شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
التخوين... وجه آخر للتكفير ولكن باسم

التخوين... وجه آخر للتكفير ولكن باسم "الوطنية"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

السبت 26 مارس 202211:20 ص

"هناك مؤامرة ضد الدولة المصرية. لدينا أسماء المتآمرين والأموال التي قبضوها. سنكشف عن كل شيء في الوقت المناسب وسنحاكمهم. لكن، لا بد أن نعترف بأن بعض الشباب استوردوا أفكاراً غريبة على قيمنا وعلى ديننا ومجتمعنا. شباب الفايسبوك وتويتر هؤلاء ظهروا كنبتة غريبة في أرضنا الطيبة".

هكذا تكلّم اللواء علواني، مدير جهاز أمن الدولة في رواية "جمهورية كأن" للروائي المصري علاء الأسواني. تناول الكاتب المصري في روايته مقدمات ثورة 25 يناير، واستعرض كذلك عمل أجهزة الدولة على وأدها، بالاستعانة بمكونات مختلفة من عالم المال، الرياضة، الدين والإعلام، عبر وسائل من بينها إطلاق حملة إعلامية، من منابر جديدة ووجوه متناسبة مع المناخ الشعبي آنذاك، كان هدفها الأساسي تشويه صورة الثوار والثائرات، تمهيداً لتصفيتهم.

ما تتناوله الرواية شاهدناه أيضاً في الواقع، عبر الإعلام الرسمي، عقب اندلاع الثورات: العمد إلى اتهام المعارضين للنظام باتهامات متشابهة تقع في مدار التخوين، العمالة، التآمر... وفي أغلب التشريعات الجزائية، تستتبع مثل هذه التهم أحكاماً قاسية قد تصل إلى الإعدام. هذا طبعاً إذا ثبتت، و"إثباتها"، أو بالأحرى "تثبيتها"، ليس عصياً على أجهزة الأنظمة العربية.

الوطنية... دِين جديد ومتجدد

هنالك إشكال مفاهيمي حول مصطلح "وطنية"، فالوطنية هي قيمة تعبيرية عن الانتماء إلى كيان سياسي معيّن مع ما يتضمنه ذلك من اعتزاز بثقافة وتاريخ مشتركيْن... والوطنية أيضاً مفهوم سياسي ذو مضمون أيديولوجي تكثف وتبلور نسبياً في الربوع الأوروبية منذ منتصف القرن الثامن عشر، تحديداً إبان ثورات 1848 أو الربيع الأوروبي (ربيع الشعوب)، فقد حملت هذه الثورات شعار الدولة-الأمة، وذلك في مواجهة "الأنظمة القديمة" التي كانت تقوم على فكرة المملكة/الإمبراطوية، مع ما كان يعنيه ذلك من امتداد لدولة-الملك على مجال جغرافي شاسع ومتنوع على المستوى العرقي، الديني، الثقافي...

شكّلت الوطنية فكرة جذابة لتحريك الناس وتجييشهم لفائدة الاستقلاليين، على غرار ما جرى في حرب الاستقلال الأمريكية. وتطور المفهوم تدريجياً على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين، من خلال عمليات ترسيم الحدود، توحيد اللغة والنظم الإدارية، وصناعة التقاليد (كتب عنها كثيراً إريك هوبزباوم)، وعبر تكثيف معاني ومضامين الرموز المشتركة نسبياً: العَلَم، الأناشيد الرسمية والعسكرية، الشخصيات التاريخية.

تحوّل الولاء من الملك/الإمبراطور، كما كان الحال في الأنظمة القروسطية، إلى الوطن، واستتبع ذلك الولاء للدولة بالنسبة إلى الوطنية المعتدلة، أو الولاء للنظام في الأنظمة الشوفينية.

وتحوّلت أيديولوجيا الوطنية إلى ما يشبه الدِين الجديد، كون الديانات هي مجموعة من القيم والقوانين البشرية التي ترتكز على قاعدة ميتافيزيقية. وبالتالي صار لها مبشّروها، أو رُسُلها، على غرار الفيلسوف الإنكليزي جون لوك، والكاتب الإنكليزي الأمريكي توماس باين، والفرنسي جون جاك روسو (الإرادة العامة)، والإيطالي جوزيبي مازيني... وصولاً إلى كبار مشايخ الدول القومية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: مصطفى كمال أتاتورك في تركيا، الحبيب بورقيبة في تونس، وسعد زغلول في مصر.

كما صار للوطنية قواعدها المنظمة، قيمها، ضروراتها واعتباراتها، وجنّتها (الرفاه الاجتماعي المنشود)، وجهنمها أيضاً، وهو ما يعبّر عنه محمد الماغوط في مجالنا الجغرافي، في كتابه "سأخون وطني"، بـ"الإرهاب العربي الذي غطى المنطقة وخارجها بالدماء والجماجم والمخطوفين والمفقودين".

"كما في حالة التكفير الذي يبدأ بحملات إعلامية ضد الشخص قبل إطلاق النار عليه مادياً، هكذا حال التخوين: يبدأ بوصم الخطاب السياسي بالخيانة، وينتقل إلى اتهام صاحب الخطاب بـ‘العمالة’ و‘التخابر مع جهات أجنبية’"

من بين الترجمات المعتمدة لكلمة Nationalism، ومن بينها "الوطنية"، نجد كذلك كلمة "قومية" التي تعبّر في مضمونها العربي عن أفكار مثل أفكار ميشال عفلق وساطع الحصري وعصمت سيف الدولة، الذين نظّروا للقومية العربية في معناها الواسع "من المحيط إلى الخليج"، والتي نشأت في النصف الأول من القرن العشرين وتطورت في نصفه الثاني.

ولهذا، فإن الوطنية في الاستخدام العربي الشائع هي القومية المكتفية بحدود الدولة الحديثة، أي "القطرية" بحسب مصطلحات القوميين العرب، وهي ما نهتم به في هذا الموضوع، كونها ما ثبت بعد انهيار "الحلم" أو "الوهم" العربي الشامل.

التخوين... وجه التكفير الآخر

حُبّرت الكثير من الأوراق في المكتبات العربية بإجابات متشابهة عن سؤال "بأي ذنب قُتل الحلاج؟"، وكشفت عن ظاهرة التكفير، وهي ظاهرة قديمة في التاريخ العربي-الإسلامي، وارتبطت في التاريخ المعاصر بصعود الحركات الإسلامية العسكرية، في إطار معركتها مع السلطات السياسية "المتعلمنة".

يحفل التاريخ الإسلامي بمحطات تصفية سياسية باسم الدين، بدءاً من "حروب الردة" والفتنة الكبرى بين علي ومعاوية التي كان عنوانها "الفئة الباغية"، مروراً بالصراعات بين مختلف الطوائف الدينية، ووصولاً إلى ظهور ظاهرة "الإرهاب" المرتبط بالحركات المتشددة منذ سبعينيات القرن العشرين.

تختلف شروط التكفير حسب المرجعيات. وتحدث عنها نصر حامد أبو زيد في كتابه "التفكير في زمن التكفير" بقوله: "الحقيقة أن ثمة حرباً بالمعنى الحقيقي لا المجازي، حرباً يخوضها الإسلاميون بأسلحة التكفير والوصف بالردة والعلمانية، التي جعلوها مساوية لمفهوم الإلحاد، لأي اجتهاد يتناقض مع أطروحاتهم. ويلي الاتهام بالتكفير ومشتقاته إطلاق الرصاص من جانب الجناح العسكري للاتجاه –أو الاتجاهات- الإسلامي. ويصعب هنا الحديث عن اعتدال وتطرّف، فالحروب جميعاً لا ينفصل فيها الإعلام -بما يبثه من أيديولوجيا الحشد والتجييش- عن العمليات العسكرية في ميادين القتال".

"تستعمل الأنظمة العربية، ككل الأنظمة التسلطية، ترسانتها التشريعية لضرب معارضيها، عبر تكييف النصوص القانونية، تماماً كما تكيَّف النصوص الدينية، فتتقاطع الأنظمة ‘العلمانية’ مع الحركات ‘الدينية’، ليتلقى كل من ‘الكافر’ و‘الخائن’ نفس المصير، باسم الوطن أو الدين"

التكفير هذا واجهه أبو زيد نفسه في الدعوى الشهيرة التي أفضت إلى تفريق محكمة الأحوال الشخصية بينه وبين زوجته بسبب بحث أجراه عن "نقد الخطاب الديني" للحصول على درجة الأستاذية في جامعة القاهرة، ما دفعه إلى مغادرة مصر، وقبل ذلك كان قد أودى بحياة فرج فودة وكاد يودي بحياة نجيب محفوظ الذي تعرّض لمحاولة اغتيال فاشلة.

كما في حالة التكفير الذي يبدأ بحملات إعلامية ضد الشخص قبل إطلاق النار عليه مادياً، هكذا حال التخوين: يبدأ بوصم الخطاب السياسي بالخيانة، وينتقل إلى اتهام صاحب الخطاب بـ"العمالة" و"التخابر مع جهات أجنبية"، ومن ثم تشتغل الماكينة الدعائية للنظام بترديد هذه الاتهامات ومحاولة إلباسها لبس الحقيقة من خلال استحضار "أفندية الرغيف" -والعبارة للباحث في علم الاجتماع التونسي مولدي القسومي– بمعنى المتلحّفين بعباءة الخبراء من أكاديميين ومحللين.

وبعد تثبيت "الحقيقة" الملفّقة عبر ترديد نفس الكذبة مراراً وتكراراً واللعب على سيكولوجيا الجماهير حتى تترسخ كقناعة، على اعتبار أن "لا دخان بلا نار"، كما يقول المثل الشعبي، تتحرك النيابة لتبدأ مراحل مسرحية التقاضي ومحاكم أمن الدولة...

على سبيل الذكر، نذكر الفصلين 63 و72 من المجلة الجزائية التونسية، اللذين حوكم بموجبهما 104 شيوعيين في محكمة أمن الدولة بتاريخ 16 أيلول/ سبتمبر 1968.

ومنذ أيام، أيدت محكمة استئناف مغربية الحكم بستة سنوات ضد الصحافي المغربي عمر الراضي المتهم بالتجسس، بموجب الفصل 191 من القانون الجنائي المغربي الذي ينص على أنه "يؤاخَذ بجريمة المس بسلامة الدولة الخارجية كل مَن باشر اتصالات مع عملاء سلطة أجنبية، إذا كان الغرض منها أو نتج عنها إضرار بالوضع... الدبلوماسي للمغرب".

هكذا، تستعمل الأنظمة العربية، ككل الأنظمة التسلطية، ترسانتها التشريعية لضرب معارضيها، عبر تكييف النصوص القانونية، تماماً كما تكيَّف النصوص الدينية، فتتقاطع الأنظمة "العلمانية" مع الحركات "الدينية"، ليتلقى كل من "الكافر" و"الخائن" نفس المصير، باسم الوطن أو الدين.

في نصه "سأخون وطني"، كتب محمد الماغوط: "إن ازدحام السجون العربية بالمناضلين والأبرياء الذين يدقون رؤوسهم بالجدران والأبواب المغلقة دون جدوى يعني أن الترجمة العملية للاءات الخرطوم هي: لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات مع الإنسان العربي".

وعملاً بسنّة الأولين، والمتأخرين أيضاً، أطلق الرئيس التونسي قيس سعيد عبارة "التمسح على أعتاب السفارات" التي كان يعتمدها نظام زين العابدين بن علي لضرب وتشويه سمعة المعارضين السياسيين.

وبن علي في آخر أيامه قام بإضافة تهمة "الإساءة إلى صورة تونس"، تمهيداً لمحاكمة منتقديه، سواء في المنفى أو في الداخل.

يهدف هذا التشويه المتعمد إلى ضرب الحاضنة الشعبية للمعارضين، بما ذلك محاولة عزلهم اجتماعياً، قبل الانتقال إلى مرحلة التصفية السياسية باعتماد المركّب البوليسو-قضائي، في تماهٍ تام مع ما تقوم به الأنظمة الدينية، أو الحركات المتشددة، من اتهام بالإلحاد والكفر كتمهيد لتحليل دم المخالف.

اللافت للنظر بين المستبدين، بوجهيهما المتعلمن أو المتدين، هو الاتفاق على الاستبداد والتسلط وتكميم الأفواه، وإنْ اختلفت الذرائع: دينية أم وطنية/قومية. وفي النهاية، لا يعدو التخوين الذين تمارسه الأنظمة المستبدة أن يكون الوجه الآخر للتكفير، ومحاكمة الضمير، الذي تستعمله الجماعات المتشددة والمنافسة لها على الهيمنة وتأبيد الواقع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard