تتحدث بعض المصادر التاريخية الإسلامية، أن ملك البلغار قد أرسل للخليفة العباسي المقتدر بالله (توفي 320هـ)، ليطلب منه أن يرسل له بعض المسلمين لشرح أصول الدين الإسلامي، وبناء بعض المساجد، ولمساعدة شعبه في بناء الحصون التي تحميهم من غارات جيرانهم من الخزر.
في صفر 309هـ/ حزيران921م، استجاب الخليفة لطلب ملك البلغار، وأرسل له ببعثة مكونة من أربعة أشخاص، أحدهم كان أحمد بن فضلان، والذي دون جميع مشاهداته في تلك الرحلة في الكتاب المعروف الذي تم نشره تحت عنوان "رحلة أحمد بن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة".
في هذا الكتاب، قدم ابن فضلان أخبار رحلته ومشاهداته في بلاد الترك والبلغار والروس والخزر والبلاد الإسكندنافية، فتحدث عن الكثير من الوقائع والمشاهدات التي أثارت دهشته، وكانت المعلومات التي ذكرها عن الروس وعاداتهم وتقاليدهم من أهم ما ورد في هذا الكتاب على الإطلاق.
"شقر حمر، لا يغسلون أيديهم من الطعام"... وصف المجتمع الروسي
قدم ابن فضلان في رسالته وصفاً مقتضباً لهيئة الروس، إذ نجده يبدي إعجابه ببنية رجالهم القوية، فيقول: "لم أر أتم أبداناً منهم، كأنهم النخل، شقر حمر... يلبس الرجل منهم كساء يشتمل به على أحد شقيه، ويخرج إحدى يديه منه، ومع كل واحد منهم فاس وسيف وسكين لا يفارقه....".
ابن فضلان أشار للمناقشة التي دارت بينه وبين أحد الروس الذين حضروا تلك الطقوس، عندما أظهر الروسي تعجبه من قيام العرب بدفن موتاهم، وانتظارهم خروج الدود منها وأكل لحمها، وهي الطريقة التي وصفها الروسي بالغريبة
أما فيما يخص النساء، فنجده يصف حليهن، فيذكر أنهن يلبسن العقود المكونة من الخرز الأخضر المصنوع من الخزف، وفي السياق نفسه يربط بين زينتهن وأحوال أزواجهن المالية، فيقول: "...كل امرأة منهم على ثديها حقة -وعاء من الخشب- مشدودة، إما من حديد، وإما من فضة، وإما نحاس، وإما ذهب، على قدر مال زوجها ومقداره، وفي كل حقة حلقة فيها سكين مشدودة على الثدي أيضاً، وفي أعناقهن أطواق من ذهب وفضة، لأن الرجل إذا ملك عشرة آلاف درهم، صاغ لامرأته طوقاً، وإن ملك عشرين ألفاً صاغ لها طوقين، وكذلك كل عشرة آلاف يزدادها يزداد طوقاً لامرأته، فربما كان في عنق الواحدة منهن الأطواق الكثيرة".
من جهة أخرى، وجه الرحالة المسلم انتقاده للعادات الصحية للروس، ولا سيما في ما يتعلق بمسائل الطهارة والنظافة الشخصية، إذ نراه يستقبح تلك العادات، ويفسر ذلك بأنهم "لا يستنجون من غائط ولا بول، ولا يغتسلون من جنابة، ولا يغسلون أيديهم من الطعام، بل هم كالحمير الضالة...."، كما يؤكد على انكبابهم على شرب النبيذ، وأنهم قد اعتادوا تناوله ليل نهار.
من بين الأفعال التي استشهد بها ابن فضلان على تلك العادات، أنهم -أي الروس- كانوا قد اعتادوا أن يغتسلوا جميعاً من إناء واحد كل يوم، وأن الجارية كانت تدور بذلك الإناء على كل واحد منهم، فيغسل فيه شعر رأسه ووجهه ويديه، ويتمخط ويبصق فيه، ثم تحمل الجارية الإناء إلى الرجل المجاور فيفعل الأمر نفسه، ومن هنا فإن ابن فضلان يصف هذا الإناء بقوله إنه: "أقذر ما يكون".
من الأمور التي لم يشر إليها ابن فضلان في رسالته، أنه لم يربط بين المناخ الذي عاشت فيه القبائل الروسية والعادات التي مارسوها، الأمر الذي يؤكد على اندهاشه الشديد مما كان يدور من حوله خلال تلك الرحلة، للدرجة التي منعته من تفهم آثار البرودة الشديدة على طباع سكان تلك المناطق.
في السياق نفسه، تعرض ابن فضلان أيضاً لبعض أشكال الممارسات الجنسية المعروفة عند القبائل الروسية، إذ تحدث عن أن المنزل الواحد كان يعيش فيه عدد كبير من الرجال، وكان كل رجل يجلس على سرير خاص به، وكان من المعتاد أن يمارس الرجل الجنس مع جاريته أمام الجميع، مما أثار اندهاش وانزعاج ابن فضلان، الأمر الذي يمكن تفهمه نظراً للخلفية الدينية والاجتماعية المحافظة التي قدم منها الرحالة العربي المسلم.
الأصنام الخشبية، والقرابين، والأرواح... المعتقدات الدينية للروس
في رسالته، قدم ابن فضلان بعض المشاهدات التي توضح الطقوس الدينية التي مارستها القبائل الروسية في ذلك العصر، ومن ذلك ما تحدث عنه الرحالة المسلم من أن التجار الروس لما يصلون إلى بلادهم، يهرعون إلى مكان مقدس، ويبدأ كل تاجر منهم في تقديم بعض ما يحمله من خبز ولحم وبصل ولبن ونبيذ، ويحملون كل هذا إلى صنم كبير الحجم مصنوع من الخشب، وله وجه يشبه وجه الإنسان، وتوجد حوله بعض الأصنام الخشبية الأصغر حجماً.
بحسب ما شاهده ابن فضلان، فإن كل تاجر من التجار يذهب إلى الصنم الأكبر، ويسجد له، ثم يقول له: "يا رب قد جئت من بلد بعيد، ومعي من الجواري كذا وكذا رأساً، ومن السمور كذا وكذا جلداً"، ويقدم هديته للصنم، وبعدها يناشده متوسلاً: "أريد أن ترزقني تاجراً معه دنانير ودراهم كثيرة، فيشتري من كل ما أريد ولا يخالفني فيما أقول".
بعدها ينصرف التاجر ويذهب لحال سبيله، ويحاول أن يبيع كل ما يمتلك من سلع، وإن تعذر ذلك، رجع مرة أخرى إلى الصنم، وقدم الهدايا إلى الصور الصغيرة وطلب منها الشفاعة عند الصنم الأكبر. ويذكر ابن فضلان أن في الكثير من الحالات، يقوم التاجر بقتل مجموعة من الأغنام والأبقار ليتصدق بلحمها، كنوع من القربان حتى تُستجاب دعوته، وأنه كان من المعتاد أن يحمل التاجر ما تبقى من لحم هذا القربان ليضعه أمام الصنم الأكبر، حتى إذا ما حل المساء جاءت الكلاب وأكلت ذلك كله، ويعتقد التاجر حينها أن إلهه قد تقبل منه القربان.
من الممارسات الدينية التي يشير إليها ابن فضلان أيضاً، أن الروس كانوا ينزلون العقاب الشديد بالسارق، حتى أنهم إذا ما قبضوا على من ثبتت عليه تهمة السرقة، أخذوه، وعلقوه من عنقه بحبل وثيق، وربطوه في شجرة عالية، وتركوه هكذا حتى يتقطع جسده من أثر الرياح والأمطار.
من المشاهدات المعبرة عن إيمان الروس بالأرواح الشريرة، ما ذكره ابن فضلان عن المرض، وكيف أنهم قد اعتادوا أن يتجنبوا المرضى، فإذا ما مرض أحدهم، وضعوه في خيمة، وقربوا منه الخبز والماء، وابتعدوا عنه، وانتظروا لأيام طويلة
من المشاهدات المعبرة عن إيمان الروس بالأرواح الشريرة، وقدرتها الفائقة على نقل الأذى إلى البشر، ما ذكره ابن فضلان عن المرض، وكيف أن الروس قد اعتادوا أن يتجنبوا المرضى، فإذا ما مرض أحدهم، وضعوه في خيمة، وقربوا منه الخبز والماء، وابتعدوا عنه، وانتظروا لأيام طويلة، حتى يعرفوا مصيره، فإذا ما برئ أرجعوه إليهم واختلطوا به، أما إذا ما مات فإنهم يحرقونه إذا كان حراً، أو يتركونه لتأكل الكلاب والجوارح جثته إذا كان من العبيد.
في الحقيقة، يمكن القول إن الصورة المقتضبة التي قدمها ابن فضلان للمعتقدات الدينية المنتشرة لدى القبائل الروسية، يمكن تقبلها في ضوء ما عُرف عن اعتناق تلك القبائل للمعتقدات النوردية القديمة، وهي تلك التي تؤمن بتعدد الآلهة، وبوجود كائنات روحية، غير مادية.
الحرق في النار، والجارية تموت مع سيدها... طقوس التخلص من الجثمان بعد الموت عند الروس القدامى
احتل الحديث عن طقوس الموت والتخلص من جثمان المتوفى، الشطر الأعظم مما سجله ابن فضلان من مشاهدات في الأراضي الروسية، ويبدو أن الرحالة المسلم الذي قدم من الأراضي العربية، قد اندهش كثيراً بما رأى في تلك الطقوس، للدرجة التي شجعته على وضع وصف دقيق لمعظم ما جاء في تلك الطقوس من تفاصيل.
