شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"كم نحن مخذولون يا الله"... الألم كوجهة نظر في الحياة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأربعاء 20 أبريل 202202:11 م

يقول محمود درويش في تعبير حقيقي ودقيق : "لا أُريدُ من الحب غير البداية"، ونحن جميعنا كذلك قد لا نريد من أي شيء سوى البداية. لأن البدايات دائماً جميلة، تستطيع الإمساك بنا جيداً أول الوقت، أول الحب وأول العمر. إلا أننا لا نجني سوى الخيبات أخيراً. مؤقتاً فكرت أن أصنع مقدمة جميلة، بليغة تُمسك بالقارئ لكني قررت أخيراً أن أجعلها صادقة، وأن أُعلن سريعاً أن هذا النص شخصي جداً، كئيب وقد لا يقدم أي فكرة مهمة. فإن كنتَ تنتظر أفكاراً عن العالم، أنصحك أن تتوقف عن القراءة وتوفر خمس دقائق أخرى من حياتك لشيء تريد أن تفعله بكامل قلبك. 

لماذا أكتب؟ أكتب لأنجو من وحدتي، من صوت عقلي. أكتب لأعي تجربتي، حتى أعبر إلى نفسي. كي أصنع لتلك الفترة الزمنية المسماة (حياتي) شكلاً يمكنني أن أمسك به بين يديّ، أن أقبض عليها كأي شيء حقيقي. لكلٌ منّا طريقته في إدراك حياته. البعض ينجبون أطفالاً يُشكّلون امتداداً لهم، وآخرون يصنعون أشياءً عظيمة تُخلّد ذكراهم، وكثيرون يتألّمون. الألم أيضاً وجهة نظر في الحياة.

قد يلومني البعض على هذا الاقتراح البديل. سيقولون لماذا تريدين أن تلغي سنوات الطفولة البريئة الجميلة والشباب المتهور والحالم؟ لو افترضنا أننا جميعاً نحيا تلك الطفولة المغلفة بالرعاية، والحماية، والأمان، ألا يعدُّ هذا بحدّ ذاته سبباً للشقاء إذ نبقى نحنُّ إلى هذه المرحلة طوال حياتنا ونقارن خوفنا، ويأسنا، وانعدام الأمان الذي نشعره لاحقاً، نقارن هذا كلّهُ بها؟ الأحبّة يرحلون. والحياة تنقص، تقلّ ولكنها لا تصير أكثر خفّة أبداً بل تزداد ثقلاً. بعد أيام سأبلغ عامي الواحد والثّلاثين، ليست أعواماً قليلة، إنّها أيّامٌ كثيرة حقاً. وقد لا يكون مقدراً لي أن أحيا نفس القدر مجدداً وبهذا ستكون معظم حياتي قد أصبحت خلفي.

لكلٌ منّا طريقته في إدراك حياته. البعض ينجبون أطفالاً يُشكّلون امتداداً لهم، وآخرون يصنعون أشياءً عظيمة تُخلّد ذكراهم، وكثيرون يتألّمون. الألم أيضاً وجهة نظر في الحياة.

جُلّ سنواتي تلك تَتّسِم بالسذاجة والضعف. سنوات كثيرة لم أكن فيها نفسي التي أعرفها الآن ولم أكن نفسي التي أردتُ أن أكونها. ألا يبدو هذا عبثيّاً وبلا أيّ معنى؟ ما الذي كان سيحدث لو تمكّن الإنسان أن يعيش حياته كلها بكامل وعيه الذي يتشكّل أخيراً؟ هل تراه يصبح أقلّ شقاءاً أم العكس؟ 

بعد أيام سأبلغ الواحدة والثلاثين فبماذا سأوصي نفسي إذاً وبماذا سأحتفل؟ أنا لستُ شخصاً احتفالياً، الأعياد تشعرني بالكآبة. الأعياد وعد مسبق بأن شيئاً مميزاً ينتظر خلف الباب، خلف اليوم القادم، أو الليلة التالية، فأنتظر، ثم ماذا يحدث في تلك الليلة؟ لا يحدث شيء على الإطلاق. الأعياد تشعرني بالكآبة وحسب. مثلاً، في ليلة رأس السنة، تلك الليلة الشبح، أقرأ عشرات المنشورات في فيسبوك. آخرون يتحدثون عن الخسارات، والنجاحات، والصعوبات، والحب، والامتنان، والاعتذار، والشكر والكآبة. أفكر أن يداً ضخمة تتلاعب بأعمارنا جميعاً كأحجار الشطرنج، فيلة وأحصنة وبيادق ووزراء وملوك كلنا في قانون اللعبة مجرد أحجار. تحوّل مشاعرنا إلى مشاريع تجارية مربحة، وأرقام، وأمنيات مسبقة الصنع، ورسائل مكررة وصور. الكثير من صور الآخرين الذين لا يعرفون بماذا يشعرون على وجه الدقة، أو من ذا الذي وضع لسيل حياتهم تاريخاً، يجب أن يتوقفوا عنده ويعيدوا حساباتهم وفقاً له، بدلاً من أن يتبعوا إيقاعاتهم الداخلية ومفكراتهم الخاصة.

في عيد ميلادي الواحد والثلاثين، في الليلة ذاتها، غادرتْ شقيقتي هذا العالم، وكأنها تعطيني عمرها، كما يواسيني الجميع. تعطيني عمرها حرفيّاً يا الله!

أفكر الآن أن ما يخيفني في الثلاثين أنني لم أعدْ بعد اليوم تلك الفتاة التي تسبق عمرها. اليوم كل شيء يسبقني. سياط الوقت مباشرة وحادة وموجهة نحوي. لذا أركض دون توقف. دون أن تكون هناك محطة عليّ أن ألحق بها، أو من ينتظرني في آخر الدرب. الأرض لم تعد مكاناً للتوقف!

ما يخيفني في الثلاثين أني كبرت بما يكفي لأرى أحبتي يموتون، وأهلي يشيخون. وأني بطريقة ما أتضاءل ولم أعد كافية. وأن لا شيء استمر، وكأن الأيام الموصولة قُطعت بسكين حادة، وصحوتُ فجأة. أبني نفسي من جديد، وفي داخلي احساس عميق وكأنني مررت بالأشياء من قبل أو لعلها هي التي مرت بي، وجُلّ ما تركته لي هو ندبة كبيرة في فضاء نفسي الموحش.

في لحظات الحزن العميق كما في أوجاع الجسد الأليمة نغادر عالم الوعي، نغيب عنه. إلا أنّ هذه اللحظات تترك بصماتها على وعينا لاحقاً، مِمَّا قد يحدد حياتنا المقبلة برمتها. فلا شيء يهدي إليك لحظة الوعي تلك التي يبدو فيها كل شيء رائقاً شفافاً وكأنك تنظر عبر الأشياء لا إليها. لا شيء يفعل مثلما يفعل الألم. إنه معلم صارم ولكنه حقيقي جداً. ألا نشيد جميعاً، على كل حال، بالمعلمين الحازمين والأشداء بعد أن نفهم أن شدتهم قد صنعتنا؟

ما يخيفني في الثلاثين أني كبرت بما يكفي لأرى أحبتي يموتون، وأهلي يشيخون. وأني بطريقة ما أتضاءل ولم أعد كافية.

ما الذي تعلمته؟ تعلمت أشياءً عن التخلي عبر تجربته. سيتخلى عنا الجميع في لحظة ما. أن تتأخر اللحظة أو لا تأتي لا يعني أبداً أنهم دائمون. قد يبدو هذا قاسياً ومفجعاً في البداية لكنه مع مرور الوقت لا يعود بتلك الأهمية. عرفتُ أيضاً أن حدوث هذا، أمر بديهي، إلا أن المحزن أن نعتاده.

مرّ الناس كما تمر يد على شعرك بحنو بينما تمتد اليد الأخرى لتخلع قلبك بقسوة. فتتعلم أن الخير لا يعود إليك بالضرورة ما دمت منبعه.

عبرنا الأصدقاء أيضاً، كما يعبرون يوماً روتيناً مملاً، فلم يعودوا إليه حتى في ذاكرتهم. أتذكر الآن ما كتبته يوماً:

كم نحن مخذولون يا الله!

ما من سكين إلا وغرزت في ظهورنا

وما من يدٍ إلا ومارست مرونة أصابعها في التّفلُّت من أيدينا.

أردتُ فيما أردت أن أصبح سلحفاة أحمل بيتي على ظهري وأجوب العالم ببطء، لكن ليس لي بيت ولا حتى صخرة آوي إليها، توزعت عشرات السقوف ذكرياتي، توزعتني البلاد الكثيرة، واللغات الكثيرة، والحب القليل. البلاد خلفي الآن، وقلبي غريب من يوم يومه. دربي التي رحلت عليها لم تكن موجودة يوماً، اخترعتها بنفسي. دفعت تكاليف العبور لطرق غير معبّدة، وتجاوزت حرس الحدود كأي شيء غير مرئي. ملأتُ جيوبي بالقضامة الحلوة، وتأبّطتُ ذكرياتي الأقل حلاوة، وأنا أبتلع طعم الأشواك المرّ من أثر القلق. وسأسير في هذا الدرب إلى نهايته. لم يعد مهماً من سيكون معي فيه ومن سيختار لنفسه درباً آخر، لست أنا من يقرر في النهاية دروب الآخرين.

أردتُ أن أصبح سلحفاة أحمل بيتي على ظهري وأجوب العالم ببطء، لكن ليس لي بيت ولا حتى صخرة آوي إليها، توزعت عشرات السقوف ذكرياتي، توزعتني البلاد الكثيرة، واللغات الكثيرة، والحب القليل.

مع الناس أتحرك بعيداً عن نفسي، فأتعب. ألاحق أحاديث الآخرين وهواجسهم، لا أنخرط في حروبهم لكنها تُعيقني عن اكتشاف حروبي. أعرف هذا العالم جيداً وأعرف صفاته وأنه عليك أن تكون سريعاً، خفيفاً ومتأهباً فأكون كذلك. أسرع في كل شيء، في المشي، في التفكير، في الأعمال المنزليّة فأؤذي نفسي فعليّاً. أكتب الآن وأنا أنظر إلى جرح الأمس في يدي، الجرح الذي كان يجب أن يكون في جسد البصل الذي قطّعته لإعداد الغداء.

أشعر بالغثيان من كل شيء. لا أطيق شئياً حتى جلدي. وكلما ازداد ارتطام الموج في صدري، تصاعد كل شيء، القلق، والخوف من الفشل والضغط أن أكون تلك الصورة التي يريدها لي الآخرون، هذا كله يشرّدني عن نفسي الحقيقية. 

أخشى أن الحياة/حياتي قد أفلتت مني ولم يعد من الممكن التقاطها. أنا خارج حياتي، أراقبها من بعيد كأنها حياة شخص آخر، وأتمنى لو أني أملك عصاً سحرية فأُشكّلها من جديد. لكني لست ساحر حياتي ولا المخرج في مسرح الدمى. أعرف أنه لا يمكنني تصديق دروس التنمية البشرية والعبارات المُنمّقة والمغرية، فهي تريد أن تسوّق عقولنا كمنتج رخيص. أنت لا تستطيع أن تشتري حياتك، رغم أنك تستطيع أن تبيعها. ألم يَبعْ فاوست روحه للشيطان؟ ألسنا جميعاً في الجحيم؟

سأسير في هذا الدرب إلى نهايته. لم يعد مهماً من سيكون معي فيه ومن سيختار لنفسه درباً آخر، لست أنا من يقرر في النهاية دروب الآخرين.

عندما أنظر إلى نفسي اليوم كأنها كائن منفصل عني، كأنها عالم مواز، يؤنسني وأؤنسه في هذا المشوار التّعِب، أرقُّ لها ولي، أنا الحبيب الذي لا يرقّ. أنا التي ما علمني أحد كيف أقف معي لا عليّ في مواجهة العالم. ولا تعلَّمتُ كيف أربّتُ على كتفي كلما زاد الثقل في قلبي. 

في ليلة رأس السنة أحب أن أنام قبل الساعة الثانية عشرة بقليل، إن سمح لي الآخرون بذلك، وكأني إن لم أعِ تلك الدقائق الأخيرة فلن أعترف بأنها عبرتني هي الأخرى. الآن، قبل عيد ميلادي الواحد والثلاثين بقليل في رأسي أغنية عن الوحدة أدندنها، وأغنية أخرى عن الحب تُمسك قلبي وتعصره وفي فمي طعمه الحامض، طعم مرّ.

في عيد ميلادي الواحد والثلاثين، في الليلة ذاتها، غادرتْ شقيقتي هذا العالم، وكأنها تعطيني عمرها، كما يواسيني الجميع. تعطيني عمرها حرفيّاً يا الله! 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard