شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
صدمات مغتربة في هولندا: عن الناس وابتساماتهم

صدمات مغتربة في هولندا: عن الناس وابتساماتهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 25 فبراير 202212:25 م

تلعب الصور الذهنية المسبقة دوراً كبيراً في تشكيل حياتنا وأفكارنا، ونُصدم حين نجد الواقع مختلفاً عن تلك الصور التي سبق أن كونّاها. من أكبر الصدمات التي تعرضت لها في حياتي هي الاعتقاد بأن الحياة في أوروبا متشابهة تماماً مع كل الصور الذهنية التي كونتها على مدار حياتي بأن تلك الحياة وردية بكل معنى الكلمة. وحين أتيت للعيش في أحد البلاد الأوروبية، هولندا، اكتشفت أن هناك صوراً ذهنيةً صحيحةً، وهناك أخرى خطأ. ومن الحكمة أن أترك كل تلك الأفكار المسبقة خلفي وأن أبدأ التجربة كما هي من دون توقعات.

على العكس من ذلك تماماً الناس في الريف الهولندي، حيث حدثت لي إحدى أكبر صدماتي، وهي أن الناس كلهم مبتسمون!

سبق وقررت مشاركتكم تلك الخبرات رغبةً مني في "ألا يتعرض أحد" لمثل تلك الصدمات، وبدأت ذلك في مقالي السابق إذ تحدثت عن صدماتي في الجهاز الطبي وما رأيته واختبرته، وسوف استكمل اليوم حكاياتي عن موضوع مختلف، ألا وهو الناس.

يختلف الأشخاص في الشكل واللون واللغة وغيرها، ومع اختلاف البلدان والأماكن تختلف طباع الأشخاص وعاداتهم وتقاليدهم. الأماكن وطبيعة الحياة فيها تؤثر على ساكنيها، فتختلف الحياة في المدن عنها في الريف، وتختلف معها السمات العمرانية والديموغرافية نتيجة اختلاف سمات العمل، مما يؤثر على نمط الحياة بأكملها.

تمتاز المدن الهولندية بطبيعة ديموغرافية مختلطة، لكن الريف الهولندي ما زال محتفظاً -في الأغلب- بسكانه الهولنديين الأصل والمنشأ. وفي المدن الهولندية كنظيراتها من المدن الأوروبية حيث نمط الحياة أسرع، نرى أن الأشخاص في الشوارع دائماً في عجلة من أمرهم، وينعكس ذلك على سرعة مشيهم، وطريقة تعاملهم. الكل في حاله؛ لا ينظرون إلى أحد ولا يقتحمون أحداً سواء بابتسامة أو تحية. حتى حين تقترب من أحدهم لتسأل عن الطريق مثلاً، فإن أغلب الناس حينها يشعرون بالغرابة أولاً، ثم يجيبونك باختصار، ويكملون طريقهم.

على العكس من ذلك تماماً الناس في الريف الهولندي، حيث حدثت لي إحدى أكبر صدماتي، وهي أن الناس كلهم مبتسمون!

بدأت صدمتي ذات صباح في إحدى القرى الهولندية حين كنت في طريقي، ومرت قبالتي إحدى السيدات وهي تمشي ببطء مع كلبها الصغير كثيف الشعر، وقالت لي مبتسمةً: "مرحبا". فالتفت حولي لأرى ما إذا كانت تحيّي شخصاً آخر، فلم أجد سواي، فابتسمت ابتسامةً عريضةً، وقلت لها "مرحبا" وأكملت طريقي. لم يمر عليَّ الموقف مرور الكرام، وظللت طوال اليوم أفكر كيف لأحد أن يحيّي غريباً لا يعرفه، بل كيف وهي تعرف من هيئتي ولون بشرتي أنني لست هولنديةً؟

تذكرت يومها حالة الناس في محيطي في القاهرة، وأنهم لا يبتسمون ودائماً عابثون، بل حين ابتسمت ذات يوم في وجه فتاتين تكبرانني سناً، وكنت حينها في العاشرة من عمري، سمعت إحداهما تقول لي: "هل أنت مجنونة؟ ما هذه التي تضحك في أثناء مشيها في الشارع؟"، ومنذ ذلك الحين تعلمت ألا أبتسم في وجه من لا أعرفهم إطلاقاً.

من أكبر الصدمات التي تعرضت لها في حياتي هي الاعتقاد بأن الحياة في أوروبا متشابهة تماماً مع كل الصور الذهنية التي كونتها على مدار حياتي بأن تلك الحياة وردية بكل معنى الكلمة. وحين أتيت للعيش في أحد البلاد الأوروبية، هولندا، اكتشفت أن هناك صوراً ذهنيةً صحيحةً، وهناك أخرى خطأ

في اليوم التالي، مررت في طريقي برجل وامرأة يسيران، وتكررت التحية نفسها مع الابتسامة نفسها، وتكرر معها رد فعلي بأنني بحثت حولي عن أشخاص غيري يلقون عليهم التحية، ولم أجد أحداً، واكتشفت أيضاً أنني أنا التي يلقون عليها التحية؛ على الفور ابتسمت ابتسامةً أعرض من نظيرتها في اليوم السابق، ورددت التحية، واستمرت ابتسامتي تلك طوال طريقي.

ومرت الأيام وتوالت الابتسامات والتحايا من الغرباء. لا أستطيع أن أشرح مشاعري المتناقضة، إذ إنني كنت أتوقع أن كل الأماكن في أوروبا تمتاز بالسياق الحضاري نفسه للمدن، ولم أكن أتخيّل أن هناك تلك الاختلافات الجوهرية في طباع الأشخاص. بل وصل بي التنميط وافتراض الصور الذهنية الواحدة إلى أنه حتى في الريف الأوروبي لا توجد سمات المجتمعات الريفية، وهو ما وجدت نقيضه حين عشت هناك.

ومرت الأيام وتوالت الابتسامات والتحايا من الغرباء. 

وعلى الرغم مما ذكرته عن طبيعة السكان واختلافاتهم تلك، إلا أن هولندا صُنِّفت دولياً من أصعب الدول في تكوين الصداقات على الرغم من أن غالبية الأشخاص في هولندا يتكلمون الإنكليزية بطلاقة. وكانت هذه مفارقة وصدمة بالنسبة إلي، فقد توقعت أن شعباً ودوداً هكذا من السهل صداقة العديد من أفراده في سياقات متعددة كالعمل والدراسة والجيرة وغيرها، لكنني لست وحدي التي فشلت في تكوين صداقات في هذا البلد بل إن كثيرين من المغتربين والمحليين أيضاً يتحدثون عن ذلك.

وحين أتحدث عن طبيعة الناس في هولندا، لا بد أن أذكر أن عدد السكان في هولندا نحو 17 مليون نسمة ونصف، من ضمنهم أكثر من أربعة ملايين من أصل مهاجر من بلدان كثيرة حول العالم. وعلى الرغم من أن هناك أصواتاً في البرلمان تصرخ ضد وجود اللاجئين من الشرق الأوسط، ومع وجود عدد من المتعصبين في أماكن عدة، إلا أن المجتمع الهولندي بغالبيته مجتمع مرحب بالثقافات المختلفة، ويحترم اختلاف العادات والتقاليد، بل أيضاً يراعي اختلاف الديانات والعقائد، وهذا ما يجعل الحياة في هولندا مريحةً على الأغلب للجاليات العربية التي صُدمت بأنها تشتهر بانغلاق أفرادها على أنفسهم.

حين رأيت تجمعات لمصريين وأخرى لسوريين أو لعراقيين أو لمغاربة وغيرهم، صُدمت صدمةً مختلفة؛ اعتقدت أنهم في غالبيتهم منخرطون في المجتمع الهولندي، وأن تجمع الجاليات يكون في أغلب الأوقات رمزياً. لكنني وجدت أن لهذه التجمعات أماكن خاصةً للتسوق والمأكولات والمطاعم، خاصةً حول المساجد الكبيرة في المدن. وفي بعض هذه التجمعات يتم تنظيم عدد من الأنشطة الاجتماعية بهدف الترفيه والتعارف.

تذكرت يومها حالة الناس في محيطي في القاهرة، وأنهم لا يبتسمون ودائماً عابثون، بل حين ابتسمت ذات يوم في وجه فتاتين تكبرانني سناً، وكنت حينها في العاشرة من عمري، سمعت إحداهما تقول لي: "هل أنت مجنونة؟ ما هذه التي تضحك في أثناء مشيها في الشارع؟"، ومنذ ذلك الحين تعلمت ألا أبتسم في وجه من لا أعرفهم إطلاقاً

ووسط هذه التجمعات المغلقة والمنغلقة أيضاً، يزداد الالتزام الديني كرغبة داخلية في هزيمة ما يطلقون عليه "الانحلال الأوروبي"، ومع ازدياد النزعة الدينية يزداد أيضاً الانتقاد والدعوة للالتزام والزواج المبكر أيضاً.

ومن الأمور التي لاحظتها وقرأت عنها كثيراً، أنه كلما ازداد انغلاق تلك المجموعات على بعضها، كلما ازداد نفورهم من المجتمع المحيط بهم، وعدم اندماجهم بالشكل المطلوب بسبب الشعور بالاغتراب، والبحث في تلك التجمعات عن الوطن المفقود أو الشعور بعدم الانتماء إلى الثقافة في المجتمع المضيف أو التمسك بما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا وعدم التفريط به أو الحفاظ على الثقافة المحلية أيضاً وغيرها.

لا أريد هنا أن أعقد المقارنات بين طبيعة الشعوب المختلفة، فلكل منها ثقافته وعاداته، بل أردت أن أسرد القليل مما رأيته حولي، وأؤكد على ضرورة التنوع الثقافي والحضاري لازدهار المجتمعات.

ونهايةً أستند إلى قول الشاعر معروف الرصافي:

كل ابن آدم مقهور بعادات/ لهن ينقاد في كل الإرادات

يجري عليهن في ما يبتغيه ولا/ ينفك عنهن حتى في الملذات

وأبي الفتح البستي حين قال:

لا تحسب الناس طبعاً واحداً فلهم/ غرائز لست تحصيها وأكنان


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image