قبل 36 عاماً، كان عبد الحميد عبد المقصود قد أنهى لتوه خدمته العسكرية/الجيش، وعاد ليجمع بين العمل في الزراعة والمعمار/الإنشاءات، بقريته، نزلة المشارقة، في محافظة بني سويف. عُرف عنه أنه "في حاله، مُلتزم، ومش بتاع قيل وقال ومشاكل"، بجانب حرصه على أداء التزاماته الدينية، كالصلاة والصوم. تلك الصفات؛ لفتت إليه أنظار شيوخ الطُرق الصوفية بمركز "أهناسيا" الذي تتبعه قريته، فعرض عليه أحدهم أن يحضر معهم "حضرة" وأن يمنحوه "العهد".
"أصبحتُ الخليفة"
الحضرة، هي مجلس ذِكر جماعي ارتبط بالمسلمين المنتمين للطرق الصوفية، اختلفت الدراسات في تاريخ نشأتها؛ القرن الثالث أو السادس أو الثامن الهجري، ومكان ظهورها، العراق أو مصر.
ومن بين معانٍ كثيرة، يصف عبد الحميد الحضرة، في لغة دينية شاعرية، بأنها "مكان طاهر، نحضر إليه، لنذكر فيه الله ورسوله، بالقلب واللسان والحركة". أما عن "العهد" فيوضح لنا: "هو الوصية بالالتزام في الطريق إلى الله، فلا كذب، لا غش، لا فساد، ولا أكل حرام... أن تعمل الخير وتدلّ عليه".
ومن الحضرة، تدرّج عبد الحميد في الهرم الصوفي منذ أن أخذ العهد من "عمّه"، وكان "مُريداً" إلى أن أصبح حالياً "خليفة"، فالصوفيون لهم سُلَّم أو ترتيب إداري، وآخر روحي أو تربوي.
يقول لنا: "في البداية، قابلت عمي الشيخ جودة البكري، شيخ الطريقة الخلوتية الجودية -إحدى الطرق الصوفية المنتشرة داخل مصر- وعمي هُنا لا تعني أنه شقيق أبي، لكنها تدل على أنه شيخ الطريقة، الذي عمّني بالخير، ودلني إلى طريق النور، ولكل مُريد عَمّ؛ يأخذ منه العهد أو الوصية".
يلتزم المُريد بعد تكليفه بالعهد، بترديد بعض الكلمات آلاف المرات يومياً، وتلك الكلمات تُحدد درجة ترتيبه الروحي، والإداري أيضاً، داخل طريقته الصوفية، ويوضح عبد الحميد: "الأول نبدأ بلا إله إلا الله، ثم الله، يا هو، يا حق، يا حي، يا قيوم، وأخيراً الكلمة السابعة يا قهار، والانتقال بين كلمة وأخرى قد يأخذ سنيناً، وتكون بقرار من عمي، وبناءً على كل رؤية رأيتها في منام أو يقظة وأخبرته بها، والآن بعد سنوات طويلة، أصبحت خليفة، أي يحق لي أن أعطي العهد للمُريدين".
طوال تلك السنوات، لم يتخلف عبد الحميد عن حضور الحضرات في قريته أو المركز التابع له، يقول لنا: "المُحبين كتير، يأتون يومياً إلى عَمّي الشيخ في ساحته/مضيفته، يطلبون إقامة حضرة، ويتكفلون بالإنفاق عليها، بداية من تجهيز المكان والأنوار والميكروفونات، وحتى تحمل مصاريف إحضار المُنشد والذكّيرة (المُريدين) من منازلهم، وتوفير أكلهم وشربهم ودخانهم/ سجائرهم".
ويصف لنا: "حينما يبدأ الذِكر فيها، تحيط الملائكة الحضرة، وحين تنتهي تصعد إلى الله لتخبره بأنها كانت تلتف حول عبيد يذكرونه ويوحدونه ويقدسونه في الأرض، فيسألهم عز وجل؛ ماذا يطلبون؟ فيردون بأنهم يطلبون رضاه ومغفرته، فيغفر لمن حضرها، بل ولمن كان حول مكان إقامتها".
لكن "الحضرة الصوفية" تواجه انتقاداً شديداً من تيار إسلامي آخر، إذ يتهمها رموز السلفية، مثل ياسر برهامي، بأنها "بدعة، وليست ذِكراً مشروعاً". نسأل الشيخ عبد الحميد عن ذلك، فيرد: "يقولوا اللي عايزين يقولوه... إحنا في حالنا، وهما في حالهم... وإحنا مع ربنا وسيدنا النبي".
أساتذة وصفوهم بـ"الكفار"
محمود تهامي، باحث متخصص في شؤون الجماعات الإسلامية، كان له تجربة مع "الحضرة الصوفية"، يحكي لنا: "أثناء دراستي للفلسفة الإسلامة في الفرقة الثالثة والرابعة بكلية دار العلوم، كان أساتذتي يقسمون التصوف إلى (تصوف سُني) وأعلامه الحسن البصري ورابعة العدوية، و(تصوف فلسفي) وأعلامه عمر بن الفارض ومحي الدين بن عربي والحسين بن الحلاج".
"لفت انتباهي أن بعض هؤلاء الأساتذة كانوا يرون أن أعلام التصوف الفلسفي، كابن الفارض وابن عربي والحلاج، وصلوا للكُفر بتصوفهم، فقررت القراءة لهم، لأكتشف أن كتاباتهم مليئة بالتسامح والأخلاق، بل إن كتاباتهم تُعد من أجمل ما أنتجته الحضارة الإسلامية".
ومن القراءة لشعراء التصوف، تعرف تهامي إلى شخص يجمع بين كوّنه أستاذاً جامعياً في البلاغة والنقد، وشيخاً صوفياً يملك "الحق" في إعطاء "العهد" لـ"المُريدين"، فأصبح تهامي أحد هؤلاء المُريدين الذين أخذوا العهد منه.
"هذه الروحانيات السامية موجودة مع الإنسان بغض النظر عن انتمائه الديني، هي مشاعر روحانية إنسانية عابرة للأديان"
بدأ تهامي بأول مرحلة في التربية الروحية للمتصوفة، وهي ترديد "لا إله إلا الله" آلاف المرات يومياً بعد صلاتي العصر والمغرب، بجانب التزامه بالتخلص من أي صفات سيئة، كحب الشهرة والرياء والكذب، وانتظار ما يأتيه من رُؤى ليقُصها على "عَمّه".
يقول لنا: "ذهبت للحضرة معهم في كل مكان. انجذبت لها من أول مرة، وانخرطت في الذكر. هي متعة روحية، أناشيد، أصوات جميلة، وسلام داخلي... لا تختلف عمن يعشقون سماع صوت أم كلثوم، أو يحضرون حفلة لمحمد منير، فمثل ما نقول أن هذا (منايري) أي يعشق أغاني وصوت منير ويحافظ على حضور حفلاته، فهذا أيضاً صوفي (ذَكيّر) يعشق الحضرة ويهيم خلفها".
يصف تهامي التصوف بأنه "فن التواصل الخفي مع الوجود والطبيعة"، والحضرة بأنها "نوع من الاستغراق الروحي بين ذات الإنسان وبين جمال الكون الكبير الذي يحتوينا، وهذه الروحانيات السامية موجودة مع الإنسان بغض النظر عن أي انتماء ديني له، فهي مشاعر روحانية إنسانية عابرة للأديان".
أجواء الحضرة
للحضرة آداب يلتزم بها الحضور، كعدم التمخّط أو التنقل بين مكان وآخر، ولها أيضاً هيكل تنظيمي يأتي على رأسه "نقيب الحضرة"، الذي يكون مسؤولاً عن الدعوة والتنظيم والافتتاح، مروراً بالمُنشد ومُساعده اللذين يتناوبان على غناء الأشعار والأناشيد، عبوراً بـ"صاحب الدقة" الذي يحدد شكل الحركة التي يؤديها الجميع، وصولاً لـ"الذكيرة" أو الجمهور، وهم المكون الأساسي للحضرة.
وعادة ما يبدأ منشد الحضرة وصلاته الإنشادية بمقولة "يا نازل الذكر شيل الفكر من بالك". ويوضح تهامي: "هي نصيحة للمريد كي ينخرط في الحضرة مستغرقاً فيها، وتحذير بضرورة الابتعاد عن الأفكار المشتتة التي تعتري المُريد أثناء الحضرة".
وتتراوح وصلات الحضرة بين الحركات الهادئة والحماسية المنفعلة، ويتحكم في تنويعها وتنظيم الصوت واستقامة اللحن ومنع الشذوذ، "شيخ" يتوسط الحلقة، وكأنه عقرب الساعة، لكنه يدور عكس الاتجاه، وهو تناغم سري مع الطبيعة ومع الأجسام التي تسلك في مساراها الدوران عكس عقارب الساعة.
"ذهبت للحضرة معهم في كل مكان، انجذبت لها من أول مرة، هي متعة روحية، أناشيد، أصوات جميلة، وسلام داخلي لا تختلف عمن يعشقون سماع أم كلثوم، أو مثلما نقول أن هذا "منايري" أي يعشق أغاني منير، ويحافظ على حضور حفلاته، فهذا أيضاً صوفي ذَكّير"
أما عن أناشيد الصوفية في الحضرة، فيقول لنا: "أعتقد إنها تختلف باختلاف الحقب الزمنية وما يشغلها من أحداث، فمثلاً في عصور ماضية كانت أشعار الصوفية تتغنى بالإنسان الكامل، الصورة المحمدية المثالية، وما يتبعها من صفات كالحب والتسامح، وفي فترة أخرى نجدها مشغولة بالحديث عن العذاب الأخروي وأهمية التمسك بالدين للنجاة من الجحيم الذي ينتظرنا".
وبجانب الذِكر بالقلب واللسان يكون "الذِكر الحركي" أساسياً في الحضرة، يوضح تهامي: "حركات الراقص الصوفي ليست عبثية، بل كل حركة تحمل معاني، لكنها تختلف حسب التفسيرات، فمنها حركة تشير للشرب من بئر النبي محمد عليه السلام، وأخرى تجسيداً لحركة جاء بها شيخ الصوفية عبدالقادر الجيلاني عندما رأى النبي نوراَ يصعد من الأرض للسماء، وقبل كل هذا، فحركات الرقص الصوفي هُنا حماسية، وانفعالية، وممتعة للمشاركين في الحضرة".
رؤية وإشارة
آية جمال، حاصلة على ماجستير في الإدارة التربوية، وواحدة من أتباع الطريقة الشاذلية، تقول لنا: "كُنت فتاة صغيرة، حينما حضرت لأول مرة حضرة بصحبة والدي... بدأت بخطبة صغيرة وتلاوة للقرآن، ثم رأيت الحاضرين يلتفون في حلقات، يمدحون ويذكرون. ورغم اتباعي طريقاً صوفياً لا أذكر أنني كررت التجربة".
آية لها قصة مع الصوفية، تحكيها لنا: "في 2014، بدأت قراءة كُتب مُنتشرة بين أوساط الشباب، كـ(قواعد العشق الأربعون) لإليف شافاق، و(مأساة الحلاج) لصلاح عبد الصبور، شعرت أن هناك شيئاً مميزاً في الفكر الصوفي، فقرأت لهم وعنهم أكثر وأكثر، ثم سألت أحد شيوخ الصوفية أي طريق اختار وأَتبع؟ فطلب مني أن أقرأ عن جميع الطرق، حتى تهتدي نفسي لإحداها".
"جاءتني رؤية في المنام، لشخص يلبس أبيض، أخذني من يدي، وطاف بي حول قبة"
اهتدت آية إلى اتباع الطريقة الشاذلية، التي تُنسب لأبو الحسن الشاذلي، من خلال "رؤية وإشارة". وتوضح: "جاءتني رؤية في المنام لشخص يلبس أبيض، أخذني من يدي، وطاف بي حول قبة. لم أعر انتباهاً لتلك الرؤية فور استيقاظي، إلى أن جاء اليوم التالي، وكُنت استقل ميكروباص، فإذ بي أجد صورة صغيرة مُعلقة داخله لنفس القبة التي رأيتها في المنام، وعرفت أنها قبة ضريح الشيخ الشاذلي بوادي حميثرة، في مرسى علم جنوب مصر، فكانت تلك إشارة لطريقي الصوفي".
وفي هذا الطريق، أضافت آية لشخصيتها الإيمان والتسليم والاستقرار وتقبُّل الآخر، على حد وصفها. وتنفي أن تكون الصوفية مجرد "دراويش لا يقدسون العمل"، موضحة: "من يحب شخصاً يقتدي به، ونحن نحب الله ورسوله، والله أمرنا بالسعي، أما الرسول فكان يعمل".
نعود مجدداً، في هذه النقطة، إلى عبد الحميد عبد المقصود، الذي يوضح: "تختلف نفس كل شخص، فمنها اللوّامة والطمّاعة، الخبيثة والنقية، وحينما ترتقي بنفسك إلى الزهد؛ تزهد في المال والأولاد، وتزهد كل ما في الدنيا، لتصبح (عبداً ربانياً)... ربنا خلقنا للعبادة، مش عايز مننا حاجة غير العبادة... بس إحنا زي الفراخ لازم ننبش علشان ناكل، ربنا بيرزق بس لازم نسعى وناخد بالأسباب".
فيما يرى محمود تهامي، أن النظرة السائدة للصوفيين بأنهم "على باب الله" و"بياكلوا ويشربوا ومنفصلين عن الحياة" نظرة ظالمة، ويوضح: "ساهم في تعزيز تلك النظرة القصص الصوفية القديمة، وأبرزها قصة أبو الحسن الششتري، ذلك الأمير الذي ذهب يوماً إلى أحد المتصوفة وقال له: انصحني؟ فنصحه الصوفي بأن يترك الصدأ الذي يلبسه ويلبس الخرقة، أي لباس الصوفية، وأن يطوف في حب النبي، فخلع الششتري لبس الإمارة، ودار في الأسواق، درويشاً هائماً".
جانب آخر، عزز من تلك النظرة، يشير إليه تهامي، إذ يقول: "في كل بلد مجذوب أو ما يُطلقون عليه (عبيط القرية)، وهو شخص غير مكتمل العقل ولا يعول عليه.. مثل هؤلاء الأشخاص كثيراً ما يكونون منبوذين في حفلات القرية وأفراحها ومجالس رجالها، لكن في المُقابل يذهب هؤلاء المجاذيب للحضرات، لأنهم يجدون فيها من يحترمهم، ويحتويهم، ويقدم لهم الطعام والشراب".
وفي النهاية، يشير تهامي إلى أن غالبية الملتزمين بالحضرات في القرى الريفية من كبار السن، يقول: "الحقيقة أنه في قرانا، كل الأفراد الذين يشاركون في الحضرة من كبار السن، وهم أشخاص يؤدون أعمالهم في الحقول كل صباح، بينما يشاركون في الحضرات الصوفية ليلاً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.