شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
“لقد غسلت عاري بيدي“... ما زالت جرائم قتل النساء في العراق كابوساً

“لقد غسلت عاري بيدي“... ما زالت جرائم قتل النساء في العراق كابوساً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 24 فبراير 202203:33 م

تندرج هذه المقالة ضمن "طيف22"، وهو مشروع مخصص لالقاء الضوء على التنوعات والاختلافات الجنسانية والجندرية والجسدية في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يشارك فيه صحفيون وصحفيات، ناشطون وناشطات وأفراد من مجتمع الميم-عين أو داعمون لهم/نّ، ليكون مساحة للتعبير بحرية عن مختلف المواضيع المتعلقة بالتوجّهات الجنسية والجندرية والصحّة الجنسية، بغرض كسر التابو والحديث بموضوعية عن هذه المسائل الشائكة.

حين كنت طفلاً، أتذكر جيداً الصرخات والأصوات التي تعالت بعد منتصف الليل لتقض مضجعي، وما زالت إلى الآن تنخر بذاكرتي، بعدها تناهى إلى مسامعي همساً: "إنها قتلت"، سمعت حينها صوتاً لرجل أعرفه كان يصرخ كوحش كاسر: "لقد قتلتها، لقد غسلت عاري بيدي، لن يعايرني أحد منكم بعد الآن".

وراح ينادي بأسماء يعرفها: "يا فلان ويا فلان لن تتحدثوا بعد الآن على شرفي... لقد قتلتها وانتهى الأمر".

كان ذلك في تسعينيات القرن المنصرم في مدينة الحيانية، أكبر المدن الشعبية التي تقع غرب مركز محافظة البصرة في العراق حيث كنت أقطن. "الضحية" كانت واحدة من نساء الحيّ اللواتي ابتلعت الحرب العراقية- الإيرانية أزواجهنّ، وبعد أن أحبت رجلاً وقام أهالي الحي بالحديث عنها بالسوء ومعايرة أهلها، أقدم أحد أخوتها على "تصفيتها".

في اليوم التالي، زغردت والدتها ووضعت الحناء بيديها وكان هناك كف من الدماء مطبوع على الحائط كإثبات للناس بأنها قُتلت بالفعل، اما فرحة والدتها المفتعلة؛ فهو يندرج ضمن طقس كانت تمارسه النساء قديماً بعد هكذا حوادث، لكن سرعان ما شعرت الأم بالندم والمرارة على فقدان ابنتها وراحت تندبها وتبكيها.

حُكم على الجاني بالسجن ستة أشهر وتمت معاملته بتقدير واحترام طيلة فترة محكوميته وكأنه بطل، ليخرج بعدها ويمارس حياته بشكل طبيعي.

انعدام الإحصائيات

مرت السنوات وما زالت جرائم قتل النساء في العراق تحت ذريعة الشرف كابوساً يؤرقني، فالأخبار تتوالى حول فتاة قُتلت هنا أو هناك دون تدخل الجهات المعنية ومن دون توفر إحصائيات دقيقة عن هذه الجرائم حتى اليوم.

تعليقاً على هذه النقطة، قالت الناشطة في حقوق الإنسان لوديا ريمون، التي عملت سابقاً مع جمعية الفردوس العراقية، لرصيف22: "حاولت المؤسسة في العام 2018 إجراء إحصائية لعدد ضحايا جرائم الشرف وقضايا الانتحار بالتواصل مع دائرة صحة البصرة، الا انهم رفضوا التعاون خوفاً من الملاحقة العشائرية".

حين كنت طفلاً، أتذكر جيداً الصرخات والأصوات التي تعالت بعد منتصف الليل لتقض مضجعي، وما زالت إلى الآن تنخر بذاكرتي، بعدها تناهى إلى مسامعي همساً: "إنها قتلت"، سمعت حينها صوتاً لرجل أعرفه كان يصرخ كوحش كاسر: "لقد قتلتها، لقد غسلت عاري بيدي، لن يعايرني أحد منكم بعد الآن"

وفي العام ذاته، شاركت لوديا ومجموعة من الناشطات النسويات بإطلاق حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسم "جرائم الشرف بلا شرف"، في محاولة منهنّ لإيصال صوت ومظلومية النساء المغدورات: "بعض ممن لديهم مشاكل عائلية أو خلاف على ميراث يلجؤون إلى تصفية حساباتهم تحت يافطة الشرف، كقصة أخوين أقدما على تصفية أختهم التي رفضت التنازل عن ميراثها، وبعد أن قُبض عليهم من قبل الجهات الأمنية والتحقيق معهم بهذا الشأن تملّصوا من الجريمة بذريعة أنها جريمة شرف"، وفق ما قالت لوديا ريمون.

وكشفت لوديا أن هناك طرقاً أكثر خبثاً تستخدمها بعض العائلات للتخلص من بناتها، كقتل الفتاة والزعم بأنها انتحرت بغية تجنب المسائلة القانونية، أو استخدام أسلوب الضغط على الفتيات وتعنيفهنّ وحرمانهنّ من الدراسة والخروج وعدم تلبية احتياجاتهنّ، وبالمحصلة حبسهنّ وعزلهنّ عن العالم، ما يدفع ببعضهنّ للانتحار.

وفي هذا الصدد، ذكرت ريمون حادثة وقعت في العام 2019 في قضاء أبي الخصيب، أقصى جنوب العراق في محافظة البصرة، تدور حول فتاة جامعية عرف أهلها أنها على علاقة بأحد زملائها، فقاموا بتعنيفها وحبسها في المنزل وتم إقناعها بأنها عار على شرف العائلة، الأمر الذي دفعها وبظروف قاسية الى حرق نفسها.

وكشفت لوديا أنها تتواصل وزميلاتها الناشطات النسويات بعد كل جريمة قتل مع أحد أقارب أو معارف الضحية لتبيان حقيقة الأمر للناس، وكوسيلة لتثقيف المجتمع بحقيقة ما يجري على أرض الواقع وما تعانيه النساء من ظلم واضطهاد.

ومن الجرائم التي تابعتها ريمون وزميلاتها الناشطات النسويات، قصة شاب في مدينة الصدر في العاصمة العراقية بغداد، أقدم على قتل شقيقتيه، حوراء وزهراء، من خلال إطلاق النار عليهما، وفي وقتها ادعى أنه قتلهما بدافع "الشرف"، إلا أن والدة الضحيتين أكدت أن ابنها ساعة وقوع الجريمة لم يكن بوعيه وليس للأمر علاقة بالشرف إطلاقاً، ليثبت ذلك لاحقاً في اعترافاته بحسب إعلان وزارة الداخلية العراقية.

سطوة العشيرة والأعراف

هناك تحديات كثيرة تواجهها الناشطات في قضايا جرائم الشرف، كسطوة العشيرة والأعراف والتقاليد السائدة.

نذكر على سبيل المثال، حادثة قتل اليوتيوبر محمد العيساوي ابنته شهد ذات الأربعة عشر ربيعاً في مركز محافظة البصرة، لمجرد رؤيتها واقفة مع أحد الشبان، حيث حصلت هذه الجريمة "بمباركة العشيرة وحمايتها، وهناك الكثير ممن برروا الجريمة على أنها شأن عشائري وعائلي ولا يجب التدخل فيه"، حسب لوديا ريمون.

وفي حديثها مع رصيف22، روت مديرة مؤسسة الميامين الإنسانية، ميامين محمد سالم، قصة فتاة تقبع حالياً في أحد السجون، ومعرضة للقتل في حال خروجها من السجن.

وفي التفاصيل، فقد تحرش بها والدها وأولاد عمومتها بعد وفاة والدتها لذلك هربت من المنزل، وقام باختطافها مجموعة من الشبان الذين تعرضوا لها واعتدوا عليها لحين عثرت عليها الجهات الأمنية. ونظراً لغياب دعوى مقامة أو وجود شهود، لم يتعرض أي من المعتدين للمسائلة أو العقاب.

وعن هذه الحادثة، قالت ميامين: "نحن في حيرة، فإذا تم إرجاع الفتاة لأبيها قد تتعرض للقتل أو لمزيد من التحرش، وإذا تم إخراجها للشارع وبسبب قلة وعي الفتاة وجهلها قد تتعرض لما هو أسوأ، لعدم وجود أماكن لرعاية وإيواء الفتيات في مثل هكذا حالات".

في السياق نفسه، روت ميامين قصة امرأة أخرى معرضة للقتل: "جاءتنا امرأة هاربة من منطقة زراعية في أقصى جنوب العراق في مدينة البصرة، هي وبناتها الأربع، بعد أن انتحرت ابنتها الكبرى (18 عاماً) قبل زفافها خوفاً من أن يكتشف أمرها، حيث كان والد الفتيات يغتصبهنّ".

وأضافت: "بقي الوالد المجرم حراً طليقاً، فيما اضطرت الأم للهروب مع بناتها خوفاً من زج الفتيات بفضيحة ربما تلاحقهنّ طوال حياتهنّ، فالقانون لا يقف مع هكذا قضايا أيضاً".

وبيّنت ميامين محمد سالم، والتي تعمل ضمن مشروع لليونيسيف لحماية الأحداث، لرصيف22، أنه على الرغم من كل هذه المآسي "إلا أن المؤسسة ساعدت الكثير من الفتيات على النجاة، حيث تنسق مع المفوضية العليا لحقوق الإنسان والشرطة المجتمعية المخولة بحل القضايا آنياً دون إحالتها الى القضاء، وذلك بحضور أهالي الفتيات ليتم بعدها أخذ التعهدات وإلزامهم بسلامة بناتهم ورعايتهم، فضلاً عن الزيارات الدورية غير المتوقعة من قبل المؤسسة للاطمئنان على حياة الفتيات وسلامتهنّ، بالإضافة إلى وجود خط ساخن يمكن للفتيات الاتصال به في حال تعرضن للإساءة أو الأذى".

وذكرت ميامين أن المؤسسة توفر أيضاً فرص عمل واندماج للفتيات الناجيات من جرائم الشرف من خلال دعمهنّ وتشجيعهنّ: "ساعدنا مؤخراً فتاة تبلغ من العمر 16 عاماً، هربت من منزل أهلها في محافظة أخرى، لتعرضها للتعنيف من قبل زوجة أبيها، وبتواصلها مع الوالد، أخبرها: "بإمكانك الذهاب الآن الى مقبرة النجف ستجدين هناك قبر لك، فقد أخبرنا الجميع بأنك ميتة! فلا تفكري بالرجوع أبداً".

وتابعت بالقول: "تواصلت المؤسسة مع الوالد وخلصت معه بعد مفاوضات شائكة لعودتها وتعهد بسلامتها وعدم معاقبتها، وأشركت منظمة الميامين الفتاة بأحد المشاريع، ليكون لديها عمل ناجح".

دور الإعلام

من جهته، تحدث الصحافي أحمد النجم لرصيف22، عن الإعلام ودوره في تسليط الضوء على جرائم قتل النساء في العراق: "لا يرتقي دور الإعلام إلى أن يكون إيجابياً، فهو يتعامل بمحدودية كبيرة مع الجرائم، وإذا تطرق الى حالة معيّنة فإنما يتطرق اليها من باب نقل الخبر لا أكثر، وأنه طرف وكيل وليس أصيل، مع عدم الدخول عميقاً بأسباب ومشكلات الجرائم التي تحصل بداعي الشرف، وإنما يمر عليها بشكل سطحي".

يعمل النجم مراسلاً لإحدى القنوات العربية، وبعد وقوع جريمة اليوتيوبر محمد العيساوي، أراد متابعة القضية، فتواصل مع ممثل عن السلطات الأمنية في البصرة الذي امتنع عن التصريح وطلب منه عدم الخوض في الموضوع والتوسع فيه، بداعي أن مثل هذه الجرائم ذات بعد عائلي وعشائري في الغالب، طالباً منه عدم نقل الموضوع من الأساس، معتبراً أن الإعلام سيكون بهذه الحالة أداة تشهير وليس سبيل للحل.

واعتبر النجم أن المشكلة ليست في نص وروح القانون وإنما في شخصية المنفّذ والمطبق لهذا القانون الذي هو أساساً يضع لقباً عشائرياً بجانب اسمه.

وعليه، شدد أحمد على ضرورة أن يسلط الإعلام الضوء على أن جريمة الشرف هي جريمة في النهاية، ولا يجب التعامل معها على أنها جريمة مبررة، وأن يرفع من درجة استقلاليته بحيث لا يعمل وفق إيديولوجيا مجتمعية، بل وفق معايير مهنية.

للأسف تبقى أرواح النساء والفتيات الصغيرات في العراق رهينة بيد العشيرة وأصحاب العقلية الذكورية المستفحلة، الذين يرون أنه لا يحق للنساء الخوض في أي علاقة خارج إطار الزواج ولا يحق لهنّ التعبير عن مشاعرهنّ مطلقاً، في الوقت الذي يبيحون فيه لأنفسهم فعل كل شيء

بدورها، أشارت الإعلامية ومقدمة البرامج العراقية أزل السياب، إلى أن "الإعلام العراقي بات يتحاشى الخوض في جرائم الشرف، لأن العرف العشائري هو السائد والمسيطر في المجتمع، وهو أعلى سطوة من القانون، لذا لا تفكر المؤسسات الإعلامية والصحفيون بتوريط أنفسهم بمشاكل قد تصل لتصفيتهم أو تهديدهم عشائرياً".

وأضافت لرصيف22: "هناك بعض الإعلاميين أو الطارئين على المهنة يعتبرون جرائم الشرف ليست بالجرائم التي تستحق أن يسلط الضوء عليها، وإنما هي أمر عائلي بحت، وكل عائلة تحل شؤونها الداخلية بالطريقة التي تراها مناسبة".

في الختام، للأسف تبقى أرواح النساء والفتيات الصغيرات في العراق رهينة بيد العشيرة وأصحاب العقلية الذكورية المستفحلة، الذين يرون أنه لا يحق للنساء الخوض في أي علاقة خارج إطار الزواج ولا يحق لهنّ التعبير عن مشاعرهنّ مطلقاً، في الوقت الذي يبيحون فيه لأنفسهم فعل كل شيء، في حين أنهم مستعدون لإنهاء حياة أي امرأة من العائلة لمجرد الشك في احتمال انخراطها في علاقة عاطفية مع أحد. 

هذا المشروع بالتعاون مع Outright Action International.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image