في إحدى الليالي في أوائل عام 2020، وبينما نحن مستلقين على السرير، كانت هناك نافذة في بناية مقابلة للبناية التي أسكنها، كانت النافذة مضاءة بالضوء الأصفر الخافت.
أمسكت صديقتي بيدي، وقالت لي: "انظر إلى النافذة"، ما إن نظرت للحظة، حتى سرت في جسدي نشوة مرتفعة جداً لم اختبرها من قبل.
ثم طلبت مني أن أحدثها عن حبيباتي السابقات، وفجأة كانت ملامحهن تعبر على وجهها، واحدة تلو الأخرى. ليست صوراً وتفاصيل واضحة فحسب بل كل شعور اختبرته معهن.
كل شيء واضح كما لو كان يحدث الآن، وكل تلك الوجوه العديدة، عبرت في لحظات قليلة.
سألتني بثقة: "هل تريد أن ترى إيزيس (المعبودة المصرية القديمة)؟".
قلت في نفسي، ربما هذا تأثير هلوسة المخدرات…
دفعني ما أحسست به لتفسير، ربما في ثقافات أخرى لا تدين السحر بالوثنية والكفر، وبعيداً عما ارتبط بتلك الممارسات من شعبوية، إن جاز التعبير.
أريد أن أصف ما حدث معي، بمفردات متحررة من إرثنا الديني، الشائع والتقليدي.
فعلاً، ماذا يحدث؟
قررت يونيو مكدانيل، الأستاذة بقسم الدراسات الدينية في كلية تشارلستون بساوث كارولينا في الولايات المتحدة، منذ عامين، تنظيم زيارة إلى الهند وإندونيسيا وبالي، للبحث في حالات النشوة المتعلقة بسحر التانترا في الديانات التوحيدية والوثنية والروحية.
ألّفت مكدانيل الدراسة، والتي تستكشف الجدلية العابرة للثقافات حول التانترا، والظواهر السحرية، والشامانية، الممتدة من فترة العصور الوسطى الهندية وحتى الوقت الحاضر، وخلال إعداد الدراسة، التقى الباحثون بدكتورة جامعية بنغالية، تُدعى "جايشاري".
حكايات "جايشاري" والسحر
كانت تعمل نهاراً في مجالها، مدرسة جامعية للأدب والموسيقى الكلاسيكية، وتمارس ليلاً "فن التانترا" أو "السحر". تقول جايشاري: "أول ما اختبرته في عالم السحر هي حالة النشوة". أطلقت عليها "النشوة الإلهية".
وتلك كانت البداية…
وفقاً للدراسة، هل يمكن أن أقول إنّ ما مرت به صديقتي، وما مرت به جايشاري، هو المرحلة الأولى من سحر التانترا، هل ذلك ممكن؟
ولكن بعد المرحلة الأولى، لدى كل من صديقتي وجايشاري طريق مختلفة تسلكها.
بحسب الدراسة، هناك "التانترا الشعبية"، والتي تستهدف الأمور الخارقة للطبيعة، ويختص بها السحرة والمشعوذون، وهناك "التانترا الكلاسيكية"، تلك التي تنشد الوصول إلى أعماق النفس البشرية، وفهم "الهوية الحقيقية" للفرد، ويختص بها الكاهن أو الغورور.
"التانترا الكلاسيكية"
بالنسبة إلى جايشاري، التانترا، ممارسة تسمح لها بالتعرف على الإلهة كالي، والتخلي عن الهوية البشرية العادية.
ما تتحدث عنه جايشاري هو "التانترا الكلاسيكية". تعتقد أن كل فرد منا بداخله إله أو آلهة، وأنه بإمكانه الغوص داخل نفسه والاتحاد معها، ومناط نشاطها الأكبر مساحات الوعي المرتبطة بالإبداع، والفلسفة، واكتساب الإلهام، والبصيرة، وفي النهاية الوصول إلى "الهوية الحقيقية" للفرد، ويتم ذلك عبر الصمت، والتأمل لفترات طويلة تصل إلى أشهر.
بدأت جايشاري، ممارسة فن التانترا حين كانت طفلة، على يد معلمها إيدا شاكتي، وأول ما اختبرته في تجربتها تلك هو حالة من النشوة الشديدة أو المرتفعة.
لم تتوقف جايشاري عند حالة النشوة تلك، رغم أهميتها وقوتها، بل قررت الاستمرار نحو التقرب إلى الإلهة كالي.
هل يمكن أن نقول إنها المقابل لإيزيس في الحضارة المصرية القديمة؟
تعتقد جايشاري أن كل فرد منا بداخله إله أو آلهة، وأنه بإمكانه الغوص داخل نفسه والاتحاد معها، ومناط نشاطها الأكبر مساحات الوعي المرتبطة بالإبداع، والإلهام، والبصيرة، وفي النهاية الوصول إلى الإلهة كالي، أو "الهوية الحقيقية" للفرد كما تمثلتها
تعتقد جايشاري أن كالي في هويتها العميقة، تقول: "القلة يفكرون في الاهتمام بالبراهمن/ المطلق أو الإله، وهو الجوهر النهائي للظواهر المادية، بينما الغالبية يفضلون التانترا الشعبية، والتركيز على السحر، والأمور الخارقة للطبيعة".
البراهمن، هل يمكن أن نقول إنه الموازي للرب الإبراهيمي؟
تقول جايشاري، إنها تعتبر وجودها في عالم الآلهة هو الحقيقي بالنسبة إليها، أما حياتها العادية فهي مجرد انبثاق من ذلك العالم، ولكن ربما لأنها تتمتع بأمان مادي ووظيفي، إذ تعمل كدكتورة جامعية، فإن وجودها طوال الوقت في هذا العالم/ الواقع لا يمثل لها مشكلة، غير أنها تخفي طبيعة ممارستها عن زملائها، خشية أن تتأثّر وظيفتها.
صديقتي هي الأخرى، أخبرتني بأنها تريد أن تظل هنا إلى الأبد، ولا تخرج إلا للضرورة، مثل الأكل والشراب، لكن بالنسبة إليها، وعلى عكس جايشاري، فهذه رغبة غير عملية، وإلا كيف تجني قوت يومها إذا التزمت بذلك؟
وغير ذلك يبدو أن هناك عقبة أخرى في الطريق ربما لا تعلم عنها صديقتي الساحرة شيئاً.
"ليس الذكر كالأنثى"!
كنا نجلس في الفجر في شرفة شقتي في شارع القصر العيني في وسط القاهرة، حين نظرتُ إلى صديقتي الساحرة وسألتها: "ماذا لو كنت شريرة؟".
هل رأيتها فعلاً تتحول إلى واحدة من تلك الساحرات الشريرات، قبل أن يعود وجهها إلى طبيعتها الأولى، أم تراني تأثرت بالموروث الديني، الذي يشيطن القوى الباطنية للمرأة؟
بحسب الدراسة، عادة ما ينتمي السحرة إلى فئة الذكور، أما تمثيل الإناث فضعيف للغاية، لأن الأنثى لديهم مرتبطة بالسحر الأسود والشعوذة، كما يعتبرون الحيض "نجساً"، ولا يناسب الأماكن المقدسة التي تجري فيها الطقوس، والتي يجب أن تظل طاهرة.
يمكن اتهام أي سيدة تمارس تلك الطقوس بالسحر والشعوذة، مقارنة بالرجال، خاصة إذا شوهدت في الليل بمفردها في مواقع يعرف أنها سحرية أو مقدسة، لذا قررت ممارسة السحر مع الإلهة كالي في السر، فكم حولنا من الموظفات والجامعيات والعاملات يمارسنها ليلاً؟
كما يمكن اتهام أي سيدة تمارس تلك الطقوس بالسحر والشعوذة، مقارنة بالرجال، وحتى إذا شوهدت في الليل بمفردها في مواقع معروف أنها سحرية أو مقدسة.
في بالي مثلاً، يعتقد الكثير من السكان أن ارتفاع نسبة الأمراض خلال مواسم الأمطار يرجع إلى التأثيرات الشيطانية، للمشعوذة أو الساحرة الشريرة التي تجلب المرض وسوء الحظ.
ويذهب الأمر لأبعد من ذلك، إذ يتخذ طابعاً مؤسسياً.
السحر والسياسة والثورة
بات سحر التانترا الشعبي، يتخذ طابعاً مؤسسياً، بحسب الدراسة، ففي إندونيسيا مثلاً، توجد "مدونة أخلاق"، تمنع السحرة الـ dukuns من استخدام سحرهم ضد الناس في نفس القرية، وفي حالة حدوث ذلك، يتوجب على المتهم أداء يمين البراءة في أحد المساجد المحلية، وعادة ما يتم نفيه من القرية إذا ثبت ممارسته للسحر الأسود ضد أحدهم، وفي بعض الأحيان يتم حرق منزله وممتلكاته.
ويُعتقد أن الـ dukun إذا استخدم صلاحياته لتحقيق مكاسب شخصية أو تحقيق نية خبيثة، فسوف تضيع قوته أو تضعف.
ويتحتم عليه أن يشارك في الأنشطة المجتمعية، ويبارك القرية أثناء الحصاد، والحروب، والأوبئة، والمسابقات الرياضية.
وبات يوجد خدمات الاتصال، حيث يمكن للشخص الآن الاتصال بالـ dukuns لحل مشاكل تواجهه.
في بعض الأحيان يُستخدام السحر لتحقيق أهداف سياسية.
وفي بعض الأحيان يُستخدم السحر لتحقيق أهداف سياسية، خلال الثورة الشيوعية في "بانتين" عام 1926، أصبح العديد من الكايا (لقب ديني)، قادة للثورة، وكانوا يؤدون طقوس الحصانة (ilmukekebalan)، ويقومون بالصوم والصلاة، ويقدمون التمائم والمياه المقدسة لأتباعهم.
بالنسبة إلى جايشاري، فإن السحر والقوى الخارقة للطبيعة هي درجة أدنى من درجات التانترا أو التأمل، أما رغبتها في الاتحاد مع الآلهة، هي التزام "صوفي" طويل الأمد.
السحر محرم في الإسلام، لكنه يعد مبرراً وجائزاً إذا ما ارتبط بالله فقط، أما إذا كان من إله آخر، فإنه يُجرّم، بحسب الدراسة.
في السحر الكلاسيكي الإسلامي، يُستخدام القرآن والنصوص المقدسة، والأذكار، ولا يتم استخدام الصور لأنها محرمة في الإسلام، ويستهدف في الأساس التحصين ضد الشر، والتقرب من الله أكثر، والتفاني في عبادته.
في إندونيسيا مثلاً، تُوجد مدارس دينية لتدريسه تُسمى الـ (pesantren)، ويمكن للمدرسين منح طلابهم قدرات سحرية، تهدف إلى خلق حصانة ضد الشر أو أي ضرر.
في المدرسة أو المعهد، يقوم المعلم ويُطلق عليه (kyai - كياي) باختيار الطلاب الذين يستحقون القدرات السحرية،إذ يمسك المعلم يد الطالب اليمنى، ويقرأ عليها نصوصاً أو تعاويذ المانترا، ثم يجرح يد الطالب بسكين طويل، ومن ثم يكتسب الطالب قدرات مثل الشفاء والحب والقوة والمباركة والقدرة على تحقيق الأمنيات، وهي طقوس يُطلق عليها الـ debus.
تُفتتح الطقوس بقراءة سورة الفاتحة، تليها الصلاة على الرسول، ثم الإمام الصوفي عبد القادر الجيلاني...
لكن في المناطق الأكثر فقراً، تختلط الأفكار الصوفية بالسحر الشعبي، كما تقول الدراسة، يستخدمون التمائم والتعاويذ، وهناك منه نوعان، الأول يستهدف قتل أحدهم، والثاني يستهدف معاناة الضحية طوال حياتها.
كل ممارسات سحر التانترا متشابهة في جميع الأديان، سواء التوحيدية أو الوثنية أو الروحية، وكل منها يفسر الأمر على طريقته، ويسمي الأشياء بمسمياتها، لكنه أيضاً له مكانة خاصة، سواء كان غرضه ممارسة تعبدية أو دنيوية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...