صباح يوم الأربعاء الحادي عشر من أيار/ مايو الجاري، استيقظتُ وبدأت يومي بالعادة التي أكره؛ فتحت حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي لأرى آخر الأخبار، لا أخبار كندا بل أخبار البلاد. نحن لا نحتاج إلى شرح أي بلاد نقصد عندما نقول البلاد، ولا أحتاج إلى قدرات مميزة للتوقع كي أستشعر أن أخبار البلاد ستعكر بداية صباحي. مع ذلك، لا زال شيء داخلي لا يستطيع بدء يوم جديد من دون معرفة الأخبار. بالرغم من التوقع بأن معظم الأخبار ستكون بائسة، ما زالت هناك مساحة فينا للدهشة أمام الفواجع الجديدة، وحتى الفواجع القديمة.
ذاك الصباح، لم أكن أتوقع أن فيديو اغتيال صحافية لم أشاهد تقاريرها منذ سنوات، سيولّد فيّ ذاك النوع من الحنين الحزين. كان حزناً على فقدان وجه وصوت لم أدرك حجم حضورهما في وجداني من قبل. إذاً، صحوت لأشهد اغتيال شيرين أبو عاقلة بالصوت والصورة. شاهدت الفيديو كما لو أني أرى اغتيالاً لجزء من ذاكرتي.
نحن لا نحتاج إلى شرح أي بلاد نقصد عندما نقول البلاد، ولا أحتاج إلى قدرات مميزة للتوقع كي أستشعر أن أخبار البلاد ستعكر بداية صباحي.
في السنوات الماضية وحتى في الأسابيع القليلة الماضية، شهدنا موتنا الجماعي في الكثير من الفيديوهات الموثقة؛ مجازر وإعدامات ووجوه مألوفة إلى حد أنه اختلطت ملامح وجوه الشهداء مع ملامحنا ووجوهنا. لكن اغتيال شيرين خلّف شعوراً مختلفاً لدي. كان حزناً ثقيلاً لكنه لم يكن ممزوجاً بثقل العجز، كان ممزوجاً بثقل الذاكرة. شيرين من الأشخاص الذين يشكلون لنا جذوراً صلبةً لنتذكر من نحن. أشخاص يعيدون لنا ترتيب الأولويات لنعيد تعريف أولويات البقاء والنجاة في عالم ساده الظلم والظلمات.
لا أذكر آخر مرة شاهدت فيها نشرة أخبار على الجزيرة. الجزيرة كالكثير من المحطات والمنصات والشخصيات فقدت مكانتها لدى الكثيرين منا، بعد انطلاق الثورات العربية. لكن الأثر الذي تركته شيرين كان أكبر من حجم المؤسسة التي عملت فيها. شيرين قدمت لي، كما لكثيرات من النساء والفتيات في العالم العربي، نموذجاً شجاعاً لامرأة وفية للحقيقة وشغوفة بعملها. الحزن والحب اللذان تدفقا من كل صوب عندما عرفنا أن صوت شيرين رحل من عالمنا، أثبتا لنا أن من بيننا أشخاصاً تركوا أثراً أكبر من المؤسسات وحتى أكبر من الدول.
في السنوات الماضية وحتى في الأسابيع القليلة الماضية، شهدنا موتنا الجماعي في الكثير من الفيديوهات الموثقة؛ مجازر وإعدامات ووجوه مألوفة إلى حد أنه اختلطت ملامح وجوه الشهداء مع ملامحنا ووجوهنا. لكن اغتيال شيرين خلّف شعوراً مختلفاً لدي
كثر هم الذين قدموا الرثاء لشيرين، لكن السيدة أم أحمد فريحات من مخيم جنين رثتها بحرقة سمعت فيها أصوات كل الأمهات. قالت أم أحمد في رثاء شيرين: "انجنت عليها جنين، لحقت دلال المغربية". مع هذه الجملة عادت إلي صورة الشهيدة دلال المغربي على باب خزانتي عندما كنت فتاةً في مطلع المراهقة في مخيم اليرموك في جنوب دمشق. صورة دلال ضاعت بين صور الشهداء والشهيدات اللذين واللواتي ودعتهم/ ن منذ ذاك الوقت وحتى اليوم. استشهاد شيرين وصوت أم أحمد أعادا إلي ذاكرتي المشوشة عن نوع النساء اللواتي كُنّ قدوةً لي في طفولتي.
بعد سنوات من بدء الثورات في العالم العربي، حكايات جنين ومجازر جنين أصبحت ذكرى بعيدةً، فقد تهنا في تعداد المجازر ووجوه القتلة اختلطت ما بين محتل وحاكم.
استشهاد شيرين التي سردت لنا حكايات اجتياح جنين عندما كنا صغاراً، كان على بوابة جنين. بعد سنوات من بدء الثورات في العالم العربي، حكايات جنين ومجازر جنين أصبحت ذكرى بعيدةً، فقد تهنا في تعداد المجازر ووجوه القتلة اختلطت ما بين محتل وحاكم. منذ جنين وحتى اليوم، شهدنا موتنا مرات عدةً واكتشفنا ما كان أقسى من الموت، اكتشفنا المصير المجهول والغياب ونكران العالم لألمنا. كل ما كان حاضراً مع صوت شيرين غاب؛ البيت والمخيم وأبي الذي كان يعلّي صوت نشرة الأخبار كلهم غابوا.
