صباح كل يوم، أترك مجموعتنا نائمة في "الهوستل" وأذهب مشياً على الأقدام إلى المقهى. تستغرق المسافة عشر دقائق تقريباً، بمشيي السريع طبعاً. في مدينة سان بطرسبورغ، كنت أقطع شارع "نِفسكي" الكبير والجميل، بمحاله التجارية الفاخرة، وعماراته العريضة، ومارّته الهادئين، أدخل الشارع المقابل الذي يقطعه وأسير. أمرّ من الكنيسة القديمة التي رأيناها في اليوم الأول من زيارتنا لشقة دوستويفسكي، إذ قال صديقي الروسي الذي تولى مهمة إرشادنا: "تعرفون أن البيوت التي كان يسكنها، كان لابد أن تكون مطلة على كنيسة ما"، وكنا قد قرأنا عن ذلك.
حالما دخلنا شقته، كان السِّحر منتشراً في فضائها. شعرنا به ونحن نمسك ورق الحائط الذي أضاف صديقي عنه بأنهم خلال تحويل بيته كمتحف، مزقوا كثيراً من ورق الحائط الذي كان قد وضعه سكان الشقة اللاحقين خلال عدة عقود، إلى أن وصلوا إلى هذا، وهو ورق حائطه الأصلي. كان شعوراً غريباً ولذيذاً للغاية أن أمسك ورق حائط بيته، ثم أن أدخل صالة بيته الصغيرة، وأخطو بعض الخطوات لأقف أمام شباكها وأنظر الشارع والكنيسة.
لا أتذكر ما هي الرواية الأولى التي قرأتها له، ومنذ أي واحدة منها بسط سحره عليّ ليصبح روائيّ المفضل إلى جانب سرفانتيس، وتبقى نظرة الاندهاش والاحترام والتعظيم إزاءه ترافقني كل هذه السنوات.
خلال أيامنا في سان بطرسبورغ تحول ذلك المقهى إلى جزء من صباحاتي كل يوم، مترصدة فرصاً أخرى خلال النهار أو الليل كي أعود له وأجلس أمام الشباك
كانت لحظة تشبه أن أرى شخصاً وأحبه في أول نظرة، ثم أعود لأنظر إليه، ثم نظرات أخرى لأتأكد من وجوده وأراه أكثر. هذا ما جعلني أعود ليلاً إلى ذلك المكان، والشارع، والزقاق، لأرى من جديد بيتَه في الطابق الأول، حتى إن كان من الخارج.
كنت أعرف أنه لابد أن يكون البيت/المتحف مغلقاً في تلك الساعة. وأنا أتطلع إلى المكان كله، وجدت مقابل العمارة مقهى صغيراً، لكنه كان مغلقاً أيضاً. فاكتفيت بالنظر إلى البيت والشباك والطواف حوله وحواليه.
في اليوم التالي استيقظت في الصباح الباكر، كعادتي في السفر، وذهبت مباشرة إلى المقهى. كنت أريد أن أشرب قهوتي الأولى أمام شباكه، إلا أن الساعة كانت مبكرة جداً بالنسبة لتوقيت سان بطرسبورغ التي كانت تعيش لياليها البيضاء خلال تلك الفترة وفي مثل هذه الأيام؛ فالنهار والضوء طويلا الأمد، يمتدان حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، والصباح يبدأ متأخراً وكذلك ساعات العمل. كل الكتابات على زجاج المقهى كانت بالخط الروسي، فهمت منها فقط أنه يكون مفتوحاً من الساعة العاشرة صباحاً حتى العاشرة مساء.
ماذا كانت تطلب حياتي أكثر إن كان فيها بضعة روتينات كالسّير كل صباح للوصول إلى المقهى المقابل لشقة دوستويفسكي وشبابيكها والجلوس أمامها؟
انغمست ثانية في المشي وانتظرت حلول الساعة العاشرة، لأدخل المقهى الصغير الدافئ، آخذ قهوتي وأجلس أمام شباكه أتأمل وأكتب وأقرأ. هكذا وخلال أيامنا في سان بطرسبورغ تحول ذلك المقهى إلى جزء من صباحاتي كل يوم، مترصدة فرصاً أخرى خلال النهار أو الليل كي أعود له وأجلس أمام الشباك، كأني في عالم لا يشبه إلا نفسه.
كنت أستيقظ كل يوم، أترك أصدقائي، وأسير باتجاه البيت الواقع خلف شارع "نفسكي" وخلف كل شيء. أشرب قهوتي، ثم أنهض مثقلة بالوجد والهناء، أحمل خبزاً ساخناً لهم، واللطيف أن المقهى كبعض مقاهٍ أخرى هناك، كان يخبز أيضاً. بعد ذلك أعود إلى مجموعتنا في "الهوستل"، لأعدّ لهم فطوراً صغيراً، ثم يبدأ يوم آخر من أيامنا في روسيا.
هل كنت سأشعر بالسأم والملل إن دامت صباحاتي كذلك لأعوام أو لمئة عام؟ أتساءل ماذا كان ينقصني من السعادة وأنا أمشي كل صباح لأصل إلى مكاني المفضل، أشرب قهوتي، وأسير ثانية في المدينة الكبيرة المدهشة بعماراتها وقراميدها ونهرها وجسورها ومقاهيها وناسها؟ ماذا كنت سأريد أكثر؟ ومن قال إن الروتين مملّ ومتعب؟ ماذا كانت تطلب حياتي أكثر إن كان فيها بضعة روتينات كالسّير كل صباح للوصول إلى المقهى المقابل لشقة دوستويفسكي وشبابيكها والجلوس أمامها؟ روتينات تحتوي على الطريق، بقدر ما تحتوي على الوصول!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...