اشتقت إليها؟ لم تزرها منذ سنوات؟ آخر زيارة كانت قبل الثورة، وقبل الانفجار وقبل الليرة والدولار؟ أنت في بيروت لمدة قصيرة، تريد أن تستعيد ذكرياتك فيها، وأن تمشي في طرقاتها، وتزور بحرها، وتشمّ رائحة الزيت والزعتر من فرن قريب.
تدعو أصدقاءك إلى الغداء في أحد المطاعم التي كنت تزورها قبل أن تنقلب الدنيا في بيروت. تتصل بالمطعم، وتحجز طاولةً لأربعة أشخاص وتجهّز نفسك للخروج. تبدّل ملابسك محاولاً قدر المستطاع أن تكون بسيطاً ومبتعداً عن أي بهرجة. لا جواهر، لا ملابس لافتةً، ولا ماركات. تحاول أن تشبه المحيط المستجد من حولك. تجمع الملايين التي صرفتها من السوق السوداء في حقيبة أو في كيس وتحملها معك... إذ لا يمكنك استعمال بطاقات بنكية في بيروت الآن، وكل مئة دولار تدرّ عليك الملايين من الليرات.
اشتقت إليها؟ لم تزرها منذ سنوات؟ آخر زيارة كانت قبل الثورة، وقبل الانفجار وقبل الليرة والدولار؟
عندك ساعتان قبل الغداء، فتقرر أن تنزل لتتمشى قليلاً وتزور بيروت التي صارت، وتقارنها بالتي كانت، وأي مكان أفضل لرؤية الفرق: من الجميزة؛ الشارع الأجمل والأكثر حيويةً والأكثر حياةً في بيروت. لكنك تفاجأ بأن المكان لا يشبه المكان الذي تعرفه. الشارع شبه فارغ، قلة من الناس يمشون على حجارته. على طرفيه محال مغلقة، ودكاكين محطمة تم إغلاق مداخلها بالخشب وبقايا مواد البناء، وبيوت مغطاة بقماش يخفي بؤسها بعد أن أصبحت حطاماً. تبلع غصّتك وتكمل طريقك. تجد مقهى صغيراً، تعن على بالك القهوة، فتدخل لتجد محلاً جميلاً تقوم على الخدمة فيه ثلة من الشباب اللبنانيين. تسرح في وجوههم: هل هم باقون هنا لأنهم يريدون البقاء في لبنانهم؟ أم أنهم لم يجدوا الفرصة للهجرة؟ تطلب فنجان قهوة وتجلس على قارعة الطريق تتأمل المارة، وتحيك حكايات وقصصاً لكل مارّ. لكن في أكثر خيالاتك جموحاً لن تستطيع حياكة قصص هؤلاء الناس الحقيقية.
تقترب منك سيدة خمسينية بكامل وقارها وأناقتها. تلقي عليك "بونجور" اللبنانية، فتظن أنها ستسألك عن محل أو طريق، فتتأهب للرد. تقترب منك وتهمس بصوت لا يكاد يسمع: "أنا تركت ثلاثة أولاد في البيت من دون أكل". تقع عليك صدمة لم تتوقعها في أكثر أحلامك سوداويةً
تقترب منك سيدة خمسينية بكامل وقارها وأناقتها. تلقي عليك "بونجور" اللبنانية، فتظن أنها ستسألك عن محل أو طريق، فتتأهب للرد. تقترب منك وتهمس بصوت لا يكاد يسمع: "أنا تركت ثلاثة أولاد في البيت من دون أكل". تقع عليك صدمة لم تتوقعها في أكثر أحلامك سوداويةً. تحاول أن تفهم، لكن الصمت يبتلعك. تمد لها بما جادت به نفسك، فتقول لك: "ميرسي"، وتذهب في حال سبيلها. يمر أمامك صبي لم يتعدَّ العاشرة من عمره، يحمل كيساً، ووجهه حرقته الشمس والوسخ والفقر. تستوقفه، وتسأله عما يفعله بالكيس، فيقول إنه يشتغل بالبلاستيك. تفهم أنه يتجول بين حارات بيروت من طلوع الشمس حتى غروبها، وهو يجمع عبوات بلاستيكية ليبيعها. تسأله من أين أتى؟ فيقول بعفوية: من البقاع. تعود وتسأله من أين هو؟ فيقول: من الرقة. تسأله إن كان يذهب إلى المدرسة؟ فيرفع يديه قائلاً: "ممنوع، لا يسمحون لنا". تنظر في عينيه وترى بؤس العالم كله.
