يُعدّ سائقو سيارات الأجرة في منطقة الشرق الأوسط، أهم مصادر المعلومات والشائعات ونظريات المؤامرة. هم الفئة الأكثر لقاءً بزبائن من خلفيات متعددة وشرائح اجتماعية مختلفة، وأستطيع القول بثقة إن الفوارق بين سائق تاكسي في دمشق وآخر في القاهرة، هو حفظه شوراع المدينة فحسب. الأمر نفسه تقريباً في إسطنبول مع اختلافات بسيطة وأهمها اللغة والطبائع الاجتماعية المختلفة (الحديث لا يدور هنا بالتأكيد عن عناصر الأمن التابعين للنظام السوري وكان عملهم هذا من أهم مصادر جمع المعلومات وهو أمر يمكن الحديث عنه لاحقاً).
إسطنبول مدينة جميلة وعظيمة، لكنها ليست كذلك للكثيرين من سكانها وبينهم السوريون المنهكون.
فرض على طبعي وعملي لاحقاً الاستماع إلى هذه الشريحة القادرة على إغناء العقل والخيال بعشرات الأفكار لمقالات وقصص وأفلام قصيرة، عدا عن القدرة على تقديم خدمات مختلفة لا تخطر على بال البشر.
في إحدى الرحلات مع سائق سيارة أجرة في إسطنبول، وبعد فترة من الصمت لم يستطع مقاومة الفضول وبدأ بسلسلة الأسئلة المعتادة: "من أين أنت؟ هل ستعود إلى سوريا؟ كيف حال الحرب؟ هل الأسد قاتل؟"، وبعد إجابات قصيرة وسط الزحام والتعب قال لي: "إن رغبت في البقاء في تركيا لا تبقَ في إسطنبول، هذه المدينة قاسية ومليئة بالتوتر، ارحل إلى مدينة أصغر وستكون سعيداً وسط الأتراك".
دفعني سؤاله للتفكير في أصدقائي البعيدين في القارة العجوز، العالقين وسط الجليد والثلوج والبيروقراطية وغلاء المعيشة ورغبتهم الدائمة والعارمة في القدوم إلى إسطنبول، ولو في زيارة سريعة، عدا عن السوريين الآخرين الحاصلين على إحدى الجنسيات الأوروبية والذين عادوا إلى تركيا مجدداً.
يمكن ببساطة تقسيم إسطنبول، المدينة المعقدة، إلى وجهتي نظر، واحدة للمقيمين قسراً أو رغبة فيها، وأخرى للقادمين في زيارة سريعة.
الأولى تتلخص في أحجار أثرية، وسوق طويل مسقوف بمداخل ومخارج قادرة على إضاعة أقوى ذاكرة بشرية، وأصوات وحياة وزحام، وضوء شمس يغمر المدينة، وكأس شاي في منطقة البوليفار، وصور في السليمانية وعلى البوسفور. مدينة تشبهنا وتشبه مدننا الغائبة التي نحن محرومون منها. أصوات سورية في الفاتح وكأنها سوريا الصغرى تحاول المعارضة إسكاتها، هذا حال إسطنبول لمن لا يعرف. يأتي أصدقائي كسياح، ويتفاجؤون برخص الأسعار بناءً على سعر صرف اليورو أمام الليرة التركية، بل ويمضي البعض منهم بشخصية (عنا بأوروبا مو هيك أبداً)، وكأن الحليب الذي رضعه جده لم يكن من صدر أمه السورية الأصيلة بل من بقرة سويسرية في قرية "هايدي".
في كل صيف علينا نحن المقيمين في إسطنبول قسراً أو رغبة، إعداد العدة لاستقبال أصدقائنا البعيدين المقيمين في بلاد البيروقراطية والروتين والجليد والواصلين إلى مدينة دافئة، رغبةً منهم في التنفس لا أكثر
في كل صيف علينا نحن المقيمين في إسطنبول قسراً أو رغبة، إعداد العدة لاستقبال أصدقائنا البعيدين المقيمين في بلاد البيروقراطية والروتين والجليد والواصلين إلى مدينة دافئة، رغبةً منهم في التنفس لا أكثر. إسطنبول مدينة جميلة وعظيمة، لكنها ليست كذلك للكثيرين من سكانها وبينهم السوريون المنهكون.
نعم منهكون، وبعضهم يعيشون في قاع العجز من دون قدرة على التفكير في الحراك، تائهين وسط القرارات الحكومية والخوف والقلق والتعب وغلاء المعيشة، خائفين من الغد والأوراق والمعارضة والحكومة، وضحايا للعبة السياسة من دون حلول عاجلة أو آجلة!
نعم نحن منهكون يا أصدقاءنا وأنتم أيضاً، وأرى ويرى غيري الغيرة في عيونكم من حياتنا في إسطنبول ولا تعرفون عن تفاصيلها شيئاً. أسمع ويسمع غيري صوت "الآه" وأنتم تتناولون "سندويشة شاورما" لا توجد في برلين وضواحيها مثيلة لها، لكن هناك أصوات آهات أخرى لا تعرفونها ولا تسمعونها.
أنا أيضاً أحب إسطنبول، وزرت أوروبا وعشت في الشرق الأوسط، ولم أشعر بحب لمدينة كما شعرت تجاه إسطنبول، لكنه حب من طرف واحد.
أنا لا ألوم ولا أعتب، و"من أنا لأقول لكم ما أقول؟"، لكنني أفكر معكم ومعنا بطريقة أخرى، ولا أقول لا تزوروا إسطنبول، فنحن نحبكم أيضاً وفي انتظاركم دائماً، لكنني هنا أحاول التفكير في اختلاف النظرة إلى المدينة الجميلة.
ترونها عظيمةً ونراها مُنهكةً، ترونها دافئةً ونراها باردةً، ترونها مرحبةً تضمكم كخالة لا تعرفونها في قرية ما ترحب بضيوفها، لكنها لا تحبنا ولا تضمنا، وتقسو علينا كما إقطاعي يعيش في نهاية القرن الـ19!
أنا أيضاً أحب إسطنبول، وزرت أوروبا وعشت في الشرق الأوسط، ولم أشعر بحب لمدينة كما شعرت تجاه إسطنبول، لكنه حب من طرف واحد، تنظر إلي أنا السوري القادم من مصر بترفّع وتكبّر ودلال ورفض. لماذا ترفضنا وتقبلكم؟
لا أقول لا تزوروا إسطنبول، نحن جميعاً نحبكم وفي انتظاركم لكنني أفكر بوجهة نظر مختلفة بشكل جذري. دعوني أقول إنها وجهة نظر نصف مستشرق وسائح ووجهة نظر نصف ابنٍ للمدينة، فأنتم يا أصدقائي لا تحملون خوفكم في قلوبكم لأنكم سوريون مثلنا!
تعرف إسطنبول أنني أيضاً انحدر من مدينة كانت تشبهها، أرجوكم ركزوا على كلمة كانت، وأنه لولا آل الأسد لكانت ربما أجمل منها، وأن الظروف السياسية جمعتهما قبل مئة عام تحت حكم واحد، ولا تنسى أنني من بلد كان جميلاً اسمه "سوريا"، وأن في دمشق حارات أقدم من إسطنبول كلها، وتخبرني بذلك كل يوم. هل تخبركم باريس وبرلين وستوكهولم ومالمو ومارسيليا وبروكسل بالمعلومة نفسها؟ كلهم كاذبون لا تصدقوهم!
ترون إسطنبول جميلةً بين سوق هنا وزحام هناك ودلال في طرف آخر، تاريخ وجغرافيا وحياة، وتتنفسون وتعودون إلى حياتكم القاسية، وهنا بالضبط الفارق بيننا وبينكم؛ أننا لا نتنفس، فقط!
نحن في انتظاركم هذا الصيف، لنذهب معاً إلى السليمانية ونمشي في حاراتها ونرى الخليج من هناك ونتحدث كم تشبه دمشق وحلب، ولنمشي معاً في البازار الكبير ونندهش ونضيع، ولنزور سوريا الصغرى في مناطق الفاتح وباشاك شهير، ولنتصور أمام البوسفور معاً ولنتحسر على بلد أضاعوه من بين أيادينا كان اسمه "سوريا".
غداً سنلتقي مجدداً في الصيف وسنفرح وننسى ونكسر معاً روتين حياتنا القاسية، لكننا لن نغني يا "إسطنبول" عاد الصيف، وسنخفض أصواتنا في الشارع لكيلا ينظر إلينا بعض العنصريين بنظرة تكبر واحتقار، وسنخفض أصواتنا في البيوت لأن جيراننا ربما يتصلون بالشرطة، وهذا يحصل عندكم أيضاً أليس كذلك؟
نحن في انتظاركم هذا الصيف، لنذهب معاً إلى السليمانية ونمشي في حاراتها ونرى الخليج من هناك ونتحدث كم تشبه دمشق وحلب، ولنمشي معاً في البازار الكبير ونندهش ونضيع، ولنزور سوريا الصغرى في مناطق الفاتح وباشاك شهير، ولنتصور أمام البوسفور معاً ولنتحسر على بلد أضاعوه من بين أيادينا كان اسمه "سوريا"
ثم سنعود إلى قلقنا وهواجسنا وخوفنا، وستعودون إلى الروتين والبيروقراطية والبرد، وسنمارس جميعاً "السق والنق" عبر وسائل التواصل الاجتماعي. تعالوا يا أصدقائي، زيارتكم تجعلنا نتنفس وننسى، تعالوا لتجتمعوا بأحبائكم وأصدقائكم، نحن في انتظاركم في إسطنبول وهي المكان الوحيد الباقي القادر على جمعنا حالياً، لكن لا تصدقوها، نعم إسطنبول ساحرة تعرف ونعرف وتعرفون، لكنها تكذب عليكم بمدى قسوتها.
لذا وبسبب كل ما سبق أقول لكم إن عدت يوماً إلى سوريا وعدتم والتقينا هناك سيبقى صوتنا عالياً، وإن اشتكى الجيران سأطلب منهم مشاركتنا الغناء وشرب العرق، وإن كذبت علينا مدننا سنحرقها عن بكرة أبيها، ولن ندعها تكون قاسيةً مجدداً، سنحبها ونجبرها على حبنا، ونعيدها جميلةً ومدللةً!
ربما أعود إلى سوريا وتبقى وجهات النظر التي سردتها في الأعلى من دون معنى، حينها سأشكو لدمشق ما فعلت بنا إسطنبول الجميلة وكيف جعلتنا مدن أوروبا نشعر بالبرد، وكيف أن الحضارة تسقط مع اختلاف لون العيون والبشرة ونظريات القومية الخرقاء!
هل نلتقي هناك يوماً؟ لا أعلم ولا تعلمون ولا مدننا تعلم كذلك، وحتى ذلك الحين نحن في انتظاركم في إسطنبول لنتنفس معاً وننسى القلق لخمس دقائق!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...