شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
طبّاخ الخليفة... حكايات عن المسؤول الأول عن صحة السلطان في التاريخ الإسلامي

طبّاخ الخليفة... حكايات عن المسؤول الأول عن صحة السلطان في التاريخ الإسلامي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 21 يوليو 202209:57 ص


على مدار التاريخ العربي الإسلامي، احتلّ طباخو السلاطين أهميةً كبيرةً، كونهم المسؤولين عن غذاء الحكام وسلامة صحتهم، ولذلك كان من الطبيعي أن يُختاروا بعناية ووفق معايير عدة، منها الأمانة والبراعة في الطبخ.

الأمويون... الخليفة يختار صاحب المطبخ

ثمة ألقاب عدة أُطلقت على مَن يقوم بتحضير الطعام وتقديمه للخلفاء، منها "صاحب المطبخ"، أو "القيّم على الطعام"، أو "صاحب الطعام والشراب"، أو "صاحب المائدة".

ووُضعت شروط عدّة لصاحب الطعام من أجل العمل في مطابخ الخلفاء، بحسب عبد الحليم علي رمضان، في دراسته "مطبخ الخاصة في الأندلس في العصر الأموي"، منها أن يتّصف باللباقة، وأن يتحلى بالأمانة والعقل، وأن يكون نظيفاً وحريصاً على صحة الخليفة، فينصحه بالابتعاد عن الأطعمة التي لا تناسبه، والتي قد يكون فيها ضرر عليه.

وراح الخلفاء الأمويون يستعينون بطباخين بعد اختلاطهم بالثقافات والحضارات المختلفة، مثل البيزنطية والفارسية. وكان الطهاة يقدّمون أنواعاً مختلفةً ومتنوعةً من الأطعمة على موائد الخلفاء، حتى اشتهر عدد كبير منهم بالنهم والبطنة، وذكر القُصاص عن الخليفة معاوية بن أبي سفيان، أنه كان يقول: "يا غلام، ارفع، فوالله ما شبعت ولكن مللت"، حسب ما ذكرت بلقيس شرارة، في كتابها "الطباخ: دوره في حضارة الإنسان".

وعندما أقام الأمويون دولتهم في الأندلس، أكثروا من الطباخين في قصورهم. يروي رمضان أن الخليفة كان يختار بنفسه مَن يقوم بوظيفة صاحب الطعام، مثلما يختار غيره من كبار موظفي القصر، وذلك لأنها من الوظائف الحساسة، لما لها من علاقة مباشرة بصحته، خاصةً أن محاولات قتل عدة جرت من خلالهم، منها محاولة قتل الأمير عبد الرحمن بن الحكم (167–238هـ)، عن طريق دس السم في الشراب من قبل الفتى نصر الخصي، لكن الأمير اكتشف المؤامرة وأمر نصر بأن يشرب الشراب الذي أحضره، فمات في ساعته.

وكان الطباخون في قصور الأندلس من الصقالبة أو الموالي أو الأفارقة، وأُطلقت عليهم أسماء، مثل يُمن، أو بشر، أو عنبر، أو ياقوت، وبعضهم أُطلقت عليهم أسماء مثل زهير، أو طرفة.

كما عملت النساء في مجال الطبخ، وأبرزهن السودانيات اللواتي اشتهرن بإجادة صنع الحلويات، لذلك جُلبن إلى الأندلس، وكانت الواحدة منهن تباع بمئة دينار.

ولم يكتفِ أصحاب المطابخ من الصقالبة بوظيفة الطبخ، فبعضهم كانت لديه طموحات وتطلعات أكبر منها، ومن بين هؤلاء طرفة صاحب المطبخ الذي تولى المواريث في عام 318هـ، في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر.

العباسيون... الطباخون ندماء الخلفاء

في العصر العباسي، كان الطباخون القادمون من السند هم الأفضل في قصور الخلفاء، واشتهروا بتحضير أنواع لذيذة من المآكل، كما ذاعت سمعة جيدة وشهرة للطهاة المصريين والهنود، حسب ما ذكرت شرارة في كتابها.

وكان الطهاة يرتدون لباساً خاصاً يميّزهم عن الآخرين في المطبخ، ومعظمهم من المستعبدين. وكان يُفضّل المستعبدون السود من الرجال الذين يُشترون من سوق النخاسة للقيام بالطبخ.

ومن الطباخين الذين اشتهروا في العصر العباسي، رجل يدعى يحيى الأزرق، وكان طباخ الخليفة أبي إسحق محمد المعتصم بالله (179-227هـ).

ووصل الطبّاخ في العصر العباسي إلى منزلة مقرّبة من الخليفة. تنقل شرارة عن أبي الحسن علي بن محمد الشابشتي، في كتابه "الديارات"، أن "عُبادة" المعروف بـ"عُبادة المخنث"، كان أبوه من طباخي الخليفة عبد الله المأمون (170- 218هـ)، فكان يرافق والده في أثناء الطبخ، فخرج حاذقاً بالطبيخ بعد وفاة والده، واستدعاه المأمون، "فلما وقف بين يديه تنادر، وحاكى ومازح، فاستطابه المأمون"، وأصبح من ندمائه، خاصةً أن الخليفة كان مولعاً بالطبخ.

ولم يكن الطبخ للسلاطين العباسيين مقتصراً على الرجال فحسب، فقد كان من بين الجواري مَن اشتهرن بإتقان الطبخ، بالرغم من قلة عددهن في هذا المضمار، ومنهن الجارية "بديعة" التي أهداها الخليفة هارون الرشيد (149-193هـ)، إلى ابن أخيه إسحق بن المهدي، وقيل عنها إنها كانت من أكثر الناس مهارةً وعطاءً في فن الطبخ، واشتملت اختصاصاتها على الأطباق الباردة والحلويات، حسب شرارة.

كذلك اشتهرت "شارية"، إحدى المغنيات الشهيرات في العصر العباسي، والتي "أخذت الغناء عن إبراهيم بن المهدي، ثم انتقلت إلى بلاط المعتصم، فالواثق، فالمتوكل، فالمعتز، وكان الواثق يسمّيها: ستي. وكان المعتمد العباسي عظيم الثقة بشارية، لا يأكل إلا مما تعدّه له من طعام، فمكثت دهراً تعدّ له في كل يوم وجبتين"، حسب ما نقلت شرارة عن أبي حيان التوحيدي، في كتابه "الرسالة البغدادية".

أطباء على مائدة الخلفاء

اهتمام السلاطين العباسيين بمطبخهم تدلّ عليه الأموال الباهظة التي كانت تُنفَق عليهم، وكذلك تنوع الأصناف التي كان يعدّها الطباخون.

يذكر الدكتور صلاح الدين المنجد، في كتابه "بين الخلفاء والخلعاء في العصر العباسي"، أن الرشيد كان ينفق على طعامه في كل يوم عشرة آلاف درهم، وربما اتخذ له الطباخون ثلاثين لوناً من الطعام، وكان يُتخذ للخليفة القاهر 12 لوناً، وبلغت نفقات المطابخ والمخابز في القرن الرابع الهجري، في دار الخلافة، عشرة آلاف دينار في الشهر، وهذا من باب الإسراف.

كان هارون الرشيد ينفق على طعامه في كل يوم عشرة آلاف درهم، وربما اتخذ له الطباخون ثلاثين لوناً من الطعام، وبلغت نفقات المطابخ والمخابز في القرن الرابع الهجري، في دار الخلافة، عشرة آلاف دينار في الشهر

وكان الخلفاء لا يقدمون على المآكل إلا بعد مشورة أطبائهم، ولا يتناولونها إلا بحضورهم، لأن ذلك أدعى إلى السلامة، وآمن من مغبة النهم. فالرشيد كان يطلب جبرائيل بن بختيشوع ليحضر أكله، وكان الأمين من بعده لا يأكل ولا يشرب إلا بإذن هذا الطبيب أيضاً.

غير أن من بين الخلفاء العباسيين من ضرب بنصائح الأطباء عرض الحائط. يذكر الدكتور حسن إبراهيم حسن، في الجزء الثاني من كتابه "تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي"، أن أبا جعفر المنصور كان يكثر من الطعام ولا يعمل بنصح الأطباء، حتى كان ذلك من أسباب ضعف صحته ووفاته.

