حين أُنتج أول فيلم سينمائي (عاصفة الحياة) في إيران عام 1948، الفيلم الذي تمّت كلّ مراحل إنتاجه في داخل الحدود، كانت السينما المصرية سينما قوية، وقد أصبح لها مشاهدوها الكُثر هنا وهناك، كما في إيران. خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي كانت تسطع نجوم المطربين العرب من أمثال أم كلثوم وفريد الأطرش، وكانت السينما الإيرانية، اقتداءً بالسينما المصرية، تبحث عن نجمة رزينة وذات صوت جميل، فظهرتْ "دِلكَش" التي أصبحت النجمة الأولى في السينما والموسيقى الإيرانيتين خلال الخمسينيات.
في تلك الفترة كانت إيران ومصر تتمتعان بعلاقات سياسية طيبة وقد استمرّ الأمر كذلك حتى حدوث الثورة الإسلامية وإلى يومنا هذا. لم تكن علاقات إيران جيدة مع الدول العربية الأخرى كما كانت مع مصر، لكن الموسيقى العربية من المصرية في الأربعينيات والخمسينيات حتى نجوم الموسيقى اللبنانية الحديثة لها حضورها البارز في الفضاء الثقافي الإيراني.
ربما أغرب أمر حدث في لقاء الثقافة الإيرانية بالموسيقى العربية كان ظهور ماركة لشركة إنتاج المناديل الورقية في إيران بعنوان "نانسي". و"نانسي" الإيرانية هي ماركة تجارية اشتهرت قبل ما يقارب 10 أعوام في إيران بواسطة إعلان مميّز جلب لها كثيراً من النجاح.
تحكي أقوال غير رسمية في إيران بأن مالك الشركة كان معجباً جدّاً بالمطربة اللبنانية نانسي عجرم فسمّى الماركة باسمها. ويبدو أنه كان راغباً في أن يُظهر هذا الإعجاب لزبائنه أيضاً. ولهذا السبب تم إنتاج تيزر لهذه الماركة من منظور شخصية شهيرة تتطلع إلى الوقوف على الخشبة والأداء أمام الجمهور.
ليس الهدف في هذا النص أن نسلّط الضوء على أمور وأحداث غريبة كهذه، بل سنراجع عدة أغاني عربية تمّت إعادة غنائها في الفارسية. ويُذكر أنه ليس موضوع هذا المقال إن كانت هذه الأعمال انتقلت وغُنّيت التزاماً بقضايا حقوق النشر أم لا إذ أنها محلّ جدل في إيران لعدم التزامها رسمياً بقانون حقوق النشر الدولي. النقطة المهمة هي أن معظم هذه الأغاني قد حظيت بإقبال من قبل الإيرانيين في نسخها الأصلية (العربية) أيضاً.
الأكثر تألقاً وجمالاً في هذه الإعادات الغنائية من العربية إلى الفارسية قد يكون ابتهال "ربّنا" للمطرب الإيراني الشهير، محمد رضا شّجّريان. لم يتحدّث شجريان شخصياً عن هذه الإعادة وهذا الاقتباس، ويعتقد الكثيرُ أن الشبه بينهما قد جاء على سبيل الصدفة. "ربنا" التي تلاها شجريان تشبه إلى حدّ كبير مقطعاً غنائياً لأم كلثوم. عام 1980 غنى شجريان في أحد استديوهات الإذاعة والتلفزيون الإيرانيين، وبشكل جميلٍ جداً وأخاذ، مقطعاً بعنوان "ربّنا"، تضمّن المقطع أربع آيات من كل من سُوَر "البقرة" و"آال عمران" و"الكهف" و"المؤمنون".
قبل عامين، بينما كانت مشاكل شجريان الصحية متفاقمة ولم يعد بإمكانه أن يتكلم، تبادل الإيرانيون على مواقع التواصل الاجتماعي مقطعاً تصويرياً لأم كلثوم في فيلم "سلامة" (1944)، وطُرح هذا السؤال إن كان شجريان استلهم من كوكب الشرق في ابتهاله دون أن يذكر اسمها؟ لم يتلقّ السؤال ردّاً دقيقاً لأن شجريان نفسه كان على سرير المرض يعاني تطوّره، ولم يستطع الردّ، إلا أنه في العالم الافتراضي بدأت نقاشات واسعة وآل الامر إلى أن أحد أحفاد شجريان حاول الردّ على حسابه في إنستغرام بشكلٍ علمي بأن هذا الابتهال لم يكن إعادة غناء، وقد حدث بسبب التشابه بين المقامات الموسيقية العربية والفارسية وعلى سبيل الصدفة، غير أنه فضلاً عن الجانب الموسيقي، فإن المضمون الروحي والدّيني لكلّ من المقطوعتين يعزّز الظنّ بإعادة غناء الأولى أي الكلثومية.
حصلت "بنت الشلبية" في نسختها الفارسية على نجاح فائق في إيران. يبدو أن المطربية الإيرانية، بوران، كان قد زارت لبنان ذات مرة وأُعجبت بهذه الأغنية، فجلبت أسطوانة تتضمّنها إلى صديقها الشاعر. فكتب قصيدة على ألحانها، وتمّ توزيع العمل لنسخته الفارسية على يد الموسيقار، عطاء الله خُرّم
أما فيروز فلها في إيران شعبية كبيرة؛ عندما حدث الانفجار الرهيب في لبنان في شهر أغسطس الماضي، تصدرت أغنية فيروز، "لبيروت"، صفحات التواصل الاجتماعي في إيران حتى أن حساب وزير الخارجية الإيراني، محمد رضا ظريف، وضع لها إشارة (mention). أما بداية حضور فيروز في إيران فكانت منذ سنوات سابقة ودون أن يعرفها الإيرانيون كمطربة عربية؛ في بدايات سبيعينيات القرن الماضي، غنى كلّ من المطرب الأرمني الإيراني ذو الشعبية الواسعة "فيغِن" (Viguen) برفقة المطربة الشهيرة "بوران" (Pouran) أغنية بعنوان "كيسو" (Gissou) بناء على ألحان "بنت الشلبية" لفيروز وبكلمات فارسية تبدأ بما معناه: "تمهّلي في تمشيط جدائلك يا حبيبتي/ فبين ثناياها يسكن قلبي".
حصلت هذه الأغنية وقتها على نجاح فائق في إيران، ومازالت مسموعة كثيراً إلى اليوم. يبدو أن بوران كان قد زارت لبنان ذات مرة وأُعجبت بهذه الأغنية، فأتت بأسطوانة تتضمّنها إلى صديقها الشاعر، ناصر رَسْتِكار نِجاد، وأهدتها إليه. فكتب الشاعرُ قصيدة على ألحان "بنت الشلبية"، وتمّ توزيع العمل لنسخته الفارسية على يد الموسيقار، عطاء الله خُرّم. يعرف الآن متابعو الموسيقى في إيران أن فيروز غنت هذه الأغنية عند شبابها في خمسينيات القرن الماضي، وأن فيغِن وبوران قد أعادا غناءها في الستينيات.
ثمّ غنت المطربة الإيرانية الشهيرة، كوكوش (Gougoush)، هذه الأغنية عام 1978 في بغداد.
ومن المطربين العرب الذين أعيد غناء بعض الأغاني لهم في إيران هو المصري عمرو دياب، والذي يحظى بشعبية واسعة في إيران. قبل بضع سنوات غنى أحد نجوم موسيقى "البوب" في إيران (من عرب إيران)، مهدي يَرّاحي، أغنية هذا المطرب الشهيرة "حبيبي يا نور العين" إلى جانب أغنية "ميحانه" للمطرب العراقي، ناظم الغزالي، في إحدى البرامج التلفزيونية المعروفة وعلى الهواء مباشرة. كان عمرو دياب أصدر أغنيته تلك قبل 24 عاماً، كما أن أغاني أخرى لهذا المطرب كـ"العالم لله"، "تملّي معاك"، و"يا حبيبي لا"، غُنّيت في إيران بصوت كلّ من المطربين فَرشيد أمين، ومِعراج محمدي، ومجيد رُكني.
كما ذكرنا لنانسي عجرم معجبون كُثرٌ في إيران، وقد اقتبس ألحان أغنيتها المعروفة "أه ونص"، المطرب الإيراني الشهير والمقيم في لوس أنجلوس، شَهرام صولَتي، ليصدر نسخة فارسية لها بعنوان "بسّه بسّه" (يكفي، في الفارسية)، ما رفع كثيراً من شعبية هذا المطرب. كانت نانسي عجرم قد غنت هذه الأغنية التي منحت عنوانها للألبوم أيضاً عام 2004، وغناها صولتي في العام نفسه.
تحكي أقوال غير رسمية في إيران بأن مالك شركة المناديل الورقية كان معجباً جدّاً بنانسي عجرم فسمّى الماركة باسمها. ويبدو أنه كان راغباً في أن يُظهر هذا الإعجاب لزبائنه. فتمّ إنتاج تيزر لهذه الماركة من منظور شخصية شهيرة تتطلع إلى الوقوف على الخشبة والأداء أمام الجمهور
الأغنية العربية الأخرى التي نجحت نسختها الفارسية كثيراً في إيران هي أغنية "ماتروحش بعيد"، للنجمة التونسية، لطيفة. غنت المطربة، شُهرِه صولَتي، (أخت شَهرام صولتي)، ومن مطربي لوس أنجلوس أيضاً، أغنية بعنوان "هوَس" (نزوة في الفارسية) على ألحان هذه الأغنية. غنت لطيفة هذه الأغنية عام 2003، أما أغنية شُهره فكانت عام 2005، وقد أطلقت عنوان الأغنية نفسه على ألبومها.
بعد قطيعة دامت 20 سنة، أي منذ حدوث الثورة الإسلامية، استطاعت موسيقى البوب أن تعود إلى حياتها في إيران عام 1977، وأحد المطربين الأوئل في مجال هذا النوع الموسيقي هو محمد إصفهاني الذي له أغنيتان شهيرتان على ألحان عربية.
تمّ اختيار محمد إصفهاني والذي كان قد أصبح نجم البوب في إيران، وفي الوقت ذاته كان مؤيَّداً من قبل الحكومة، عام 2002، ليغنّي أغنية شارة لمسلسل دينيّ بعنوان "العصمة الضائعة"، فأعاد توزيعَ الأغنية العربية الموسيقارُ الإيراني الشهير والمخضرم، فِريْدون شَهبازِيان، وأصبح عنوانها في الفارسية "صدّق أنك بقيت وحيداً يا قلبي"؛ أغنية راجت وسُمعت كثيراً في إيران بعد بثّها. أما أصل الألحان فكان لأغنية المطربة السورية، أصالة نصري، عنوانها "مابقاش أنا"، وكانت قد أصدرتها عام 2001 ضمن ألبوم "مشتاقة". كما نقل إصفهاني إلى الفارسية أغنيةَ "مَشكَلني" للمطرب البحريني-السعودي، راشد الماجد، وحملت الأغنية عنوان "الهلال المستهل" أو "العيد"، بكلمات للشاعر الإيراني، علي معلّم"، مضمونها ديني بحت.
هناك نماذج كثيرة لمثل هذه الاقتباسات من الأغاني العربية في إيران إلا أننا ذكرنا هنا أبرزها والتي غُنّيت بصوت أشهر المطربين الإيرانيين. ما يهمّ في إعادات الغناء هذه هو نجاح هذه الأغاني في إيران ومدى شعبية غالبيتها؛ أغانٍ احتفظت حتى في الفارسية بمعظم الألحان والنوطات والأدب الموسيقي في نُسَخها الفارسية؛ بمعنى أنها وإن حصل بعض التغيير فيها إلا أن ارتباطها الموسيقي بقسم من المقامات الفارسية بقي قائماً، وذلك بسبب التاريخ الموسيقي المشترك بين الموسيقى الفارسية والعربية.
وإن كانت العلاقات الإيرانية يشوبها النفور أو بعضه مع البلدان العربية خلال السنوات الأخيرة ماعدا سوريا ولبنان، ولكن اللغة الموسيقية حافظت بطريقتها العابرة للحدود والسياسات على العلاقة الثقافية والفنية بين إيران والعرب؛ علاقة بدأت منذ أربعينيات القرن الماضي في السينما ومازالت مستمرة ومتجددة عبر شتى الطّرُق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع