بعد ساعات قليلة من قرارات يوم الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، التي أعلنت تحرير سعر صرف الجنيه في مواجهة العملات الأجنبية، تفجر على وسائل التواصل الاجتماعي في مصر طوفان هادر من الرسوم والنكات الساخرة من الحكومة والمشروعات القومية والعملة "الوطنية" التي توقع لها المصريون "الغرق" بعدما واجهوا مصطلح "التعويم" للمرة الأولى.
وقتذاك، وجدت البلاد نفسها في مواجهة أزمة تهدد استقرار الدولة والحكم بعد تبخُّر الاحتياطي النقدي الأجنبي الذي تستعين به البلاد لتوفير احتياجاتها الأساسية من قمح وحبوب وزيوت ومشتقات بترولية وأدوية أساسية وغيرها من السلع "الإستراتيجية" التي تمثل قوام الحياة في مصر.
أتى قرار الحكومة وقتها متأخراً، بعدما قفز سعر الدولار في السوق الموازية (السوداء) إلى 20 جنيهاً، وكان من أثر التدخل تراجع الدولار خلال أسابيع ليستقر عند سعر 16 جنيهاً تقريباً. وتدخلت الحكومة في ضخ الدولار إلى السوق لتدير "التعويم"، فاستقر الدولار بفعل القروض عند نحو 15 جنيهاً و70 قرشاً، وهو السعر الذي انتهى العمل به في الثامنة من صباح أمس الإثنين 21 مارس/ آذار، بعد اجتماع مفاجئ للجنة سياسات البنك المركزي المصري، اتخذ خلاله بشكل غير معلن قرار خفض الجنيه أمام الدولار الذي قفز (لدى نشر هذه السطور) إلى 18.55 جنيه وسط توقعات بقفزات جديدة مقبلة في ظل تعهدات الفيدرإلي الأمريكي تحريك سعر الفائدة صعوداً.
استقر الدولار بفعل القروض عند نحو 15 جنيهاً و70 قرشاً، وهو السعر الذي انتهى العمل به في الثامنة من صباح 21 مارس/ آذار، وسط توقعات بقفزات جديدة مقبلة في ظل تعهدات الفيدرالي الأمريكي تحريك سعر الفائدة صعوداً
هذه المرة جاءت ردود الأفعال من المواطنين مختلفة تماماً عن موجة التعويم الأولى عام 2016، مرافقة لمضاعفة أسعار السلع الغذائية والبترولية عدة مرات، وتنفيذ الحكومة برنامج تقشف قاس تضاعفت معه أسعار الخدمات، في وقت تلوح زيادات أخرى بفعل موجة تضخمية منتظرة جراء رفع الحكومة سعر الفائدة وخفض الجنيه في وقت واحد. وظهرت التساؤلات المتخبطة والتعليقات الغاضبة، فيما كادت تختفي الكتابات والرسوم الساخرة إلا قليلاً. فلماذا تغيّر رد فعل المصريين هذه المرة؟
الجنية المصري كل شوية يقع
— For Loop (@We_Are_ForLoop) March 21, 2022
الشركات الأجنبية ال فاتحة فى مصر عشان عمالة رخيصة : pic.twitter.com/ttGOhtr6YI
وجوه عابسة
السائر في الشارع القاهري يلاحظ أن السنوات الأخيرة شهدت تغيرات واضحة. فقد قلّ كثيراً عدد ركاب المترو الليليين من أجل فسحة رخيصة في حديقة أو على كورنيش النيل . قل العدد حتى انعدم خلال العامين الماضيين مع اتساع نطاق "تطوير" شوارع وميادين القاهرة وكورنيش النيل، الذي انتهى إلى إزالة حدائق وأشجار على نحو كامل، وصار الكورنيش محلاً لمشروع قومي آخر هو "ممشى أهل مصر" الذي يتطلب التنزه فيه القدرة على دفع تكاليف المقاهي التي باتت تحتل كورنيش نيل القاهرة من شبرا إلى التحرير.
لم يعد مترو الأنفاق ساحة للنقاش والمزاح والشكوى بين الغرباء، خاصة مع انتشار الخوف من وجود "مخبرين" بين الركاب، وتكرار القبض على مواطنين لأنهم همسوا بالشكوى من الغلاء، أو أثاروا ريبة ركاب آخرين بعد حديثهم بالإنجليزية. أما وجوه الركاب الصامتة فيعلوها البؤس والعبوس.
