يضع كل من أوليفر دايفس وتيم دين في كتابهما المشترك "كراهية الجنس" أنفسهما في خانة (لمتآمرين)، التصنيف/الموقف الذي يتم تبنيه مؤخراً لمناقشة وطرح ما لا يجوز الحديث عنه، أي تلك الموضوعات والأسئلة التي لم يعد من "الصحيح سياسياً" و"المناسب هوياتياً" التشكيك بها أو بـ"الحقائق" التي تفترضها، كديناميكيات التحرش الجنسي، هل نصدق الضحية أم نشكك بها؟ هل تمتلك الدهماء الحق بأن تحكم نفسها؟ هل يجب أن نكمم آراء المتعصبين؟ وغيرها من تلك الموضوعات التي "ألغتها" الثقافة اليسارية-الكويرية الجديدة، وحاربتها بالقانون في بعض البلدان، مُجرّمة من يخالف أو يرفض وأحياناً يناقش.
يحاول دايفس ودين في جهدهما المشترك قراءة كتاب "كراهية الديمقراطيّة" لجاك راسينير، بالتزامن مع تاريخ التحليل النفسي والنظرية الكويريّة، مفترضين بداية أن الديمقراطيّة في ذاتها تحوي أزمة داخلية، سببها المواجهة بين الفئة التي "لا تستحق أن تحكم ذاتها" أو "لا تستطيع أن تحكم ذاتها" لكنها ضمن النسيج الوطني وتمتلك حقوق المواطنين، وتلك التي تدّعي امتلاك "القدرة والوعي على الحُكم".
بكلمات أخرى، الحق بحكم الذات قد يُساء استخدامه من قبل "الدهماء"، جمعٌ من الناس الذي نصفهم بأنهم متعصبون، ذكوريون، لا يتبعون الصوابية السياسيّة، اجتاحوا الكونغرس، تسلحوا على حدود أوروبا لـ"صيد" اللاجئين، مؤيدون للديكتاتوريات، لا يتعاطفون مع معاناة "الآخر". هذه المواجهة بين الفئتين السابقتين، تخلق "توتراً" داخل النسيج الديمقراطيّ، وبسببها يمكن القول إن هناك كراهيّة للديمقراطيّة، وبصورة أدق، للمساواة الراديكاليّة التي من المفترض أن تحويها.
مساحة "الجنس" لا يمكن تقنينها أو ضبطها هوياتاً، هي مساحة شديدة التعقيد والغموض والتحرر
مساحة الجنسّ المُهملة
تظهر كراهية الجنس، في مقاربة لعنوان كتاب راسينير، إن استبدلنا "الدهماء" وتناقضاتها بـ"النيك"، إذ يفترض الكتاب أن سياسات الهويّة والنسوية التقاطعيّة، استبدلت الجنس بالجنسانيّة، واللذة بتصنيفات الطيف الجنسي، والنيك بالجندر، لتستثني كل ما لا يتطابق مع تصوراتها عن الجنس بوصفه حواراً، لا انتهاكاً. فمساحة "الجنس"، أي النيك، والإيلاج والرهز واللذة الصرفة، لا يمكن تقنينها أو ضبطها هوياتاً، هي مساحة شديدة التعقيد والغموض والأهم التحرر، وقد تجاهلتها الدراسات الكويرية والنسويّة وكرهتها، كونها عصيّة على التأطير، ويشيران أيضاً إلى الكيفيّة التي كَرّست فيها هذه الكراهية في الأكاديمية والثقافة العامة وأنتجت ما يمكن تسميته التوتر من الجنس، أي التناقض بين الرغبة به وكراهيته بسبب العجز أمامه.
أجساد الشبق العصيّة على الفهم
كراهية "النيك" ترتبط باللذة، ذاك المفهوم الغامض في تاريخ التحليل النفسي، والذي تتجاهله الهوياتية كراهية ورعباً، ولا نتحدث هنا عن اللذة بمعناها المفاهيمي، بل اللذة الجسدية البحتة بكل ممارساتها من الجنس التكاثري إلى الفيتيشي، مروراً بذاك الذي يدلل الألم حد غياب الوعي، هذه التفضيلات والألعاب تحولت بسبب سياسات الهويّة إلى علامات على كيفية تجسّد خطاب الجنسانية وما يرتبط به من قوة وهيمنة. أصبحت وضعية الـMissionary تُفسر على أنها انعكاس للهيمنة الذكورية، ومداعبة البروستات دليلاً على الميول "المثلية الخفيّة"، لذا يفترض الكتاب أن مساحة النيك لا تحوي هويات، والتقاء الأجساد شبقاً ليس أسلوباً لاستعراض القوة أو ترسيخ المساواة، بل فضاء حُرّ لاحتكاك الأبدان، الهدف منه طرح السؤال التالي: إلى أي حدّ يمكن أن أدفع نفسي وانتهك "أناي" كي أصل إلى الرعشة؟
أصبحت وضعية الـMissionary تُفسر على أنها انعكاس للهيمنة الذكورية، ومداعبة البروستات دليلاً على الميول "المثلية الخفيّة"، لذا يفترض كتاب "كراهية الجنس" أن مساحةالنيكلا تحوي هويات، والتقاء الأجساد شبقاً ليس أسلوباً لاستعراض القوة أو ترسيخ المساواة، بل فضاء حُرّ لاحتكاك الأبدان
تتضح عبر المقاربة السابقة للجنس العلاقة مع "الدهماء"، تلك الفئة ذات الوضعية المزدوجة، هم مواطنون لكنهم لا يستحقون الحكم، كالنيك، نرغب به لكنه يخلخل هويتنا ولا نستحقه جميعاً، هذا التناقض يتضح حين نتلمس موقف سياسات الهوية من آراء الدهماء، إذ الرائج الآن هو الإلغاء والتكميم، لا الاتفاق على الاختلاف، في نفي للمساواة الراديكاليّة، تلك التي تفترض أن عدم الاقتناع والاختلاف الجذري ضمن المساحة الديمقراطيّة لا يكفي، بل لابد من تنميط الجميع، أو على الأقل، وضعهم ضمن خانات وتصنيفات قائمة على أساس افتراضات سابقة، حولت الممارسة الجنسيّة إلى هوية علنيّة نختلف على أساسها في الحق بالحُكم.
الأنا الهشّة أمام الرغبة
تنبع كراهية الجنس أيضاً من علاقته الملتبسة مع الأنا، فالنيك بمعناه الواسع والسعي إلى اللذة عبره، يخلخل حدود الأنا و"هويتها"، ويحوي ما يمكن مَقتُه دون سبب واضح، لا فقط على المستوى الجسدي (ندبة ما، السوائل، غياب المرونة الجسدية...)، بل النفسي أيضاً ( أيمكن لمثلي أن ينجذب لامرأة وينتفض لهنّها، أو لذكوري مقيت أن يقبل بقبضة في صُلبه تترك شرجه منتفخاً حائراً أي طيف من الورديات يُشبه)، هذا الالتباس سببه أن الحدود الواضحة والجدية التي تضعها "الأنا" حول نفسها، وتتدافع عن حقها باستعراضها وحمايتها، تسقط أثناء السعي إلى اللذة في لحظات النيك، وهذا بالضبط ما يجعل الجنس مكروهاً، هو ما نرغبه في ذات الوقت ما لا نستطيع الحصول عليه بشكل كامل ( المعنى الألماني لكلمة LUST) إذ يمكن له أن ينفي ما نظنه عن "الأنا"، بالتالي، لا يمكن أن تتحقق اللذة إلا في حالة تقبلنا حقيقة تخلخل الأنا، وتجاوز حدودها حد الانتهاك، ما يعني بالضرورة نفي كل ما نظنه عن أنفسنا، وما ترسمه تصنيفات الطيف الجنسي من ممارسات تجوز ولا تجاوز.
هناك إهمال كامل "للنيك"، الذي استبدل بـ"الجندر" الذي ينفي بعض الممارسات الجنسية ويهددها واصفاً إياها بالعنيفة أو شكلاً من أشكال السيطرة، ونتيجة هذا الاستبدال تحولت الممارسة الجنسية إلى استعراض هوياتي لتثبيت "الأنا" لا خلخلتها
نشير قبل أن نستطرد أن الكتاب يركز على أسماء الممارسات والأعضاء، محرراً إياها من الافتراضات المسبقة، خصوصاً أن واحدة من مساعي النيك و"كراهيته" تكشف أنه يحوي أيضاً "نقيض اللذة"، كخيبة الأمل والاحتقار، وأحياناً مقت الذات، لذلك يهدد بنية الأنا، فالوعد الواعي باللذة الذي يقدمه النيك يحوي داخله تهديداً بعدم الوصول إليها، كون لحظة إطلاق الوعد والتوقعات حوله، تختلف كلياً، عن تطبيقه.
المقاربة السابقة ترى أن الجنسانيّة لا تتناول اللذّة وأساليبها، بل تسعي لتجاهلها وتجاهل "النيك" للتخفيف من وطأته، وأثره الذي يخلخل الذات والهويّة، خصوصاً الممارسة الجنسية في سبيل اللذة ليست مساحة لاستعراض الهويات الجنسيّة ورسم الحدود، بل العكس ، هي مساحة شديدة الديمقراطيّة، كل "الآراء" و"الممارسات" فيها مباحة، فأنا والآخر، ولو اختلفنا نحن متساويان، قبلنا السعي نحو اللذّة وكلانا نمتلك الحق بها للأقصى، كما في عبارة "انتاك مخي"، أي لم أعد واعياً حتى بـ"أناي" واختلافي عن الآخر، كوننا سوياً ننزع هوياتنا في سبيل هدف مشترك، أن نتساوى بالحق في اللذة كما نتساوى في الحق بحكم الذات ولو اختلفنا.
الجندر لا يعني اللذة
يعلق الكتاب على النسوية التقاطعيّة بشدة، التي احتكرت الضحايا، وفي ذات الوقت صنفت الباقين بوصفهم "الجلادين" و"المذنبين"، على أساس مجموعة من الخصائص (اللون، الجندر، الطبقة الاجتماعيّة)، مستثنية فئة من الضحايا وأشكال القمع التي لا تدخل ضمن التصنيفات، في سعي لنفي المساواة الراديكاليّة، وهنا يشير الكاتبان إلى أن التقاطعيّة نتجت ضمن إطار قانوني- أكاديمي، عبر إيمان بأن "الدولة" قادرة على الانتصار للضحايا والمظلومين باستخدام القانون، في إشارة إلى الولايات المتحدة وقوانين التمييز على أساس العرق والنوع واللون والميل الجنسي، وهنا الإشكالية أوضح، هناك إهمال كامل "للنيك"، الذي استبدل بـ"الجندر" الذي ينفي بعض الممارسات الجنسية ويهددها واصفاً إياها بالعنيفة أو شكلاً من أشكال السيطرة، ونتيجة هذا الاستبدال تحولت الممارسة الجنسية إلى استعراض هوياتي لتثبيت "الأنا" لا خلخلتها، بالتالي، التخلي عن الرغبة والمتعة في سبيل الدفاع عن المظلوميات التي لا تنتصر للـ"جميع".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 13 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.