ربما الذي لم يتغير كثيراً هو أحلام طفولتي. أحلام الطفولة كانت معجونةً بأحلام الخلاص من الظلم، لكن الظلم حين طفولتنا كان مختصراً بالاحتلال والاستعمار. براءة الطفولة والتلقين الذي كنا نتلقاه من الإعلام والمدارس، كانا يرياننا أن الشر يأتي فقط من الآخر، أما الآن فلقد شهدنا أنّ الشر الذي أتى من أبناء جلدتنا كان أشد وطأةً.
ما زلنا الآن نحتفظ ببعضٍ من رواسب طفولتنا المشبعة بذاك التلقين. ما زلنا نندهش من اختلاط القضايا وتقاطعيتها وكلما ازدادت معرفتنا بتقاطعية معاركنا للبقاء وتعقيداتها كلما يجتاحنا ازدراء للزمن الذي كنا اختصرنا معاركنا فيه على أنها معارك مع الآخر. الوعي الذي أتانا مع خبرة السنين وصحوة الثورات وخيبات ما بعد نشوة اللحظات الأولى للثورة، جعلتنا مشدوهين من قسوة بلادنا وعاجزين عن استيعاب بطش أولئك الذين تقاسمنا معهم الشوارع والرغيف ومقاعد الدراسة. نحن الآن نجد أنفسنا مشتتين بين القضايا، القضايا التي خسرنا فيها قطعاً من أرواحنا وعوائلنا وأصدقائنا وذكرياتنا. نحن الآن نحارب المحتل والمستعمر وما تركه المستعمر فينا. نحن الآن نحارب من أجل النسوية والحرية والمساواة. نحن الآن نحارب من أجل مكان لنا في المنفى الذي يصنّفنا كأقلية. نحن نحارب لنجد مكاناً لنا في هذا العالم نعيش فيه الحرية والحب من دون الغرق في تعقيدات ما صرنا عليه.
ربما الذي لم يتغير كثيراً هو أحلام طفولتي. أحلام الطفولة كانت معجونةً بأحلام الخلاص من الظلم، لكن الظلم حين طفولتنا كان مختصراً بالاحتلال والاستعمار. براءة الطفولة والتلقين الذي كنا نتلقاه من الإعلام والمدارس، كانا يرياننا أن الشر يأتي فقط من الآخر، أما الآن فلقد شهدنا أنّ الشر الذي أتى من أبناء جلدتنا كان أشد وطأةً
الحب الذي فاض في شوارع القدس يوم وداع شيرين، أعاد إليّ أملاً جميلاً، فمؤخراً بات الأمل قاسياً لكم الأمل الذي رأيته في وداع شيرين. كان أملاً لطيفاً. جنازة شيرين كانت زفةً من الفخر والغصة. المشيعون كانوا شجعاناً. جنازة شيرين أعادت إلى موتنا اعتباره، وذكّرتنا بأن حياتنا غالية لها قيمة ومعنى بعدما طغى اليأس علينا. الحياة التي لا تقاوم لا تستحق أن تعاش والموت الذي لا يفزع الطغاة هو الموت الحقيقي. كان وداعها يليق بما قدمت لنا، فهي التي علمتنا أن قول الحقيقة يستحق خوض كل المخاطر، وهي القائلة: "اخترت الصحافة كي أكون قريبةً من الإنسان... وليس سهلاً أن أغيّر الواقع؛ لكنني على الأقل كنت قادرةً على إيصال ذلك الصوت إلى العالم".
جنازة شيرين أعادت إليّ معنى الجدوى، فكل خبر من البلاد يزيد شعورنا بالعجز. نعيش في صراع مع أنفسنا حول ما إذا كانت نجاتنا حقيقةً، وإن كنا لم ننجُ فكيف لنا أن ننجو؟
شيرين زُفّت على أكتاف من تحملوا عنف شرطة الاحتلال. شيرين زُفّت بين جموع شعب بأكمله، شعب بكاها وأحبها كما يليق بها، فصوتها الذي كان جزءاً من بيوتنا هو جزء من حكايتنا كأفراد قبل أن نكون جماعةً.
اغتيال شيرين أعاد إليّ القدرة على ترتيب ذاكرتي، ذاكرتي عن البلاد. تلك الذاكرة المشوهة والمشتتة بين صور المجازر خصوصاً تلك المجازر التي لم تسرَّب صورها بعد. جنازة شيرين أعادت إليّ معنى الجدوى، فكل خبر من البلاد يزيد شعورنا بالعجز. نعيش في صراع مع أنفسنا حول ما إذا كانت نجاتنا حقيقةً، وإن كنا لم ننجُ فكيف لنا أن ننجو؟ ما الجدوى من الكلام ومن المقاومة إن لم نكن نستطيع أن ننقذ أولئك الذين لم ننقذهم؟ ما الجدوى من البقاء إن كنا أضعنا طريق الخلاص؟
الحب الذي رافق شيرين حتى احتضنها تراب أرض القدس، والفزع الذي أشعله هذا الحب في قلوب قتلة شيرين، هما الجدوى. الحب الذي يأتينا من أولئك الذين تقاسمنا الخسارات والأوجاع معهم، هو الجدوى، وهو تعريف لمعنى حياة تستحق أن تعاش. هذا الحب الذي يفزع الطغاة هو الجدوى الأجمل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...