يزدحم التاريخ بالعديد من الحكايات التي ترصد كيف استعان المصريون بالسخرية في أشد اللحظات قتامة.
يذكر أبو المؤرخين المصري تقي الدين المقريزي في كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة" أن أولى حالات الغلاء وقعت بمصر كان في زمن الملك السابع عشر من ملوك مصر القديمة ويسميه المقريزي "أفروس بن مناوش"، ويزعم أن طوفان نوح وقع في زمنه، وكان سبب الغلاء ارتفاع الأمطار وقلة ماء النيل، "فعقمت أرحام البهائم وصارت أسعار الأشياء في غاية الارتفاع وصار كل شيء عزيزًا ونادراً".
هذه المرة جاءت ردود الأفعال من المواطنين مختلفة تماماً عن موجة التعويم الأولى عام 2016، وظهرت التساؤلات المتخبطة والتعليقات الغاضبة، فيما كادت تختفي الكتابات والرسوم الساخرة. فلماذا تغيّر رد فعل المصريين هذه المرة؟
ويعرج المقريزي في شرحه لموجات الغلاء التي ضربت مصر على مر العصور إلى سنة 87هـ، وتحديداً في زمن "الوليد بن عبد الملك بن مروان" الذي شهد حكمه إثقال الأمويين على مصر وأبنائها بالجزية والخراج والاستيلاء على الذهب والقمح لمصلحة عاصمة الخلافة الفتية، ليكون أول غلاء تشهده مصر في زمن الإسلام، وكان الأمير آنذاك هو "عبد الله بن عبد الملك بن مروان"، الذي تشاءم به الناس وكرهوا إمارته كراهية شديدة، وكان محور سخريتهم، كما جاء في تاريخ البطاركة (آباء الكنيسة القبطية) لساويرس بن المقفع.
ماذا تغير؟
يرى الدكتور جمال فرويز، الاستشاري في الطب النفسي، أن هناك تراجعاً عاماً في الصحة النفسية في مصر. يقول لرصيف22: "تغير كل شيء، لم يبق من الشخصية المصرية إلا القليل، المواطن تعرض لما يشبه المطحنة بالتداعيات الاقتصادية أو بالهزائم اليومية التي يتعرض لها في الشارع".
يرجع فرويز غياب روح الدعابة عن شعب عرف عبر التاريخ بأنه "شعب ابن نكتة" إلى شدة وطأة ما تعرض له المصريون من ضغوط اقتصادية خلال السنوات الأخيرة.
واحتلت مصر موقعاً متأخراً على مؤشر السعادة الذي أطلقته الأمم المتحدة قبل يوم واحد من اتخاذ الحكومة قرار خفص العملة، في مناسبة اليوم العالمي للسعادة، وجاءت في المركز 129 من مجموع 146 الدولة، أي من الدول الـ15 التي تتذيل القائمة.
ويقاس مؤشر السعادة من خلال نقاط تحسب على أساس شعور الأفراد بالسعادة، وتوفر الشفافية والمحاسبة، والحريات الفردية وحرية التعبير والدخل الإضافي والدعم الاجتماعي. ولم تحقق مصر نقاطاً كثيرة في تلك المجالات.
لم يعد مترو الأنفاق ساحة للنقاش والمزاح والشكوى بين الغرباء، خاصة مع انتشار الخوف من وجود "مخبرين" بين الركاب، وتكرار القبض على مواطنين لأنهم همسوا بالشكوى من الغلاء. أما وجوه الركاب الصامتة فيعلوها البؤس والعبوس
يواصل فرويز: "الشعب المصري بطبيعته عاشق للكوميديا ويلجأ إليها في أحلك الظروف من أجل تخفيف حدة الأزمات"، مذكراً أن النكتة السياسية والاجتماعية كانت حاضرة دوماً في الشارع المصري، لكنها تراجعت كثيراً في السنوات الأخيرة حتى أنك لا تكاد تسمع التعبير المصري الشهير: "سمعت آخر نكتة؟". مضيفاً أن "دخول ثقافات جديدة وتأثر الشخصية المصرية بها، غيّرا من نمط المصريين المعتاد في التعامل مع الأزمات".
