صحيح أن اللغة كانت دائماً مصاحبة للسياسة، ولذلك هي تزدهر بازدهارها وتنحط بانحطاطها، فقد فقدت اللغة العربية الكثير مع عصور الانحطاط الجديد والتراجع الحضاري للعرب، بعدما عرفت مجدها مع عصور السطوة الحضارية، وها هي الإنجليزية تفرض نفسها على العالم كلغة خطاب معرفة وتواصل بسبب النظام العالمي الجديد وسطوة المعسكر الأنجلوفوني والأمريكي بالذات، بينما تحاول الفرنسية، عبر شبكتها الفرنكوفونية، أن تجد لها موطأ قدم في العالم، فأينما قويت شوكة اللغة حافظت تلك الحضارات على مصالحها الحيوية.
غير أن توريط اللغة باعتبارها حاملاً ثقافياً وفنياً في الصراع السياسي ومعاداتها يعتبر ظاهرة معاصرة، تحركها نعرات قومية عنيفة لا يمكن أن تؤسس إلا لمزيد من العنف والعنصرية وتقسيم البشرية وقطع ألسنة المفكرين والمبدعين ومحاصرة القيم الإنسانية.
محنة شخصية مع العبرية
منذ سنوات يرزح صاحب مكتبة "تنمية" المصرية، خالد لطفي، في السجن بسبب نقل ونشر رواية "الملاك"، للكاتب الإسرائيلي يوري بار جوزيف، إلى العربية، فقد أصدر القضاء المصري، ومن ورائه السلطة، إدانة للناشر لأنه نشر عملاً تخييلياً يروي قصة تورط أحد الوجوه السياسية المصرية في الجاسوسية، وهو سكرتير الرئيس أنور السادات وصهر الرئيس جمال عبد الناصر، أشرف مروان.
توريط اللغة باعتبارها حاملاً ثقافياً وفنياً في الصراع السياسي ومعاداتها يعتبر ظاهرة معاصرة، تحركها نعرات قومية عنيفة لا يمكن أن تؤسس إلا لمزيد من العنف والعنصرية
اقتبس بعد ذلك فيلم عن الرواية، وشاهده العالم كله في منصة نيتفليكس، ببطولة التونسي الهولندي مروان كنزاري الذي قام بدور أشرف مروان، ولا ندري اليوم، هل سَجْن الناشر حلّ القضية فعلاً وحققت المخابرات المصرية أهدافها بالتغطية عن العمل الفني والأدبي؟
التخوين بسبب الترجمة طال كبار الكتاب العرب، بداية بالفلسطينيين، فاتُهم محمود درويش بالخيانة بسبب تعامله مع اليسار الثقافي الإسرائيلي وترجمة أعماله إلى العبرية، وسبقه إميل حبيبي، وطالت حملات التخوين ياسمينة خضرا، أمين معلوف، محمد شكري، وحتى إدوارد سعيد ونجيب محفوظ الذي أثنى يوماً ما على ناقد إسرائيلي تناول أعماله الروائية، ووصل بهم الأمر إلى التشكيك في أحقيته بنوبل، وأرجعوا ذلك إلى موقفه من إسرائيل، ما جعل بعض الأوساط الإسرائيلية تدعي بعد ذلك أن النقد الإسرائيلي كان فعلاً وراء وصول محفوظ إلى نوبل.
وتواصل التحريض عليه بأشكال مختلفة، حتى غرسوا في عنقه خنجراً وشلّوا يده عن الكتابة.
التخوين بسبب الترجمة طال كبار الكتاب العرب. فاتُهم محمود درويش بالخيانة بسبب ترجمة أعماله إلى العبرية، وسبقه إميل حبيبي، وطالت حملات التخوين ياسمينة خضرا، أمين معلوف، محمد شكري، وحتى إدوارد سعيد ونجيب محفوظ
وفي مثل هذا الوقت بالذات من العام الماضي آذار/ مارس 2021، عشت تجربة مؤلمة إثر ترجمة روايتي "المشرط" إلى العبرية، من المترجمة الفلسطينية ريم غنايم، حيث استغل المشهد السياسي الفاشل في تونس والمشهد الثقافي المتأزم، والدولة العميقة، "دولة الانتهازيين من الموظفين"، انتهزوا الخبر لشنّ حرب عليّ، تواصلت أشهراً، وتستمر بأشكال مختلفة إلى الآن. كانت التهمة الموجهة لي هي التطبيع مع إسرائيل لأنني سمحت للمترجمة الفلسطينية بترجمة روايتي ونشرها.