يكمل سائق التاكسي حديثه وأنت لا تسمعه، فعيناك تتابعان الناس؛ كلٌّ يركض لتأمين عيشه بطريقته. السيارات قليلة في شوارع بيروت، فمن يستطيع تعبئة سيارته بالوقود الذي أصبح كالذهب؟
حان وقت الغداء. تقوم وتطلب سيارة تاكسي من الطريق. يحكي لك السائق عن مآسي الناس، وكيف أنهم يتمنون الموت بدلاً من تلك "اللا حياة"، التي يعيشونها. على الطريق، لوحات جدراية، ومقولات لرؤساء الأحزاب، وصور لأصحاب السلطة أنفسهم، وعباراتهم الجوفاء. على الجدران كتابات ضد السلطة وضد أصحاب السلطة وشتائم نابية، كتابةً ورسماً.
يكمل سائق التاكسي حديثه وأنت لا تسمعه، فعيناك تتابعان الناس؛ كلٌّ يركض لتأمين عيشه بطريقته. السيارات قليلة في شوارع بيروت، فمن يستطيع تعبئة سيارته بالوقود الذي أصبح كالذهب؟ موظفون استقالوا من وظائفهم وجلسوا في بيوتهم بلا عمل، بعد أن أصبحت تكلفة تعبئة خزان السيارة أكثر من معاشهم. على زاوية الطريق حاوية قمامة ضخمة، تمر عليها من دون الانتباه إلى محتواها إلا بعد أن تتعداها. ستدرك أنك رأيت رجلاً بطوله وعرضه يجلس داخل الحاوية. ستسرح بتفكيرك وتتخيل حال ذاك الرجل وحال عائلته وأولاده والسبب الذي دعاه لأن يتسلق تلك الحاوية ويجلس فيها.
تصل إلى المطعم الفخم الذي حجزت فيه طاولةً. أصدقاؤك ينتظرونك على الطاولة في حديقة المطعم التي تطل على الشارع. تنظر حولك: منطقة جميلة راقية وكل ما حولها جميل. حتى الناس حولك (غير شكل)، وكأنك انتقلت من مدينة إلى مدينة أخرى. يأتي النادل بكامل لباقته وشياكته ويأخذ طلباتكم. تعيد النظر في المحيط الجديد الذي أنت فيه، وتقول لنفسك: هذه بيروت التي أعرفها. بيروت الأناقة والرقي، بيروت النساء الفاتنات والرجال الأنيقين. بيروت "الأكابرية". لن تهنأ بما ترى، فما أن تصل صحون الطعام إلى طاولتك، ستمر عليك أفواج وأفواج من الناس من "بيروت الأخرى". المنطقة مقصودة من قبلهم، فهم يعرفون أن إحساس الذنب الذي سيداهمك وأنت تأكل سيخ الكباب، سيغذي عرق الكرم فيك ويجعلك تزيد النفحة. يمر عليك رجل كبير في السن يدفع أمامه كرسياً متحركاً عليه ولد معاق. لن تعرف إن كان ولده أو أنه استأجره لهذه الوظيفة. ستأتيك امرأة تحمل رضيعاً على خصرها طالبةً منك ثمن دواء لابنها. سيصل النادل ويزجرهم ويبعدهم عنك، لكنهم أذكى منه. سينتظرونك بعيداً، وحالما تنهي وجبتك وتقوم، سيكونون في انتظارك خارج محيط المطعم. في البعيد تلحظ مجموعة صبية يتقافزون والشقاوة تتقافز معهم. ينظرون إلى زبائن المطعم ويتضاحكون. يقترب أحدهم من طاولة قريبة منكم، ويتكلم مع أحد الأشخاص ثم يبتعد ليقوم بعمل حركات بهلوانية وجمبازية بينما أهل الطاولة يتضاحكون. يقترب منه صديقه ويسأله: ماذا تفعل؟ فيقول إن الرجل الذي على الطاولة وعده بأن يعطيه 1،000 ليرة إن قام بعمل تلك الحركات.
تبتلع طعامك وكل لقمة بغصة، وبين صحون الفتوش والحمص والكفتة، تبتلع دمعةً تجرأت على رجولتك. تحاول ألا ترى فترى، وتحاول ألا تسمع فتسمع. وهكذا تكون قد شاهدت بأم عينك كل الصفات الإنسانية واللا إنسانية في نصف نهار في نصف مدينة، بكامل الوجع
تبتلع طعامك وكل لقمة بغصة، وبين صحون الفتوش والحمص والكفتة، تبتلع دمعةً تجرأت على رجولتك. تحاول ألا ترى فترى، وتحاول ألا تسمع فتسمع. وهكذا تكون قد شاهدت بأم عينك كل الصفات الإنسانية واللا إنسانية في نصف نهار في نصف مدينة، بكامل الوجع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع