يلاحظ المتتبع للأديب المصري الكبير توفيق الحكيم (1898 – 1987) أن الموسيقى أدّت دوراً مؤثراً في تكوينه الأدبي، وعلى الرغم من هذه الملاحظة، لا توجد حتى الآن دراسة مستقلة تتتبع بتأنٍ هذا التأثير الجلي، باستثناء ما قام به الناقد الأدبي صبري حافظ من جهد مضنٍ في جمع المقالات والفقرات التي تحدث خلالها الحكيم عن ولعه بالموسيقى، وأهّلها وأصدرها في كتاب بعنوان "تأملات في الأدب والفن" الذي صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة؛ ضمن احتفالية الهيئة بمئوية الحكيم في نوفمبر 1998 بالإسكندرية، وذات الأمر مع كتاب "أثر الموسيقى والفن التشكيلي على مسرح توفيق الحكيم"، للناقد الأدبي فوزي شاهين عام 1990 إلى جانب موضوع آخر أعدته هيئة تحرير مجلة الهلال بعنوان "توفيق الحكيم والموسيقى" في عدد خاص عنه (فبراير 1968).
توفيق الحكيم
عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) أقبل الحكيم على تأليف الأناشيد الوطنية الحماسية وأحياناً كان يلجأ إلى تلحينها بنفسه، مسترشداً ببعض الألحان الجنائزية التي كانت تعزفها فرقة حسب الله، عقب المظاهرات التي اجتاحت الشوارع في ثورة 1919.
بدأت علاقة توفيق الحكيم مع الموسيقا في سن الثامنة، إذ لقنته العالمة "حميدة" العزف على العود، كما أنه شاهد جوقة تؤدي مسرحية شهداء الغرام المقتبسة من روميو وجولييت
حيرة الذوق الموسيقي
لم يكن الحكيم مقبلاً على الموسيقى الشرقية فقط، بل كان يميل إلى الغربية أيضاً، إذ يقول في كتابه الشهير "زهرة العمر" المنشور عام 1943: "أتراني أغالط نفسي؟ أخشى أن يكون حبي للموسيقى الأوروبية مصدره أنها قبل كل شيء بناء ذهني، ذلك أن موسيقانا الشرقية –القائمة على الطرب والتأثير المادي – لا تسترعي مني اليوم أي التفات، والواقع أن الموسيقى الأوروبية بناء فني ذهني، شأنها في ذلك شأن القصة التمثيلية! والهندسة المعمارية، بل شأن المذهب الفلسفي والتفكير الرياضي!".
الأكيد أن الرأي السابق لم يأتِ من فراغ، فالحكيم الذي طاف شوارع باريس وشاهد مسارحها أصبح مولعاً بالحضارة الغربية وفنونها، فاحتل بيتهوفن في نفسه مكانة كبيرة، خصوصاً أنه كشف له عن سر التأليف بين صوتين في نفس الوقت، وأدرك عبر موسيقاه هذا التناسق الفريد بين العناصر الإبداعية، وكيف برع فاجنر في تصوير المعاناة والسكون في ألحانه الدينية، أما موزارت فأدهشته طريقته في العزف عندما استمع إلى السيمفونيات الخاصة به والتي تبادلها معه أحد أصدقائه.
نجوم الموسيقا العربية
ما ينبغي التوقف عنده هو ما كتبه الحكيم في فن الأدب عام 1952، حول ثلاثة نجوم لمعوا في سماء الموسيقى العربية، وهم: داود حسني، سيد درويش وكامل الخلعي.
الملاحظة الأولى حول الأسماء الثلاثة تشير إلى كونهم من أعلام المسرح الغنائي في مصر وأن الحكيم قد عاصرهم، إذ يذكر الحكيم أن ألحان درويش الشعبية كانت تسري بين الناس كالنار في الهشيم. وكيف أن درويش كان مولعاً بمشاهدة جوقة الأوبرا الإيطالية في مسرح الكورسال، وهي تعرض "توسكا" و"مدام بتر فلاي" لبوتشيني و"البلياتشو" لليون كافللو، إذ كان الحكيم واحداً من الذين شاهدوا مسرحية "البروكة" في عرضها الأول، فخرج في حالة من الذهول والاستمتاع بما سمعه من ألحان تصويرية، وفي قهوة مجاورة لدار التمثيل العربي، أقبل سيد درويش على الحكيم ورفاقه عقب العرض مع الفنان عمر وصفي، ويقول الحكيم: "لا جدال في أن الثورة المصرية كان لها هذا الأثر في توجيه سيد درويش إلى الإشادة بالمفاخر القومية، في إطار الصوت الصلب، والعواطف الملتهبة، والأداء القوي، كما كان لهذه الثورة فضل على كل ما اتسم به فن هذا الموسيقي من تجديد، فقد خاض أعوامها شاباً متفتح القلب لكل ما تأتي به – في الأفكار والأحداث من جديد".
"أطربت الطبلة في عروض الأراجوز توفيق الحكيم، وبقي إيقاعها يطارد مخيلته منذ أن كان طفلاً، يشاهد أطفال الحيّ يتراقصون أمامها"
كان الحكيم من الذين عرفوا كامل الخلعي عن قُرب، وكان يصف تصرفاته دائماً بالغرابة! ومن هذه المواقف العجيبة ما حدث بينه وبين الشيخ سلامة حجازي، إذ رآه الأخير في أحد الأيام وهو يسير في الشوارع ممسكاً في يده صندوق مسح الأحذية بدلًا من عوده! إذ كان الخلعي من أولئك الذين يترفعون عن طلب المال من أحد، وتعرف عليه الحكيم عام 1923، عندما كلفته فرقة "أولاد عكاشة" بتلحين "رواية" له. وتكررت اللقاءات بينهما وهو يستمع إلى أنغامه العذبة الرقيقة، أما أطواره الغريبة فكانت تلفت نظر الحكيم باستمرار، ومنها طريقة ارتدائه لملابسه وشراؤه لكافة أكواز الصفيح من أحد البائعين، وغيرها من المواقف الطريفة.
يقول الحكيم في حواره مع الغيطاني: "كانت ألحان كامل الخلعي جميلة ورقيقة، كان كثيراً ما يؤلف ألحاناً خاصة به، بدون أن يكون قد اهتدى إلى الكلمات المناسبة، وبعد وقت تصادفه أغنية أو موقف مسرحية، فيطوعها للألحان التي وضعها من قبل".
كان الحكيم يطرب لصوت الطبلة التي يجتمع حولها أطفال الحي أثناء عرض الأراجوز، كان للإيقاع سحر خاص في نفسه، ومهما مرت الأيام يبقى صوت الطبلة في أذنه ساحراً. وبالرغم من حضوره للعديد من المسرحيات الكبرى والعروض التي كانت ترتفع فيها أصوات الطبول الحماسية، إلا أنها لم تكن تطربه بقدر ما تطربه هذه الطبلة البسيطة التي ترن في أذنه منذ الطفولة، وكانت مشاهد أطفال الحي تتراقص أمام عينيه في كل لحظة مهما تقدم به العمر.
بين الأصالة والتجديد
لا يرى الحكيم الموسيقى بوصفها شيئاً واحداً متجانساً، فالأنغام بالنسبة له تأخذ مسارات عدة، إذ كان يشغله دائماً الجدل حول الأصالة والتجديد في الموسيقى الشرقية، والخلاف القائم بين أنصار القديم والجديد. فانطلق في التساؤل حول معنى التجديد في الموسيقى الشرقية، وهل الأمر مشابه لذلك الخلاف الذي قام بين أنصار القديم والجديد في الأدب العربي؟
كان يرى أن المشكلة لا تكمن في الشكل فقط، إي استخدام السجع والتراكيب اللغوية، بل أيضاً في المضمون والقوالب التي تضم الأفكار. فكتب بتعمق في كتابه "أدب الحياة" عام 1976 حول الموسيقى الغربية وقواعدها الثابتة والمعاهد التي تنهض على تدريس مناهجها بين الطلاب والمختصين، واختلافها عن الموسيقى الشرقية التي لا تزال إلى حدٍّ بعيد متوقفة عند الأغنية الطربية التي تُنشد في الحفلات أو الأفراح أو المسارح.
لكنه ذهب إلى أبعد من ذلك عندما أراد أن يفهم رؤية الفنان في التعبير عن بيئته وخلجاته النفسية في الشرق ضمن قوالب غربية، كالأوبرا أو الأوبريت، ورأى أن هذه المسألة لن تُحل إلا بوجود الفنان الواعي المثقف الذي يستوعب كافة أنماط تراثه الشرقي، إلى جانب انفتاحه على الثقافة الغربية في الوقت ذاته، وذلك كي يتمكن من الاقتباس والإضافة في نفس الوقت.
لم يستطع الحكيم الاستماع لأغنية طولها أكثر من ربع ساعة، لذا لم يكن من الشغوفين بأم كلثوم بالرغم من أدراكه لقدراتها الصوتيّة وعبقريتها الموسيقية
ارتبط الموسيقار محمد عبد الوهاب مع الحكيم بعلاقة صداقة وطيدة، وكان الحكيم يدافع باستمرار عن رؤية عبد الوهاب الموسيقية وبراعة تأثره واقتباساته من الموسيقى الغربية، فالفن – من وجهة نظره – تأثير وتأثر. إذ كان يحتفي بعبد الوهاب الذي كان يخضع الاقتباسات الغربيّة إلى روح الموسيقى الشرقية الصميمة، فيخرج العمل في النهاية في ثوب حداثي مختلف، لذلك كان من الطبيعي أن تختار مجلة الكواكب عبد الوهاب مندوباً فنيّاً عنها لمحاورة الحكيم في أحد أعدادها حول المسرح والسينما، كما أن عبد الوهاب كان بطلاً لأحد روايات الحكيم السينمائية الشهيرة "رصاصة في القلب" عام 1944 من إخراج محمد كريم.
توفيق الحكيم مع أم كلثوم- أرشيف الأهرام
لم يكن الحكيم من الشغوفين بالاستماع إلى أم كلثوم لفترة طويلة، رغم إدراكه لعظمة صوتها وعبقرتيها الفنية التي تسحر القلوب، بعكس نجيب محفوظ الذي كان مفتوناً بصوتها، ولعل السبب وراء موقف الحكيم يرجع إلى اهتمامه بالموسيقى الغربية وتفاصيلها التي تخاطب الذهن، على عكس الشرقية التي تجنح نحو التطريب والوجدان، إلى جانب عدم قدرته على الاستماع لأغنية فوق ربع الساعة.
كان الحكيم معجباً أيضا بصوت عبد الحليم حافظ الذي يراه ناعماً كقماش"القطيفة"، كأن صوته ينبع من أعماق قلبه وليس من فمه، وإن كنا قد تعرضنا – هنا – للخطوط الأساسية في علاقة توفيق الحكيم بالموسيقى، فإن ذلك لا يعني أن مقالة وحيدة تفي بالغرض.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...