شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
لا يطلب أحد من مريض السكري أن يذهب للصلاة... لماذا نربط الاضطرابات النفسية بالدين؟

لا يطلب أحد من مريض السكري أن يذهب للصلاة... لماذا نربط الاضطرابات النفسية بالدين؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 27 مايو 202212:03 م


تعرضت قريبتي لحادثٍ فقدت فيه ابنها ودخلت بعده في أزمة نفسية شديدة. فقدت رغبتها في الحياة وفي التواصل مع أي شخص. ورغم حالتها المؤسفة، كانت كل نصائح العائلة تشجعها على أن تبقى قوية الإيمان وتثق بأن ما حدث فيه خير لها. كان يعاتبها الجميع على صمتها الدائم ويحثونها على الصلاة وقراءة القرآن. ولم يفكر أحد أنها عليلة الفؤاد ولا تقوى على أي شيء.  

في مجتمعنا، لا وجود للمرض النفسي. هؤلاء هم المدللون البعيدون عن الله، ولا يؤدون فرائضه. فمن يصلي، لا يمكن أن يصاب بالاكتئاب. ومن يقرأ القرآن يجد حلاً لجميع مشاكله. لا يقتنع هؤلاء أن هذه الأمراض هي البوابة التي عبر منها الكثير من الشباب إلى الانتحار. 

في مجتمعنا، لا وجود للمرض النفسي. هؤلاء هم المدللون البعيدون عن الله، ولا يؤدون فرائضه. فمن يصلي، لا يمكن أن يصاب بالاكتئاب. ومن يقرأ القرآن يجد حلاً لجميع مشاكله. لا يقتنع هؤلاء أن هذه الأمراض هي البوابة التي عبر منها الكثير من الشباب إلى الانتحار

اكتئاب الثانوية  

لا أنسى أبداً ما تعرضت له أنا وأصدقائي في مرحلة الثانوية. ففي تلك السنوات التي يجب علينا أن نتجاهل كل الحياة، وأن نضع كامل تركيزنا في الكتب حتى نحصل على مجموع عالٍ يؤهلنا لدخول الكلية التي يحلم بها أهلنا. كنت أنا وصديقتي نجلس في كثير من الأوقات متمنّيتين أن نستطيع الوصول لمحلل نفسي نصب على مسمعيه كل ما بداخلنا من مخاوف وذعر لعله يصف لنا دواء يخلصنا من ضربات القلب الزائدة والتوتر الدائم. 

تخبرني صديقتي أنها مصابة بالاكتئاب. تضحك قائلة: "لو لم أحصل على مجموع كبير، سأنتحر، سألقي بنفسي من البلكونة". أشاركها الضحك، ونظل نفكر في طرق مختلفة للانتحار، ثم نكرر تلك الجملة التي كنا نسمعها دائماً: "لا وقت لهذا الدلع". 

أخبرُ شقيقتي الكبرى أنني مللت، ولا أقدر على مواصلة المذاكرة. تنظر إليّ تلك النظرة المعاتبة التي تخبرني فيها أنّ لا فائدة من الامتعاض والتذمر. ثم تكتب روشتتها: "قومي صلّي ركعتين واقرأي شوية قرآن. ربنا إن شاء الله هينور مخك". 

لا يفهم الأهل أنّ هناك ما يجعل العقل والقلب يتوقفان، ولا يستوعبان أي جديد. فبعد أن انتهيت من دراسة الإعلام، وقبل أن أسافر إلى القاهرة للبحث عن عمل، مررت بمرحلة صعبة جداً. جلست خلالها في غرفتي وحيدة. لم أقدر على الخروج ولم أحب الحديث. كنت فقط أواصل النوم ساعات طويلة. ورغم هذه الأعراض الواضحة للاكتئاب، كانت الحلول الممكنة والمقترحة هي أن أقترب من الله، وأنْ أثق أن هذه الأزمة ستحل قريباً، إضافةً إلى عدم الاستسلام للشيطان. 

أخبرُ شقيقتي الكبرى أنني مللت، ولا أقدر على مواصلة المذاكرة. تنظر إليّ تلك النظرة المعاتبة التي تخبرني فيها أنّ لا فائدة من الامتعاض والتذمر. ثم تكتب روشتتها: "قومي صلّي ركعتين واقرأي شوية قرآن. ربنا إن شاء الله هينور مخك"

أمراض لا يُعترف بها  

من غير الممكن أن تجد أحدنا يطلب من مريض السكري أو الضغط أن يذهب للصلاة، بل نحثه فوراً على الذهاب للطبيب لعلاجه سريعاً حتى لا تتفاقم علته. ولكن عندما تنهار قلوبنا أو تُثار أعصابنا وندخل في نوبات بكاء مزمنة أو فترات من النوم القهري، تجد الجميع يصف لك نفس الدواء دون الحاجة لطبيب. 