خلفاء طباخون

عُرف بعض الخلفاء بمعرفتهم بفنون الطبخ، وبمهارتهم في إعداد الطعام، وبعلم تركيب الأطعمة، وأثر بعضها في بعض.

وينقل المنجد عن كتاب الشابشتي المذكور آنفاً، أن المأمون جلس في بعض الأيام وأمر بأن تُحضر اللحوم والحيوان وما تحتاج إليه آلة الطبخ، وقال للندماء: ليطبخ كل واحد منكم قِدراً، وطبخ هو الآخر قِدراً، وطبخ أخوه أبو إسحق (الخليفة المعتصم لاحقاً)، قِدراً، ففاحت لقِدر الأخير روائح غلبت على روائح قدورهم طيباً وعطريةً، فعجبوا من ذلك. وكان عبادة المخنث ابن طباخ المأمون حاضراً، فحسده، فقال: إنْ أردت أن تزيد في طيب قدرك، فصبّ فيها سكرجة كامخ، أي إناء صغيراً فيه مشهيات الطعام مثل المخللات.

فأخذ أبو إسحق سكرجة كامخ، وصبّها في القِدر، ففاحت لها روائح منتنة، فقال المأمون: ويلكم ما هذه الروائح المنتنة؟ فقال عبادة: رائحة قِدر أخيك الطباخ، فقال: "ماذا طرحت فيها حتى عادت بعد الطيب إلى هذه الرائحة؟ فقال: سكرجة كامخ أشار بها عبادة! فقال: أما علمت أنك إذا أدخلت جسماً ميتاً على جسم حي أفسده، فأخذها أبو إسحق على عبادة وآثرها في نفسه، فلما وُلّي الخلافة أمر بقتله، ثم قال: "ما لهذا الكلب من القدر ما يُقتل، ولكن انفوه، فنُفي".

ولم يقتصر اهتمام المأمون بالطبخ على هذا الأمر، فقد كان مدركاً لأهمية قوى الأغذية، ومدى تأثيرها على جسم الإنسان. يذكر أحمد فريد رفاعي في كتابه "عصر المأمون"، أن عشرةً من العلماء اختيروا لمجالسته، منهم أحمد بن دُواد وبشر المريسي، فوُضعت على مائدته ثلاثمئة لون من الأصناف، وكلما وُضع لون نظر المأمون إليه، فقال: هذا يصلح لكذا، وهذا نافع لكذا، فمَن كان صاحب بلغم ورطوبة فليتجنب هذا، ومَن كان صاحب صفراء فليأكل من هذا، ومَن أحب الزيادة في لحمه فليأكل من هذا، ومَن كان قصده الغذاء فليقتصر على هذا، فما زالت تلك حاله في كل لون يُقدَّم حتى رُفعت المائدة.

ودعا إهمال الطباخين لشروط النظافة كثيرين من الخلفاء والملوك والأمراء إلى أن يأمروا بأن يكون الطبخ بين أيديهم، حسب ما يذكر إبراهيم شبوح في كتابه "المائدة في التراث العربي الإسلامي"، ومنهم مَن دعته الضرورة إلى طبخ ما يأكله بيده حتى ألِفوا الطبخ، وألّفوا في ذلك كتباً كثيرةً، ومنهم أحمد بن المعتصم، وإبراهيم بن المهدي، ويحيى بن خالد، والمعتمد بالله.

الفاطميون... طباخات في قصور الخلافة

اشتهرت قصور الفاطميين بكثرة الجواري الطباخات. وتذكر نريمان عبد الكريم أحمد، في كتابها "المرأة في العصر الفاطمي"، أن طباخات عملن في مطبخ القصر، وكان القصر يتصل بالمطبخ عبر طريق تحت الأرض، ويعمل في المطبخ خمسون شخصاً من بينهم الطباخات اللواتي اشتهرن بالمهارة الفائقة في صنع بعض أصناف الأطعمة، لا سيما الحلوى، واستمرت شهرة هؤلاء الطباخات حتى بعد انتهاء الخلافة الفاطمية.

وتذكر شرارة، أن الجواري الطّباخات كنّ يتقنّ فن الطبخ إلى درجة أن الناس كانوا يتنافسون في اقتناء عدد كبير منهن، وكنّ من جملة الهدايا التي يقدّمها الملوك والسلاطين.

العصر العثماني... نفوذ الحلوجية

أقدم وصف لمطابخ قصر السلطان العثماني، قدّمه جيوفاني أنطونيو مينافينوس من مدينة جنوا، الذي أسره قراصنة وباعوه كمستعبَد إلى السلطان بايزيد الثاني، وسرد تجربته في كتابه "خمسة كتب عن القوانين والدين ومعيشة الترك".

ذكر أنه خدم كمساعد في المطبخ بين عاميْ1505  و1514م، ثم كُلّف بتقديم الطعام إلى السلطان، وقال إن المطبخ كان مقسماً إلى قسمين، أحدهما للسلطان والآخر للمسؤولين والموظفين في القصر، وكان عدد الطباخين 160 طباخاً.

وبحسب شرارة، ازداد عدد الطباخين في العصر الذي تلا عصر بايزيد الثاني إلى عدد هائل، كما زاد عدد طباخي الحلوى على 600 طباخ في نهاية القرن السادس عشر. وكان المسؤولون عن صناعة الحلوى يشكّلون قسماً منفصلاً في المطبخ، ويتميزون عن الطباخين الآخرين بقبعة طويلة بيضاء.

ازداد عدد الطباخين في العصر الذي تلا عصر السلطان العثماني بايزيد الثاني إلى عدد هائل، بعدما كان 160 شخصاً، كما زاد عدد طباخي الحلوى على 600 طباخ في نهاية القرن السادس عشر

وتذكر شرارة أن العصر العثماني كان عصر تخصص بالنسبة إلى الطباخين، فكانوا على درجات: في رأس القائمة رئيس الطباخين (أشيجي باشي)، ويرأس خمسين طاهياً، ثم رئيس طهاة الحلوى (حلوجي باشي)، وله ثلاثون مساعداً، ورئيس الذوق المتخصص في ذوق الطعام، ليتأكد من أن الطعام غير مسموم، ثم رئيس المخازن (شانجي باشي)، وله مئة مساعد، وهو الذي يجلب طعام السلطان بيديه في الصبح والمساء.

وفي القرن السابع عشر، كتب الرحالة الفرنسي جون باتسيت تافرنييه، عن الامتيازات التي كان يتمتع بها مَن يقومون بعمل الحلوى (الحلوجيون)، عندما كان موظفاً في السفارة الفرنسية بين عامي 1629 و1637 في إسطنبول. وتناول في كتابه "رحلات عبر بلاد فارس وتركيا إلى جزر الهند"، إساءتهم إلى تلك الامتيازات: "كان الحلوجيون الأشخاص الوحيدين الذين لهم الحرية في الخروج من القصر، ووضعوا ضعف السعر على المواد التي كانوا يشترونها. كانت أرباحهم الطائلة من تجارتهم بالغلمان، الذين يجلبونهم إلى القصر".

وبحسب شرارة، وصف تافرنييه بالتفصيل مطابخ القصر في إسطنبول، فقد ذكر أن الأبنية كانت متميزةً بعضها عن بعض، وأن عدد الدوائر التي كانت تخص المطبخ سبع، لكل منها رئيس طهاة يديرها، فهناك المراقب العام المسؤول عن الإشراف على جميع المطابخ، تحت إشرافه 400 طباخ، والمطابخ نفسها مقسمة إلى درجات حسب المنزلة في القصر.

وكان أهم مطبخ هو المطبخ الذي يجهز مائدة السلطان مباشرةً، والثاني الذي يجهز مائدة والدة السلطان وزوجاته وأولاده من الأمراء والأميرات، والثالث الذي يجهز طعام النساء من الجواري والمخصيين المسؤولين عن الحريم، والرابع للمشرف على القصر والموظفين الذين تحت إشرافه، والخامس للمسؤول عن الخزينة والموظفين الذين تحت إشرافه، والسادس لحامل الكأس ومَن يتبعه، والسابع للمسؤول عن السراي والتابعين له من الموظفين.

وكانت مطابخ القصر تقدّم عادةً وجبتَين من الطعام في اليوم، وتُقدم وجبةً متأخرةً للسلطان وحرمه في أيام الصيف الطويلة بعد آخر صلاة. وكان يقف 200 خادم بين المطبخ وجناح السلطان، في صف لنقل أصناف الطعام من المطبخ.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image