عام 2008، نشرت وكالة رويترز تقريراً نقلاً عن دراسة أعدتها جامعة ولفرهامبتون الإنجليزية عن أقدم عشر نكات في العالم، وجاءت مصر في المرتبة الثانية لنكتة تعود إلى عام 1600 قبل الميلاد وتسخر من الحاكم. تقول النكتة كما ترجمتها الدراسة: "إزاي تسلي فرعون لو زهقان؟ تجيب مركب في النيل وكل اللي عليه بنات وتلبسهم شبك صيد وتطلب من الفرعون يروح يصطاد". وتهزأ النكتة بولع الحاكم بالنساء وهوسه بإرضاء شهواته واعتبارها دافعه الوحيد للتحرك من مكانه.
ويرى فرويز أن غياب الشفافية وترك مهمة "تمهيد" القرارات لإعلاميين لا يتمتعون بالصدقية لدى الناس واعتمادهم التبرير على حساب الشرح وتقديم المعلومات الصحيحة، من شأنهما أن يزيدا تعاسة المواطنين، إذ يشعرون أنهم غير مهمين، وأنهم منفصلون عن وطنهم ودورهم هو دفع تكلفة القرارات. يقول: "من دون ذكر أسماء، لا يجوز أن نتحدث عن بيض أورغانيك في حين أن المواطنين يجدون صعوبة في شراء كرتونة البيض التي وصل سعرها إلى ما فوق ستين جنيهاً. ما حدث هو دلالة على أن الشعب في وادي والإعلاميين في وادٍ آخر"، متسائلاً: "أين رجال الدولة من المواجهة مع الشعب الذي يكفيه فقط المصارحة حتى يتفهم الوضع ويتحمل الفاتورة كاملة؟ هناك ثلاث نقاط أساسية يجب الالتزام بها وهي: الوعي ثم المجاهرة ثم الارتياح. هذه النقاط روشتة للتعامل مع المواطن الذي تحمّل عبر تاريخه العديد من الأزمات.
أما عن الفرق بين ردود الفعل حيال ما حدث في عامي 2016 و2022، فيقول الاستشاري النفسي: "هو الفرق بين الغموض والمعرفة. عام 2016 كانت هناك ظروف أمنية تجبرنا على أن نتجرع مرارة القرار باعتباره نابعاً من إرادة وطنية لمواجهة الظروف التي يفرضها علينا الإرهاب ومحاربته. لكن بعد أن انزاحت الغمة عام 2022، لم يعد هناك ما يمكن أن يبرر للناس تحمل تلك الفاتورة، خاصة في ظل انمساخ ثقافي أثّر سلباً في الشخصية المصرية".
نقص الدولار وانسحاب المستثمر
يرى الباحث الاقتصادي إلهامي الميرغني أن القرار يأتي هذه المرة في ظروف مختلفة، "فالمواطن المصري يعاني الأمرَّين من الأزمة الاقتصادية الحالية"، لافتاً إلى أن الفرق بين ما حدث عام 2016 من تعويم الجنيه وما تبعه من خفض قيمة الجنيه عام 2022 "كبير وشاسع".
ويوضح الميرغني: " عام 2016، وصل التخفيض 57% من قيمة الجنيه. كانت تتوافر لدى الدولة احتياطيات من النقد الأجنبي وودائع ساهمت في احتواء آثار التخفيض. ورغم ذلك وصلت معدلات التضخم إلى 35% عام 2017"، عام 2022، اضطرت الدولة إلى رد بعض الودائع بالدولار ، و"أصبح لدينا نقص في الدولار صاحبه انسحاب المستثمر السريع من مصر عقب حرب أوكرانيا. لذلك كان لا بد من تدخل عاجل على مستوى الموازنة بمنح العلاوة مبكراً ثلاثة أشهر، فضلاً عن حشد كل الوزرات والأجهزة لمراقبة الأسواق".
ويضيف الباحث الاقتصادي: "يصعب التنبؤ بتداعيات الأزمة وتأثيرها على محدودي الدخل من ناحية، وعلى المستثمرين من ناحية أخرى. علماً أن المواطن يعاني من رفع سعر البنزين وزيت الطعام وأنبوبة البوتاغاز والعيش السياحي... ".
ويختم: "إن تحركات الدولة ومعارض أهلا رمضان ومنافذ بيع القوات المسلحة والشرطة وصندوق تحيا مصر والمجمعات الاستهلاكية، بالإضافة إلى الرقابة المباشرة والعقوبات الفورية على المخالفين، هذه كلها ستخفف من الضغوط. ولكن إلى أي مدى؟ الرقابة ليست مستمرة ولا توجد مؤشرات على إحكامها، والتجار بانتظار أي فرصة لتحقيق المزيد من الأرباح".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...