يذكر ابن فضلان أن طقوس التخلص من جثمان المتوفى تختلف بحسب درجته الاجتماعية، وثرائه، ومكانته في عشيرته. فإذا كان المتوفى رجلاً بسيطاً أو فقيراً، تُصنع له سفينة صغيرة، ويوضع فيها ثم تُحرق. أما إذا كان المتوفى غنياً، فيتم جمع أمواله وثروته أولاً، ويتم تقسيمها لثلاثة أقسام، فيعطى الثلث لأهله، ويشترى بالثلث الثاني الثياب الفخمة التي ستوضع على الجثمان قُبيل حرقه، أما الثلث الثالث من التركة، فيُشترى به النبيذ، ويتم توزيعه على رجال القبيلة.
من أهم خصائص تلك الطقوس، أن يتم جمع أهل الميت وجواريه، ويتم سؤالهن عمن تريد أن تموت مع سيدها، فإذا ما وافقت إحداهن على ذلك، وجب عليها أن تُقتل مع سيدها، ولا يمكن أن ترجع في الوعد الذي قطعته على نفسها، وكنوع من الضمان، يوكل أمر تلك المرأة إلى جاريتين، تكونان مسؤولتين عن مراقبتها ومصاحبتها في كل مكان حتى تحين لحظة قتلها، وفي أثناء فترة الانتظار، تمارس تلك الجارية مجموعة من طقوس الغناء والابتهاج والفرح كل يوم.
في اليوم الذي يُحرق فيه جثمان المتوفى، يوضع الجثمان في سفينة، وتأتي امرأة عجوز "ضخمة، مكفهرة"، يقال لها "ملك الموت"، ويقوم الرجال بإلباس المتوفى بالثياب التي صُنعت له، ثم يجلسونه في مكان مخصص بالسفينة، ويضعون حوله الفاكهة والنبيذ والريحان والخبز واللحم والبصل، وجميع ما كان له من سلاح، وكذلك يلقون بجانبه كلباً قطعوه إلى نصفين، ومجموعة من الدواب والأبقار والدجاج أيضاً.
من الأمور التي لم يشر إليها ابن فضلان في رسالته، أنه لم يربط بين المناخ الذي عاشت فيه القبائل الروسية والعادات التي مارسوها
بعدها يتم إحضار الجارية التي كُتب عليها الموت مع سيدها، ويبدأ رجال القبيلة في معاشرتها جنسياً واحداً بعد آخر، وبعد أن ينتهي كل واحد منهم من مهمته، يقول لها: "قولي لمولاك، إنما فعلت هذا من محبتك".
بعدها تدخل الجارية السفينة، وتسقيها المرأة العجوز النبيذ حتى يذهب وعيها، وتبدأ في الغناء، في الوقت الذي يتعالى فيه وقع طرقات سيوف الرجال على تروسهم، والذي يُقصد منه التغطية على صوت الجارية المنتحب والذي يتصاعد شيئاً فشيئاً مع إحساس صاحبته بقرب لحظة وفاتها.
اللحظة الختامية لتلك الطقوس الغريبة، تحين عندما تدخل "ملك الموت" مع ستة من الرجال الأشداء إلى السفينة، ليقوموا بتقييد الجارية، وخنقها بحبل مربوط في عنقها، بينما تقوم العجوز بطعنها بالخنجر بين ضلوعها، حتى تموت، وبعدها يتم إحراق السفينة، بما احتوت عليه من جثامين.
ابن فضلان أشار للمناقشة التي دارت بينه وبين أحد الروس الذين حضروا تلك الطقوس، عندما أظهر الروسي تعجبه من قيام العرب بدفن موتاهم، وانتظارهم خروج الدود منها وأكل لحمها، وهي الطريقة التي وصفها الروسي بالغريبة، وفضل عليها الطريقة الروسية التي تحرق الجثمان، وتنقله في دقيقة واحدة إلى الجنة، دون المزيد من العذاب أو الإهانة.
الأمر الذي تجدر الإشارة إليه في ما ذكره ابن فضلان عن طقوس الموت والتخلص من الجثمان عند الروس، أنها تقتبس الكثير من الشعائر الجنائزية التي عُرفت عند الكثير من الأديان البدائية في قارتي آسيا وأوروبا، وهي الشعائر التي تتماهى فيها رمزيات الجنس مع البعث والحياة الجديدة.
من جهة أخرى، سنجد أن تلك الطقوس تتشابه كثيراً مع الطقوس الهندوسية التي عرفتها شبه الجزيرة الهندية عبر القرون، ولا سيما في مسألتين؛ الأولى هي مسألة حرق جثمان المتوفي ونثر رماده في الرياح، والثانية هي قتل جارية/زوجة المتوفى، وحرقها معه، وهي الطقوس التي تتشابه بشكل كبير مع طقوس الساتي الهندية. هذا التشابه الكبير يمكن تفسيره بوجود أصول واحدة لكل من الشعوب الهندية والروسية، وهو الأصل الهندوأوروبي المشترك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه