لم يكن خبر اغتيال الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة خبراً عاديّاً لأسباب كثيرة، منها أنها ظلّت واقفة طوال ربع قرن وسط الأحداث الملتهبة على خط تماس الجيش الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، وأنها كانت أحد أهم المصادر لنقل الخبر والصورة مصحوبَيْن بالتعليق والتحليل وكشف الأسرار، إذ شهدت نزاعات مسلحة سقط فيها قتلى وجرحى، خاصة في ما عُرف بـ"انتفاضة الحجارة" التي تابعها العالم بتفاصيلها اليومية، وأنها كانت مراسلة لأهم قناة إخبارية عربية –بصرف النظر عن اختلاف الرأي حولها- وهي قناة الجزيرة القطرية، علاوة على أنها نقلت بحياد ومهنية شديدين، شهد لها بهما الجميع، وأخيراً لأنها اغتيلت وهي ترتدي قميصها الواقي من الرصاص لتؤدي عملها.
لكلّ هذا، لم يكن مستغرباً أن تُلوِّنَ صورها مواقع التواصل الاجتماعي مع الساعات الأولى ليوم الأربعاء، في الحادي عشر من أيار/ مايو، إثر انتشار خبر وفاتها، مع موجة حزن وغضب عارمة، وتعليقات تليق بتاريخها المهني.
لكن هذا المشهد الحزين لم يستمر سوى ثلاث إلى أربع ساعات، وبدأ بعدها جدال من نوع جديد، جدال يشبه الثقافة العربية وانقساماتها ودروبها...
ظهور الأصولية
طوال حياتها المهنية، وخلال الساعات الأولى بعد اغتيالها، لم يكن موضوع انتماء شيرين أبو عاقلة إلى دين بعينه مطروحاً. على الرغم من متابعتي لها بدقة طوال سنوات، فإن سؤال الدين لم يخطر ببالي على الإطلاق، لأنه ليس سؤالاً مركزياً، فأمر دينها يخصها وحدها. لكن فجأة، ظهرت موجة تدوينات تحرِّم الترحّم عليها لأنها مسيحية، وتنادي بعدم جواز وصفها بـ"الشهيدة"! لأن الشهيد في عقيدة المسلمين هو مَن مات (من المسلمين فقط) في سبيل الله.
هذا الرأي أصبح معتاداً في السنوات الأخيرة، وطال كثيرين من النابهين من غير المسلمين، وأشهرهم طبيب القلب العالمي المعروف مجدي يعقوب الذي أسس في أسوان، جنوبي مصر، مع آخرين مؤسسة لأمراض وأبحاث القلب عام 2008، وهي منظمة خيرية غير حكومية تعتمد بالكامل على التبرعات. ومن وقت إلى آخر يدور السجال حول يعقوب وإنْ كان سيدخل الجنة أم النار!
بل لم يَسْلَم مسلمون جاهروا بالشهادة من هجوم الأصوليين وتحريم الدعاء لهم بالرحمة، كما حدث منذ ثلاثة أشهر تقريباً إثر وفاة سيّد القمني، أحد دعاة تجديد الخطاب الديني.
الرأي الأصولي الذي يرفض الترحّم على الصحافية شيرين أبو عاقلة ليس نبتاً في فراغ، فهو يستند إلى آراء فقهية "معتبرة" يجاهر بها شيوخ معروفون، قدماء ومحدثون
الرأي الأصولي ليس نبتاً في فراغ، فهو يستند إلى آراء فقهية "معتبرة" يجاهر بها شيوخ معروفون، قدماء ومحدثون، من ابن تيمية الذي قال في "مجموع الفتاوى": قال تعالى في سورة الأعراف (55): {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} في الدعاء، ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل العبد ما لم يكن الرب ليفعله، مثل: أن يسأله منازل الأنبياء وليس منهم، أو المغفرة للمشركين ونحو ذلك، إلى ابن باز الذي يقول: الترحم على أموات الكفار لا يجوز، سواء كانوا من اليهود والنصارى، أو كانوا من غيرهم، لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (التوبة: 113). ولقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار".
ومن المعروف أن الأصوليين الإسلاميين يعتبرون أهل الكتاب كفاراً، ويسحبون عليهم كل ما ورد في القرآن بخصوص الكفار، وهم يستندون إلى الآية التي تقول: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (البقرة: 105)، وهو رأي يجاهر به مشاهير شيوخ الأزهر علانية على الفضائيات.
