً".
وعن تفاصيل تلك الأعوام قال المؤرخ الفني عادل الشافعي: "بدأ عادل عمله في البورصة كمسؤول عن الفرز وانتقاء القطن وتصنيفه بحسب جودته، ورغم أنها مهنة صعبة إلا أنه أثبت نفسه فيها بكفاءة كبيرة حتى أنه في ظرف شهور معدودة بات من أشهر من يفرز القطن في البورصة كلها، وزاد مرتبه من جنيهات معدودة إلى 150 جنيهاً، وهو مبلغ كبير وقتها كفل له شراء شقة كبيرة وسيارة من طراز جيد".
بدأ عادل عمله في البورصة كمسؤول عن الفرز وانتقاء القطن وتصنيفه بحسب جودته، ورغم أنها مهنة صعبة إلا أنه أثبت نفسه فيها بكفاءة كبيرة حتى أنه في ظرف شهور معدودة بات من أشهر من يفرز القطن في البورصة كلها
ويضيف: "في تلك الفترة كان هناك من بين من عرفهم عادل وتعامل مهم شخص واحد فقط يتبعه كعباد الشمس، وهو ملك القطن فرغلي باشا، الذي عُرف عنه قدرته الكبيرة على تحقيق المكاسب في البورصة بأسهل الطرق، فقلده عادل في ملابسه الفخمة وطريقة قيادته للسيارة وحتى في نوع العطر الخاص به".
من أكثر الصفات التي عُرف بها عادل أدهم أنه لم يكن من أولئك الذين يرضون سريعاً عن نجاحاتهم، بل كان في كل مرة يؤكد لنفسه وغيره أنه لم ينجح بعد، وأنه في انتظار المزيد، وربما ساعدته تلك الصفة على أن يرتقي سريعاً بين جنبات بورصة القطن، حتى أصبح واحداً من أشهر المُحكمين في النزاعات التي تنشأ فيها بين كبار التجار، وذاع صيته في عموم الإسكندرية.
يواصل الشافعي: "صحيح أن عادل أدهم كان يصب كل تركيزه في تلك الفترة على أن يرتقي في بورصة القطن، لكنه أيضاً كان يراقب كل المحيطين من عمال وشيالين، وعربجية، وقال سابقاً إنه استوحى من النماذج التي صادفها في تلك الفترة الشخصياتِ التي قدمها في أعماله. في عام 1961 حدث تحول مهم آخر في حياة عادل أدهم، حيث تم تأميم البورصة، وبدأت أحواله المادية تتراجع، ما كان يعني بالضرورة البحث عن مهنة أخرى".
وهنا جاب الإسكندرية شرقاً وغرباً بحثاً عن وظيفة تؤمن له العيش بشكل كريم، لكنه لم يجد. عند ذلك تدخل الأصدقاء من جديد، وأوصوه بالسفر إلى الخارج، وكما جرى سابقاً استجاب للنصيحة، واختار الرحيل إلى ألمانيا، لكن إنهاء الأوراق الخاصة بالسفر كان يتطلب زيارة القاهرة للحصول على موافقة بالسفر. واستغل عادل فترة تواجده هناك لزيارة أصدقائه ومنهم علي رضا، الذي فوجئ به يجلس مع السيناريست محمد عثمان، والذي طلب منه المشاركة في فيلم جديد يجهز له، غير أن عادل رفض وأخبره أنه "طلق الفن بالتلاتة"، خصوصاً أن عمره اقترب من 33 عاماً، وهو ما يعني أنه تخطى مرحلة الفتى الوسيم المسيطر على أبطال السينما في ذلك الوقت.
لكن أمام إلحاح علي رضا عاد الحلم القديم يداعب خيال عادل الذي وجد نفسه بين ليلة وضحاها أمام المخرج أحمد ضياء الدين يجري اختباراً اجتازه بنجاح لينضم إلى أبطال فيلمه "هل أنا مجنونة؟"، الذي أقنع نفسه بأنه إذا فشل فيه فلن يعود إلى الفن مرة ثانية مهما جرى، أما إذا نجح فلن يكمل خطة السفر إلى ألمانيا، وسيبقى في مصر ليحقق حلمه القديم. وكانت المفاجأة أن عادل نجح في الاختبار ليمزق أوراق السفر، ويبدأ مسيرته التي صنع خلالها أسطورة يصعب تكرارها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...