عندما أنجبت صديقتي طفلتها الأولى، تعرضت لاكتئاب ما بعد الولادة. كانت تبكي بشكل متواصل ولا تريد النظر حتى إلى ابنتها. استمر الأمر معها فترة طويلة. نصحتها بأن تذهب لطبيب عندما زرتها بعد ولادتها. وهناك، كانت خالتها التي كان لها رأي آخر. 

ظلت خالة صديقتي تعاتبها على ما تفعله لأنها لا تقدر نعم الله عليها، فقد منحها ابنتها ولم يمنح غيرها من العاقرات. قالت لها: "احمدي الله على نعمه. هل ستكفرين؟! صلّي وصومي شكراً له على نعمه. أنت لا تقدّرين ما أنت فيه. وربنا سيغضب عليك وسيحرمك من نعمته". زاد بكاء صديقتي ولم أستطع أن أرد على الخالة وأخبرها أن ما تمر به هو حالة نفسية معروفة. فكنت أعرف أنني مهما قلت، لن تقتنع المرأة الخمسينية بعكس ما تؤمن به. ظلت صديقتي على حالتها حتى خرجتْ منها رغماً عنها عندما جاءت حماتها، التي بدورها ظلت تنهرها. وأعطتها طفلتها ولقمتها ثديها عنوة بأمر من والدة الزوج التي ظلت تقول: "بنات آخر زمن". 

"هاتولها شيخ يقرألها قرآن". هذا أول مقترح سمعته ممن حولي عندما تعرضت جارتي لأزمة نفسية مفاجئة.

هي الصديقة نفسها التي تعرضت للإهانة والضرب على يد زوجها البخيل الذي طردها من المنزل، ولم يرد الإنفاق عليها وعلى ابنتهما. كانت تنهار وهي تحكي لي عن تصرفاته "غير الآدمية" معها، وعن رغبتها في التخلص من حياتها. وعندما طالبت بالطلاق وصممت عليه، رفضت العائلة. وفي النهاية، طلبت منها والدتها أن تؤدي صلاة الاستخارة ليختار لها الله، رغم أنّ الأمر كان واضحاً لا جدال فيه ولا حيرة.  

"هاتولها شيخ يقرألها قرآن". هذا أول مقترح سمعته ممن حولي عندما تعرضت جارتي لأزمة نفسية مفاجئة. كانت تخرج من المنزل ليلاً، وتصرخ وتقول إنها ترى أشياء لا يراها غيرها. وكان من الطبيعي بالنسبة إلى أهل القرية أن يصدقوا أن عملاً "معمول لها"، وأن الحل المثالي لحالتها هو أن يأتي شيخ ليقرأ لها آيات من القرآن ويدعو لها حتى تخرج من تلك الحالة التي أقلقت أسرتها. 

لم يفلح الشيخ في علاج الجارة التي ساءت حالتها. وكانت تصرخ من وقت إلى آخر بشكل مستمر، بطريقة تثير الفزع في من حولها. نصحتُ والدتها أن تذهب بها لطبيب نفسي. ضحكت وقتذاك، وقالت لي إن الأطباء النفسيين نصابون ولن يكون لديهم أي علاج. كانت المرأة المسنة مقتنعة لدرجة أنني لم أستطع مواصلة النقاش معها. وكنت أشعر بالأسف لهؤلاء الأطباء الذين أنفقوا الكثير من سنواتهم في الدراسة بينما لا يعترف بهم عدد كبير من الناس. 

هذه الحالات أراها حولي بين الحين والآخر لأناس يعتقدون أنّ من يعاني من أمراض نفسية هو شخص إيمانه ضعيف. يكررون عليه هذه العبارة حتى يزداد مرضه، ويصبح قليل الحيلة في مجتمع لا يفهمه ولا يرأف به

السيناريو نفسه حدث في العمل مع زميلة لي اتعاني من رهاب الموت دون أن تعرف. فبعد أن رأت عمها الراحل، وودعته قبل دفنه، تعرضت لحالة نفسية سيئة. ترى الكوابيس باستمرار وتخاف من الموت، وتشعر أنه سيأخذها في أي وقت. وتخاف على أولادها خوفاً مرضياً. مع تدهور حالتها، ذهبت إلى الطبيب سراً. قالت لي إن أهلها لن يقتنعوا بذهابها للطبيب وسيتهمونها بضعف الإيمان. كانت تأتي إلى العمل ومعها بعض الأقراص التي تتناولها بعيداً عن زوجها - الذي كان حتماً سيسخر منها.  

هذه الحالات أراها حولي بين الحين والآخر لأناس يعتقدون أنّ من يعاني من أمراض نفسية هو شخص إيمانه ضعيف. يكررون عليه هذه العبارة حتى يزداد مرضه، ويصبح قليل الحيلة في مجتمع لا يفهمه ولا يرأف به. 



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image