أبو تريكة يُقحَم في السجال
لاعب الكرة الشهير محمد أبو تريكة، الذي يدور دائماً حديث حول انتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين، أُقحم في مشهد اغتيال شيرين أبو عاقلة، فقد تداول كثيرون صورة منشور منسوب له يقول فيه: "شيرين مسيحية نعم، والغالب يظنونها مسلمة فيترحمون عليها بدون قصد، وإنْ كان الترحم غير جائز شرعاً فإن الاحترام والتقدير مثبتٌ بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حين وقف وقام لجنازة يهودية، فإننا نترك كل جدال أمام هيبة الموت، وأمام عظمة الموقف، ومَن أراد أن يوعي الناس فليفعل بلباقة وأدب ويراعي الظروف والوقت والحالة، وليجعل جلب المصلحة فوق درء المفسدة".
منشور أبو تريكة كان منشوراً مفبركاً، وأغلب الظن أن شخصاً ما أراد ترويج هذا الرأي بنسبته إلى شخصية مشهورة، وكان له ما أراد، حتى أن كثيرين من الأدباء والكتاب والمثقفين تداولوا المنشور على أنه حقيقة، وإنْ بغرض التهكم عليه!
تديين المجتمع المصري
لن يجد المتابع سجالاً دينيّاً أصوليّاً بهذا الشكل الذي هو عليه في مصر، فحالة تديين المجتمع المصري في هذه الفترة غير مسبوقة، والحديث عن الحلال والحرام والإيمان والكفر يغطي على ما سواه، بشكل يومي وفي الموضوعات العادية، لكنه "ينفجر" في أحايين كثيرة بشكل أصبح محفوظاً ومعتاداً، في مناسبات مثل وفاة كتاب ومفكرين علمانيين وقادة رأي أمثال نوال السعداوي وسيّد القمني، لا بل إن كثيرين يستخدمون فعل "نَفَقَ" فلان، في نقلهم لخبر الموت، وهو فعل يُستخدم للحيوان.
"حالة تديين المجتمع المصري في هذه الفترة غير مسبوقة، والحديث عن الحلال والحرام والإيمان والكفر يغطي على ما سواه، بشكل يومي وفي الموضوعات العادية، لكنه ‘ينفجر’ في أحايين كثيرة بشكل أصبح محفوظاً ومعتاداً"، كما حصل بعد مقتل شيرين أبو عاقلة
وظهر مصطلح "جهاد الهاها"، لأن المنتمين إلى تيارات الإسلام السياسي المختلفة يعلقون بالمئات والآلاف على تدوينات نعي العلمانيين بإيموشن ضاحك.
سجال حول الفاعل
سؤال "مَن الذي قتل شيرين أبو عاقلة؟" طُرح بقوة أيضاً، لكنه لم يكن مطروحاً، بكل أسف، بغرض البحث والمعرفة والتدبر.
بعض الأصوات راحت تتداول فكرة أن جهات كثيرة –ليس بينها الجيش الإسرائيلي- لها مصلحة في التخلص من شيرين أبو عاقلة، وذلك في محاولة لصرف النظر عن الجيش الإسرائيلي، أو على الأقل لاستدعاء متهمين آخرين. والإسلاميون طُرحوا كأول المتهمين، ليس إلا بسبب العداء المبدئي معهم، والذي يذهب إلى مخالفتهم في أي شيء، حتى لو كانوا على حق!
الغريب في موقف مَن تعجَّلوا في تحويل الأنظار عن تورط جنود إسرائيليين في تنفيذ اغتيال أبو عاقلة أنهم بدوا ملكيين أكثر من الملك، فقد أفادت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية نفسها، مساء الأربعاء، بأن تحقيقاً أوليّاً للجيش الإسرائيلي كشف أن بعض رصاصات جنود وحدة "دوفدوفان" أطلقت باتجاه الشمال حيث كانت تتواجد المراسلة الصحافية، وذكرت أن أبو عاقلة كانت على بعد 150 متراً لحظة استهدافها، وقد أطلقت وحدة دوفدوفان عشرات طلقات الرصاص.
في النهاية
حادث اغتيال إنسان يؤدي عمله المهني، دون أن يكون طرفاً أصيلاً في أي نزاع، ودون أن يحمل سلاحاً أو يشكل تهديداً لأي أحد، هو عمل بشع ومجرَّم في كل القوانين والمواثيق والأعراف والأديان، وهو موضوع إنساني في الأساس من الطبيعي أن يستحوذ على مشاعر كل الناس من كل الاتجاهات والانتماءات، فكل الخلافات من المفروض أن تتضاءل أمام الحدث الجلل.
وإذا كان الهدف هو صحافية بحجم شيرين أبو عاقلة، فإن الأمر يزداد أهمية، لأنها ضحّت بنفسها من أجل نقل الخبر على الهواء مباشرة، ولأن انحيازها الأول والأخير كان للحقيقة، ولقواعد المهنة التي قضت عمرها تعمل فيها، لكن العقل العربي له انحيازاته التي تعلو على الإنسانية نفسها... في ما يبدو!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...