وأغلب الكتاب الروس عبر تاريخهم كانوا ضد الأنظمة الديكتاتورية الروسية نفسها، ودفعوا حيواتهم في التصدي لها عبر أدبهم. كيف يمكننا أن نفهم إقدام جامعة إيطالية مثلاً بالتوقف عن تدريس أدب فيودور دوستويفسكي، الذي وقف يوماً بسبب كتاباته أمام فوهة بندقية لتنفيذ الحكم عليه بالإعدام ونجا وقتها بأعجوبة؟
وقد تضافرت قوى متعددة لتصفيتي من المشهد الذي يبدو أنه صار يضيق ذرعاً بالإنجازات التي كنت أقدمها، إن كان ذلك في الإعلام الثقافي أو في العمل التطوعي وزراعة المكتبات بالريف التونسي، أو عبر إدارتي لمؤسسة ثقافية تونسية، تحولت في سنة فقط إلى أيقونة ثقافية في البلاد "بيت الرواية"، والتي أحرجت الزملاء في وزارة الشؤون الثقافية، لأنها قدمت الدليل على أنه يمكن تثوير المشهد الثقافي من داخل المؤسسة الرسمية ذاتها، إذا أخذ الموظف مسافة من النظام وتمسك بحرية العمل الثقافي.
هكذا صرت عدوّاً لقسم كبير من الأحزاب القومجية واليسارية، وبعض الإسلاموية المتطرفة، وعدوّاً لموظفي وزارة الثقافة، الذين اشتغلوا ليل نهار لجرّ بعض منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية التي تبحث عن الترندات وما يعرف في تونس بـ"البووز"، لتعمل على تشويهي. مستندين في كل دعايتهم المضللة على خطابات التخوين لرئيس الجمهورية، قيس سعيد، في حملته الانتخابية لكل من يتعامل مع إسرائيل. وهكذا تحوّلت العملية، من استنكار لمشاركتي مقال في صحيفة إسرائيلية عن روايتي على فيسبوك إلى اتهام بالخيانة العظمى.
فتهاطلت علي التهديدات والبيانات المنددة بي، ووصلت إلى التهديد بالقتل عبر مكالمات هاتفية ورسائل من حسابات لمجهولين مستندين على تلك البينات، وأولئك السياسيين الذين استغلّوا مجلس النواب للتشهير بي والتحريض علي والمطالبة بعزلي ومحاكمتي. على ماذا؟ بسبب روايتي التي ترجمت للعبرية وكتبت عنها الصحافة الإسرائيلية ومشاركتي مقالاً كُتب عن الترجمة.
كيف لشعوب تنادي بحقوق الإنسان وحرية التعبير أن تناقض نفسها وتدخل اللغة في بنود عقوباتها ضد روسيا؟
وقد طال التخوين مترجمتي الفلسطينية نفسها، ومن ترجمتهم للعبرية من الفلسطينيين أو من تعاطفوا معنا وكشفهم لحقيقة الهجمة. سعت تلك الجهات لتوريط كيانات عربية وجمعيات بنشر بيانات يومية لمهاجمتي ومهاجمة كل من ساندني أو من ورد اسمه في بيان تضامني معي، وهددت بمقاطعة كل من يتضامن معي أو أن يقول كلمة حق فيما كنت أقوم به، أو من يدعو إلى إعمال العقل. وتحولت السوشال ميديا إلى محاكمة علنية تبيح دمي وتهتك عرضي عبر شبكة من المنصات، دون السماح لي حتى بتقديم رد، حيث ألغت التلفزة الوطنية لقاء برمج معي لتقديم وجهة نظري، بينما راحت الصحف الصفراء تكتب عني كل يوم باعتباري أخطر شخص في تونس، وأنني رجل الموساد في تونس. لماذا؟ لأن كتاباً ناجحاً ترجم لي إلى العبرية.
وأمام هذه الهجمة الشرسة وملاحقة هذه العناصر للمدوِّنين بالتهديد عبر رسائل شخصية، تراجع المساندون لي ولاذوا بالصمت خوفاً على أنفسهم، في ظل صمت تام من السلطات وضعف للدولة، التي قدمت لها عدة مرات بلاغات للتدخل ولحماية أسرتي ولحمايتي في العمل والطريق إليه.
صارت عائلتي الصغيرة تعيش في رعب لأشهر بسبب هذه التهديدات والهرسلة، وهوجم مقر عملي من قبل متطرف، وأمام امتناع السلطات التونسية عن توفير حماية لي، اضطررت إلى مغادرة البلاد، واستولت تلك المجموعة نفسها التي كانت تقود الحملة على مقر عملي، لتتواصل عملية ملاحقتي وأنا في كندا، عبر الاستجوابات التي كانت تصلني وتصل مقر العمل القديم، من وزارة الثقافة ومن البرلمانيين والسياسيين، حول فعلتي الشنيعة: نجاح رواية وترجمتها إلى العبرية.
إن معاداة اللغة عمل عنصري بامتياز لأنه يقطع كل أمل في انتصار الإنسانية التي لن تنتصر بالا باللغة وبالحوار
هذه المحنة التي عشتها وما زلت أعيشها وجروحها مازالت مفتوحة، أراها الآن تتكرر مع المبدعين الروس، لكن بشكل آخر، ومع جهات طالما اعتبرناها مدافعة عن حقوق الإنسان والتعبير: الغرب الأوروبي. كيف يتحوّل الغرب المدافع عن الحق في التعبير والإبداع إلى مصادر لهذا الحق ونشره؟
نصرة أوكرانيا ومعاداة اللغة الروسية؟
فتحت هذا الموضوع يوماً مع الروائي الجزائري الكبير واسيني الأعرج، وسألته يومها على هامش ترجمة أعماله للهولندية: "أعمالك تترجم إلى الدانماركية والعبرية، هل هناك لغة عدوة؟"، فأجاب: "لا، في اللحظة التي أستعدي لغة فأنا دخلت في ممارسة العنصرية، العنصرية اللغوية، كل لغة يمكن أن تحمل الشر كما يمكن أن تحمل الخير، واللغة العبرية مثل اللغة الفرنسية، فاللغة في حد ذاتها لا تحمل محمولاً قيمياً في حد ذاتها، أو مواقفي من محمولات اللغة". واعتبر في الحوار ذاته أن مقاطعة الفلسطينيين في الداخل يعتبر أمراً لا يفهم، فنحن نضيق عليهم أكثر، ونحن لا نبذل أي شيء من أجل معرفة هذا الآخر الذي يعرف عنا كل شيء.
وأثناء الحملة التي شُنّت عليّ، كتب الكثير من الكتاب الفلسطينيين حول أزمة اللغة والترجمة، ومنهم واسيني الأعرج، الذي كتب في القدس العربي، يقول: "حين تترجم إلى لغة أخرى، كيفما كان الوضع التاريخي، لا يعني الشيء الكثير، سوى أن نصاً انتقل من لغة إلى أخرى، لأن مترجماً ما رأى أنه يفيد، أو جيد أو إنساني، أو بكل بساطة، يدخل في الخط الذي رسمته دار النشر. والعبرية لا تخرج عن هذه السياقات، فهي واحدة من هذه اللغات الإنسانية التي تكلم ويتكلم بها جزء من البشرية، واسعاً كان أم محدوداً، لا يهم، إذ لا توجد لغة صغيرة ولغة كبيرة، ولغة مقدسة ولغة مدنسة، لغة شياطين ولغة ملائكة".
وتهاطلت المقالات من أنطون شلحت وابراهيم عبد المجيد وانعام كجه جي، لتصب كلها في نفس الرأي: ضرورة التفريق بين الترجمة، والسماح للأدب بالعبور والموقف السياسي، غير أن الشعبوية التي يعيشها العالم العربي لم تسمح بالإصغاء لتلك الأصوات الوازنة أدبياً وفكرياً، وكانت الكلمة للشعبويين وللأميين والدوغمائيين.
ذات الشيء اليوم نراه من المناداة الغربية للقطع مع الثقافة الروسية، ومنها الأدب والموسيقى، مساندة لقضية أوكرانيا. إن التوظيف السياسي للإبداع وتحويل وجهته وترذيله بات واقعاً راهناً. الغريب أن الكثير من المبدعين الأوكرانيين يكتبون أصلاً بالروسية ووصلوا العالم بتلك اللغة، ومنهم أكثرهم شهرة ومبيعاً، الروائي أندريه كوركوف.
أغلب الكتاب الروس عبر تاريخهم كانوا ضد الأنظمة الديكتاتورية الروسية نفسها ودفعوا حيواتهم في التصدي لها عبر أدبهم. كيف يمكننا أن نفهم إقدام جامعة إيطالية مثلاً بالتوقف عن تدريس أدب فيودور دوستويفسكي، الذي وقف يوماً بسبب كتاباته أمام فوهة بندقية لتنفيذ الحكم عليه بالإعدام ونجا وقتها بأعجوبة؟
إن معاداة اللغة عمل عنصري بامتياز، كما قال واسيني الأعرج، لأنه يقطع كل أمل في انتصار الإنسانية التي لن تنتصر بالا باللغة وبالحوار، ولن يعم سلام عادل أو غير عادل إلا عبرها، وليس من بديل لانعدام اللغة واللسان إلا الدم. فكيف لهذه الشعوب التي تنادي بحقوق الإنسان وحرية التعبير أن تناقض نفسها وتدخل اللغة في بنود عقوباتها ضد روسيا؟
إن هذا التمشي الأعوج للغرب وجرّ الثقافة إلى خندق السياسة وتوظيفها بشكل سيء، يلاقي اليوم موجة من السخرية، ولكن أثره سيبقى عظيماً، لأنه كشف هشاشة الفكر اليوم وهشاشة المتحكمين في إدارة الشأن العام في العالم. القضية الأوكرانية اليوم، كغيرها من القضايا الإنسانية لشعوب كثيرة ترزح تحت الاحتلال وتعيش حروباً متنوعة، تشوهها هذه النعرات العرقية من المناصرين المتطرفين وغلاتهم من ناحية، وحتى من ساستها، الذين في غمرة رعبهم من اللحظة الراهنة تعالت أصوات بعضهم بتحشيد ديني عرقي لنصرة القضية، من ناحية أخرى.
في هذه اللحظة التاريخية التي يمكن أن نسميها "الحرب على دوستويفسكي" ستحتاج البشرية اليوم أن تردد خلف المفكر السعودي عبد الله القصيمي: "أيها العقل من رآك"؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون