عام 38هـ، وقعت معركة النهروان بين جيش الخليفة الرابع علي بن أبي طالب والحرورية الذين انشقوا عنه، ورفضوا قبوله للتحكيم في صفين، وفيها هُزم الحرورية وقُتل الكثيرون منهم، وعلى رأسهم زعيمهم عبد الله بن وهب الراسبي.
على الرغم من الأهمية الكبيرة لشخصية الراسبي، بوصفه الإمام الأول لواحد من أقدم الأحزاب السياسية في التاريخ الإسلامي، نجد أن المصادر التاريخية السنّية والشيعية لم تخصّه بالكثير من التفاصيل، فيما قدّمته المصادر الإباضية بصورة إيجابية مثالية إلى حد بعيد.
عند السنّة والشيعة... "لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه"
ظهر اسم عبد الله بن وهب للمرة الأولى في المدونات التاريخية في كتاب "تاريخ الرسل والملوك" لابن جرير الطبري (ت. 310هـ)، وذلك في سياق الحديث عن أخبار بعض المعارك التي خاضها المسلمون في بلاد فارس. يذكر أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أرسل، في العام الـ16 من الهجرة، بالمدد لقائد الجيوش الإسلامية على الجبهة الفارسية، سعد بن أبي وقاص، وذلك قُبيل فتحه لمدينة ماسباذان، وأن عمراً أمر سعداً بأن يعيّن عبد الله بن وهب الراسبي على قيادة أحد أجنحة الجيش أثناء المعركة.
لم تتحدث المصادر التاريخية بعدها عن عبد الله بن وهب، ولم تلقِ الضوء على موقفه من الأحداث المتسارعة التي شهدتها الساحة السياسية، بدءاً من مقتل عمر وحتى وصول الخلافة إلى علي بن أبي طالب، مروراً بخلافة عثمان بن عفان واندلاع الثورة ضده، ومقتله على يد ثائرين عليه في أواخر سنة 35هـ.
ولم تقدّم كتب التراجم والطبقات كذلك أي تفاصيل مهمة عن الفترة الأولى من حياة عبد الله بن وهب، ما عدا كتابين مهمين، أولهما هو "ميزان الاعتدال" لشمس الدين الذهبي (ت. 748هـ)، والذي ورد فيه أن عبد الله بن وهب أدرك الجاهلية، وثانيهما هو كتاب "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر العسقلاني (ت. 852هـ) والذي جاء فيه أن لعبد الله إدراك، ما قد يشير إلى أنه قابل النبي أو أنه أسلم في حياته.
رغم حضور المعلومات السابقة، نجد أن الاغلبية الغالبة من المصادر السنّية عملت على تهميشها بشكل كامل، إذ حاولت أن تنفي أي صلة بين عبد الله بن وهب والصحابة. فعلى سبيل المثال، سنجد ابن حزم (ت. 456هـ) يصرح، في كتابه "جمهرة أنساب العرب"، بأن ابن وهب هو "أول مَن قدم الخوارج على أنفسهم يوم النهروان وسموه بالخلافة، وكان من خيار التابعين، فقتل يومئذ"، كما أنه يعود مرة أخرى للحديث عن المسألة بشكل أكثر وضوحاً في كتابه المشهور "الفصل في الملل والأهواء والنحل"، فيقول: "لم يقع اختيارهم (أي الخوارج) إلا على عبد الله بن وهب الراسبي، أعرابي بوال على عقبيه لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه ولا شهد الله له بخير قط، فمَن أضلّ ممّن هذه سيرته واختياره".
التأكيد على أن عبد الله بن وهب لم يكن من الصحابة ورد أيضاً، بشكل ضمني، في العديد من المدونات السنّية، ومنها على سبيل المثال كتاب "طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (ت. 526هـ)، والذي جاء فيه أن عبد الله بن العباس قال في مناظرته لأهل النهروان "أتيتُكُم من عندِ صحَابَةِ النَّبيِّ مِنَ المهاجِرينَ والأنصارِ… ولَيسَ فيكُم منهُم أحَد"، وأن أحداً من الخوارج لم يرد عليه بأن فيهم أحد أصحاب الرسول.
رغم التأكيد على عدم صحبته، إلا أن مصادر كثيرة تحدثت عما اتّصف به ابن وهب من العبادة والزهد والتقشف. فعلى سبيل المثال، يصفه ابن حجر بأنه "كان عجباً في كثرة العبادة حتى لقب ذا الثِفنَات، وكان لكثرة سجوده صار في يَديهِ ورَكبتيه كثَفِنات البعير". في السياق نفسه، تحدث عنه ابن كثير (ت. 774هـ)، في كتابه "البداية والنهاية"، فقال: "وكان عبد الله بن وهب الراسبي قد قحلت مواضع السجود منه من شدة اجتهاده وكثرة السجود، وكان يقال له: ذو البينات".
تركيز المصادر التاريخية على شخصية ابن وهب بدأ مع وقوع الفرقة والخلاف في معسكر العراق بعد قبول علي بن أبي طالب بالتحكيم. وفي هذا السياق، يورد ابن الأثير (ت. 630هـ)، في كتابه "الكامل في التاريخ"، نص الخطبة التي ألقاها الراسبي على الخوارج في منزله، بعد أن أعلنوا موقفهم المعارض للخليفة الرابع، فيقول ابن الأثير إن ابن وهب خطب فيهم "فزهدهم في الدنيا وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: اخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلة"، وإنهم بعد أن فارقوا معسكر العراق تباحثوا في أمر الزعامة والرياسة فعرضوا الخلافة على كل من زيد بن حصين الطائي وحرقوص بن زهير، فلما رفضا، عرضوا الأمر على عبد الله بن وهب الراسبي، فقبل، وقال: "هاتوها، أما والله لا آخذها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقاً من الموت".
بحسب السرديتين السنّية والشيعية، اشتهر الراسبي بكرهه للخليفة الرابع، حتى لم يكن يسمّيه إلا الجاحد، وأمر أتباعه باقتراف بعض الجرائم، ومن أشهرها أنهم كانوا يعترضون المسافرين ويسألونهم عن رأيهم في ما وقع من فتن، فلما مر عليهم والي المدائن عبد الله بن خباب بن الأرت وزوجته، وفهموا من كلامه أنه يخطئهم في الخروج على علي بن أبي طالب "قتلوه وبقروا عن بطن امرأته"، وذلك بحسب ما يذكر المطهر بن طاهر المقدسي في كتابه "البدء والتاريخ". كل ذلك أجبر الخليفة الرابع على قتال الخوارج، لتقع معركة النهروان في 38هـ، وهي المعركة التي شهدت مقتل عبد الله بن وهب الراسبي.
"على الرغم من الأهمية الكبيرة لشخصية عبد الله بن وهب الراسبي، بوصفه الإمام الأول لواحد من أقدم الأحزاب السياسية في التاريخ الإسلامي، نجد أن المصادر التاريخية السنّية والشيعية لم تخصّه بالكثير من التفاصيل، فيما قدّمته المصادر الإباضية بصورة إيجابية مثالية إلى حد بعيد"
وفي "كتاب الفتوح"، تحدث المؤرخ الشيعي أحمد بن أعثم الكوفي (ت. 314هـ) عن تفاصيل الساعات الأخيرة في حياة إمام الخوارج، فقال: إن عبد الله بن وهب قد وقف في المعركة منادياً "يا بن أبي طالب! حتى متى يكون هذه المطاولة بيننا وبينك! والله لا نبرح هذه العرصة أبداً أو تأبى على نفسك، فأبرز إلي حتى أبرز إليك وذر الناس جانباً". كما يذكر ابن أعثم أن الراسبي كان يتجول في المعركة بين الصفوف منشداً بعض القصائد الحماسية، حتى خرج علي بن ابي طالب لقتاله، فقتله بضربة واحدة من سيفه.
ولم تُظهر بعض الروايات نهاية عبد الله بن وهب على تلك الصورة الإيجابية التي تظللها راية الشجاعة واليقين بالوقوف على جانب الحق، بل صورته شاكاً في معتقده، إلى درجة أن الكثيرين من أتباعه فارقوه أثناء المعركة. من تلك الروايات ما ذكره المبرد (ت. 286هـ)، في كتابه "الكامل في اللغة والأدب"، من أنه عندما ضرب علي بن أبي طالب رجلاً من الخوارج بسيفه، قال الخارجي: "حبذا الروحة إلى الجنة، فقال عبد الله بن وهب: ما أدري إلى الجنة أم إلى النار، فقال رجل من بني سعد وهو فروة بن نوفل الأشجعي: إنما حضرت اغتراراً بهذا وأراه قد شك؟ فانعزل بجماعة من أصحابه".
عند الإباضية... صحابي زاهد، وإمام عادل
لما كانت فرقة الإباضية واحدة من بين الفرق المنبثقة عن أهل النهروان، كان من الطبيعي أن نجد إجماع المدونات الإباضية على تقديم صورة إيجابية عن شخصية عبد الله بن وهب الراسبي باعتباره واحداً من بين الصحابة المحترمين والمبجلين.
على سبيل المثال، سنجد أن المؤرخ الإباضي أبا العباس الدرجيني (ت. 670هـ تقريباً) وصف الراسبي في كتابه "طبقات المشائخ بالمغرب" بقوله: "كان ذا رأي وحزم ودين وعلم، وقع به الائتلاف وارتفع في أيامه الخلاف، فلم يزل يقول بالحق ويحكم بالعدل، ويلطف بالرعية ويقسم بالسوية، حتى قبض رحمة الله عليه".
في السياق نفسه، وصفه الباحث محمد علي دبوز في كتابه "تاريخ المغرب الكبير" بقوله إنه كان "من الصحابة الزاهدين، ومن العلماء في الدين، وكان ذكي الفؤاد، حاز ما في الأمور، قوي الشخصية، شجاعاً صارماً في مواطن الصرامة، صلب في الأماكن التي تجب فيها الصلابة، داهية حكيماً، يتوج هذه الصفات العقلية والخلقية كلها ورعه وتقواه ونزاهته وتمسكه كل التمسك بالدين، وعمله لآخرته لا لدنياه، وتفانيه لمصلحة المسلمين واجتهاده في خدمتهم".
وأكد الإباضية على صحبة الراسبي للرسول، واستدلوا على ذلك بما ورد من إشارات مبهمة في كتب الذهبي وابن حجر العسقلاني، كما أنهم استشهدوا بما ذكره الطبري عن تعيين الراسبي قائداً لأحد أجنحة الجيش في العراق، وكيف أن عمر بن الخطاب لم يكن يعيّن على قيادة الجيوش إلا الصحابة فقط دوناً عن غيرهم من عامة المسلمين.
"بحسب الكثيرين من الباحثين الإباضيين، ومنهم سالم بن حمود السيابي، في كتابه ‘العرى الوثيقة’، كان معاوية بن أبي سفيان سبب نشوب معركة النهروان بين علي بن أبي طالب وعبد الله بن وهب الراسبي..."
بحسب السردية الإباضية، خرج عبد الله بن وهب مع أصحابه من معسكر الخليفة الرابع بعد أن رفضوا موقفه من التحكيم، واتجهوا إلى منطقة حروراء الواقعة بين حلوان وبغداد، بعيداً عن الكوفة (معقل علي وأنصاره) لأنهم لم يريدوا أن يتصادموا مع جيش العراق، وفي العاشر من شوال من السنة الـ37 من الهجرة بويع الراسبي بالإمامة، ولما كان هدفه الأول هو حشد الناس ضد معاوية وجيش الشام، فإنه لم يكد يتولى السلطة إلا ووجّه رسله إلى أتباعه المنتشرين في كافة أنحاء العراق، وضرب معسكره في أرض النهروان، ليصبح قبلة لكل الحرورية.
بحسب الكثيرين من الباحثين الإباضيين، ومنهم سالم بن حمود السيابي في كتابه "العرى الوثيقة"، كان معاوية بن أبي سفيان سبب نشوب معركة النهروان بين علي بن أبي طالب وعبد الله بن وهب الراسبي، ذلك أن معاوية أرسل إلى أحد أتباعه المتظاهرين بنصرة الخليفة الرابع، وهو الأشعث بن قيس الكندي، يأمره بأن يحرض عليّاً على قتال عبد الله بن وهب ومَن معه، وكان هدفه من وراء ذلك أن يُضعف جميع أعدائه، ليبقى صاحب القوة الأكبر في ميادين القتال.
بحسب تلك السردية، أشاع الأشعث أن الحرورية قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت، وقتلوا زوجته أيضاً بعدما بقروا بطنها وأسقطوا جنينها، كما أشاع أن الحرورية هم الذين بدأوا بقتال جيش علي. رغم كل ذلك فإن الخليفة الرابع لم يرد محاربة الحرورية، بل سار لقتال أهل الشام، غير أن الأشعث وأتباعه لوحوا بالثورة، وفرضوا على الخليفة أن يتجه أولاً لقتال الحرورية، وكان جيش علي في هذا الوقت قد بلغ السبعين ألف مقاتل، بينما لم يزد عدد أنصار عبد الله بن وهب عن الأربعة آلاف.
بحسب السيابي، أرسل الخليفة الرابع قيس بن سعد بن عبادة للنقاش مع عبد الله بن وهب، ويبدو أن تلك المناقشات أدت إلى تقريب وجهات النظر بين الفريقين، وانتظر الحرورية أن يأتي لهم علي بن أبي طالب ليعلن مصالحتهم، ولكن أتباع الأشعث بن قيس بدأوا بالقتال، وسرعان ما نشبت معركة غير متكافئة بين الفريقين انتهت بهزيمة الحرورية ومقتل الأغلبية الغالبة منهم.
عبد الله بن وهب وعبد الله ابن سبأ... رجل واحد أم رجلان؟
من بين النقاط المهمة المثيرة للجدل حول شخصية عبد الله بن وهب الراسبي، مسألة التشابه الشديد مع شخصية عبد الله بن سبأ، والذي تعزو إليه المصادر الإسلامية دوراً مؤثراً في وقائع الفتنة واندلاع الحرب الأهلية بين معسكري العراق والشام.
بعض العلماء صرحوا بوجود علاقة وثيقة بين الرجلين، ومنهم سعد بن عبد الله الأشعري في كتابه "المقالات والفرق"، إذ قال في سياق حديثه عن فرق الشيعة المختلفة: "وأول مَن قال منها بالغلو، وهذه الفرقة تسمى بالسبئية أصحاب عبد الله بن سبأ وهو عبد الله بن وهب الراسبي". أيضاً، ذكر السمعاني في كتاب الأنساب أن "عبد الله بن وهب السبئي رئيس الخوارج، وظني أن ابن وهب هذا منسوب إلى عبد الله بن سبأ".
في الحقيقة، يمكن القول إن هناك مجموعة من النقاط المتشابهة بين عبد الله بن سبأ وعبد الله بن وهب الراسبي، منها التشابه في الاسم، فكليهما سُمي بعبد الله، ومن ذلك أيضاً الاتفاق في النسب والأصل القبلي، ذلك أن الكثير من المصادر تؤكد على أن ابن سبأ من قبائل همدان، كما تؤكد على أن الراسبي من قبائل الأزد، ومن المعروف أن كلاً من همدان والأزد من القبائل السبئية اليمنية.
الباحث الشيعي المعاصر مرتضى العسكري عمل في كتابه "عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى"، على تفسير العلاقة الغامضة بين الاسمين، فذكر أن شخصية عبد الله بن سبأ شخصية مزيفة، لم يكن لها وجود تاريخي، وأن بعض الإخباريين من أهل السنّة والجماعة اختلقوها لتبرئة ساحة أكابر الصحابة ممن اشتركوا في الحرب والفتنة. في هذا السياق، تحدث العسكري عن التطور الإيتمولوجي (علم تطور المصطلح) لكلمة السبئية، وهو الاسم الذي أُطلق على كل من الشخصيتين، فقال: "إن السبئية وجدت منذ العصر الجاهلي، وكانت تدل على الانتساب إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ومرادفة للقحطانية، وكذلك كانت مرادفة لليمانية نسبة إلى بلدهم الأول اليمن".
بحسب العسكري، فإن الإخباريين -وعلى رأسهم سيف بن عمر التميمي- حرّفوا "مدلول كلمة السبئية إلى المدلول المذهبي الجديد"، كما قاموا بتصحيف اسم عبد الله بن وهب الراسبي السبئي، ليصبح عبد الله بن سبأ مؤسس السبئية، وهكذا اختلقت شخصية ابن سبأ مؤسس الشيعة بحسب المُتخيل السنّي، بناءً على صورة عبد الله بن وهب الراسبي، أول زعماء الخوارج.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...