هو راقص غامض، ابتداء بما يُردّد من أغان تشبه الهذيان في أحيان كثيرة، مروراً بحركاته التي تحيلنا مباشرة إلى ساحر من عمق القبائل الإفريقيّة، انتهاء بزيّة التنكري الجامع بين مهرّج مضحك ووحش مخيف: ألوان زاهية وعظام وريش وجمجمة جملٍ وأسنان حيوانيّة وجلود حيوانات وقناع وأدوات نحاسيّة وطبل لمشية إيقاعيّة تجمع هي الأخرى بين الحزن والفرح.
في البدء كانت العبودية
صورة لـ"بوسعدية" في تونس 1990
لـ"بو سعدية" الرّاقص حكاية تنتشر في كلّ ربوع إفريقيا تقريباً وخصوصاً في أقطار المغرب العربي. أبو سعديّة، ملك إحدى القبائل الإفريقيّة العميقة كان يعيش حرّاً طليقاً مع زوجته وابنته المحبّبة "سعديّة". ذات يومٍ، اختطف سمسارو أسواق الرّقّ ابنته
أمّا في الجزائر فتتخذ هذه الشخصيّة هيئة درويش من الدراويش يصل درجة القدّيس أو الولي الصالح، قد يُشبه في ناحية من نواحيه "بابا سالم"، فيتم استدعاؤه لمباركة العرس أو لإسعاف امرأة تأخّر حملها، حيث يطلق صيحات تجمع الكلام الواضح بالغامض: "يا ربّي يا عالي الأوتاد... عمّر حِجرها بالأولاد..." يُضاف إلى هذه الشّخصيّة في الجزائر خنجر يطلق عليه اسم "البو سعادي"، وهو نفسه السكّين الأحمر الدّقيق الّذي يُطلق عليه في تونس "البو سعادة" الذي كان يُدسّ في جيب الرجل كأي أداة ضرورية أخرى.
فإذا كان "بوسعديّة" يقبل العطايا لأنّه يتسوّل في ليبيا، ولأنّه يرتبط بفقراء تشاد ومالي والنيجر الذين كانوا يلجؤون للبلد من أجل الحصول على عمل، فإنّه في الجزائر يرفض أيّ عطايا وأيّ هبات، ويكتفي بأكل ما يجده، وإن كانت كسرة خبز مع بعض البصل.
وإذا كان بوسعديّة يرتبط في الجزائر بالموسيقى "القناويّة" أو "القناوى" التي قد نجد لها أثراً في كل أقطار المغرب العربي وكلّ إفريقيا في تطابقٍ للإيقاع، فإنه في تونس يرتبط بالسطمبالي، وما تحمله هذه الموسيقى من ثورة وتوق للتحرّر. وقد جاءت كتطهير روحي من قرقعة سلاسل العبودية التي رافقت رحلة السود القادمين من جنوب شرق إفريقيا وبحيرة تشاد إلى أسواق النخاسة. كان هؤلاء يطرقون سلاسل الحديد ويرافقون الإيقاع بهمهمات تكتنز ألماً وغضباً.
يحمل بوسعديّة همّ القارة الإفريقية بأكملها منذ قرون طويلة وخصوصاً في ظل انتشار العبودية بين القرن التاسع عشر والعشرين حيث بلغت تجارة العبيد الأفارقة أوجها وحيث انتشرت ظاهرة اختطاف العبيد أيضاً
خشخشة بوسعديّة التّونسي
بوسعدية، الراقص الأسود على موسيقى السطمبالي، يجوب شوارع المدينة ويتوغل بين الأزقة الضيّقة بحثاً عن ابنته، يُخفي وجهه بقناع ملوّن عليه رأسه جمجمة طير أو جمل. ارتبط اسمه بالزوايا ومقامات الصالحين، فهو أحياناً "سيدي سعد" وأحياناً "لسمر شوشان"، الولي الصّالح الأسود كما قد يدلّ اسمه على ذلك. فـ"شوشان" تعني العبد الأسود، صاحب الزاوية التي ما تزال قائمة غير بعيد عن العاصمة التونسية بمنطقة "مرناق".
يُخيّل لنا أحياناً أنّ بوسعديّة هذا ليس سوى روحاً هائمةً من هذا الولي بكلّ ما يحمل من رموز. وإذا ما استقرّ مقامه في تونس فلأنها سبقت مختلف أقطار المغرب العربي الأخرى في منع الرقّ، وذلك سنة 1846، بأمر من باي تونس حينها "أحمد باشا باي". ونجدُ في تونس نهاية سعيدةً للباحث عن سعديّة، فبعد أن طال بحث الأب عن ابنته وجدها أخيراً صحبة زوجته، واجتمع شمل العائلة الصغيرة من جديد.
بوسعديّة روح القارّة العجوز
قد يحمل بوسعديّة همّ القارّة الإفريقية بأكملها منذ قرون طويلة، وخصوصاً في ظلّ انتشار العبودية بين القرن التاسع عشر والعشرين، حيثُ بلغت تجارة العبيد الأفارقة أوجها وحيثُ انتشرت ظاهرة اختطاف العبيد أيضاً.
تجمع هذه الشّخصيّة كلّ الملامح الإفريقية وتتلوّن بتلوّن كل قطر، لتصرخ في وجه مضطهديه. لا يُعرف له مقام ولا مستقرّ. حتّى أنّ في ليبيا تنتشر لعبة بين الأطفال عنوانها "وين حوش بوسعديّة؟"، حيثُ يتحوّل الأطفال إلى باحثين عن هذه الشخصية الباحثة عن سعديّة. فيسأل بعضهم هذا السؤال ليجيب آخرون: "ما زال القدّام [في الأمام] شويّة". ويتكرر السؤال في كل الأقطار المغاربية تقريباً ولا تختلف فيه سوى اللهجة.
بالرغم من أن بو سعدية يختلط أحياناً بالطقوس الدينية باختلافها من بلاد إلى أخرى، إلا أنه يظلّ لا دينيّاً. لأن التيه لا دين له
القارّة الباحثة عن مستقبل ما
ليست المرتبة التي يحظى بها "بوسعديّة" لدى الأطفال بالأمر الاعتباطي، فبالإضافة إلى أنّه كان يبثّ فيهم روح الفرح والفكاهة، فإن هذه الشخصية الفولكلورية ترتبط بهم ارتباطاً وثيقاً. فهو الباحث عن طفلته الذي يحتمي بأطفال آخرين، لكأنه القارّة الباحثة عن أطفالها المفقودين والباحثة عن مستقبل ما في النهاية.
بالرغم من أن بو سعدية يختلط أحياناً بالطقوس الدينية باختلافها من بلاد إلى أخرى، إلاّ أنّه يظلّ لا دينيّاً. لأن التيه لا دين له.
توحيد القارّة
نجح "بوسعديّة" فيما فشلت فيه السياسة على مرّ العصور. فهذا الرّاقص الأسود الذي جاء من اللاّ مكان، أو من كلّ مكانٍ في إفريقيا، منتقلاً من بلادٍ إلى أخرى، مُحمّلاً بجزئيّة من كلّ قبيلة، حتى أننا قد نرى في قراءة سيميائية لصورته بأنه الرّاقص القبَليّ الإفريقي بقناعه وحركاته وما يرافقه من إيقاعاتٍ. فهو واحدٌ من شعب "الماسّاي" بقفزاته، وهو من قبيلتي أشانتي والموسي الغانيّة بخشخشته وأصدافه، وهو واحدٌ من قبائل الدوغون الماليّة بقناعه المخيف، وهو "الطّارقيّ" الصّحراويّ وهو فردٌ من أفراد القبائل السّودانيّة الكثيرة من أريتقة وبديريّة ورشايدة الخ...
وإذا ما بدأت هذه الشخصيّة بالاختفاء منذ نهاية الخمسينيات تزامناً مع ظهور النّفط (ليبيا سنة 1958 على سبيل المثال، الجزائر سنة 1949، إلخ...) فإنّ في ذلك أكثر من مغزى. لعلّ النّفط كان آخر مسمارٍ يُدقّ في النّعش الإفريقيّ الموحّد، لذلك صار لزاماً على بوسعديّة الباحث عن "سعديّة"، هذا الاسم الذي ما هو سوى السعادة في نهاية الأمر، أن يعود أدراجه إلى قوقعته.
محاولة إحياء
تكثّفت الأعمال التي استعادت هذه الشخصيّة، خصوصاً بعد ما بات يُعرف بالربيع العربي. ففي الجزائر ظهر عمل "بو سعديّة صاوند" للمخرجة "تونس آيت علي"، وفي تونس عرض "حليب الغولة" الموسيقي الذي يعتمد أساساً على السطمبالي وشخصية بو سعديّة.
"الكلب خايف من بوسعديّة وبوسعديّة خايف من الكلب"
يجري هذا المثل الشعبي التونسي على كلّ لسان ومفاده هذا الخوف المتبادل بين الكلب وبو سعديّة. لأن هذه الشخصيّة تبدو هشّة رغم ظاهرها المخيف، تخاف "الكلاب" بما في الكلمة من صفة لا اسم جنس، وما أكثر الكلاب التاريخية التي مزّقت أوصال القارة الإفريقية!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 8 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت