شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
في جامعات لبنان... مجموعات تغييرية تواجه ثقافة إعادة إنتاج الهيمنة

في جامعات لبنان... مجموعات تغييرية تواجه ثقافة إعادة إنتاج الهيمنة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 19 فبراير 202201:51 م

في لبنان، وبشكل خاص في العقود الثلاثة الأخيرة، وبسبب النظام السياسي والانتخابي الطائفي، تحوّلت العلاقات بين المواطنين والأحزاب السياسية إلى علاقات زبائنية، تُعلي المصالح الخاصة على أي اهتمام بالشأن العام.

ألغت تقديمات الأحزاب السياسية/ الطائفية لمناصريها مفهوم دولة الرعاية العامة، وطمست معالمها، واستولت هذه الأحزاب على مقدرات الدولة ووظّفتها بالطريقة التي تخدم مصالحها عبر توزيع المناصب والوظائف والخدمات على جماهيرها مقابل ولائهم الأعمى وغير المشروط.

الأحزاب في الجامعات

تشكّل الجامعات مراكز أساسية لاستقطاب الفئات الشبابية، ولذلك دخلت الأحزاب السياسية إليها عبر أندية طلابية مهمتها تقديم الخدمات للطلاب المنتسبين إليها ومساعدتهم في تسيير أمورهم داخل الجامعة، بدءاً من التسجيل، مروراً بإعطائهم محاضرات مساعِدة لتقوية مهاراتهم الأكاديمية، وصولاً إلى دعمها لهم عبر مساعدات مالية تساعدهم في تسديد الأقساط، حتى لو كانت هذه "التوزيعات" غير عادلة نسبةً إلى حاجة الطلاب المادية.

كل هذه "العطايا" تُقدَّم مقابل انتسابهم إلى نوادي الأحزاب الطلابية والتصويت لها في انتخابات مجالس الطلاب وصولاً إلى انتسابهم إلى هذه الأحزاب في مراحل لاحقة. من هنا تبدو واضحة السياسات التي تستخدمها الأحزاب في استقطاب الشباب والشابات.

انتشار الزبائنية في الجامعات هو موضوع قيد التداول بين الطلاب الجدد بطريقة علنيّة، ويلغي "التطبيع" معها أي تمييز بين الولاء العقائدي والولاء المصلحي.

بطبيعة الحال، تتفاوت نسبة هذه الممارسات بين جامعة وأخرى ولكنها بشكل عام موجودة في كل الجامعات الخاصة، العريقة منها وحديثة الإنشاء وتلك التي حصلت على تراخيص دون أن تستوفي كامل الشروط، مدفوعةً بانتماء مؤسسها الطائفي والحزبي، وفي الأخيرة تظهر الزبائنية في أبهى حللها.

أما الحالة الفريدة فهي الجامعة اللبنانية، وفيها تقع كل الكليات تحت سيطرة قوى الأمر الواقع، تبعاً لمنطقة وجودها، وكل طالب لا يتبع الخط السياسي المسيطر في كليته غير مرغوب فيه ويُحرم من العطايا الأكاديمية ودعم مجلس الطلاب الذي عادة ما يكون من لون طائفي وحزبي واحد.

تؤثر ممارسات الأحزاب الزبائنية في الجامعات على تكوين شخصية الشباب الذين يبدأ كثيرون منهم بالمشاركة فيها احتياجاً للمساعدة، أو طمعاً بها، ليتطور الأمر لاحقاً ويصير التزاماً سياسياً، ما يتيح لهذه الأحزاب إعادة إنتاج ثقافة هيمنة ترسخ أسس النظام السياسي الذي يتحكم باللبنانيين، ويتيح التجديد المستمر لطبقة سياسية تلغي فكرة المواطنة ومبدأ الكفاءة، بل تعمل على تكريس الانقسامات بين اللبنانيين.

وتؤثر الزبائنية في توجهات الشباب وآرائهم حول سوق العمل لاحقاً. تُسخَّف بنظرهم قيمة الشهادات عند وجود "الواسطة" التي قد توظِّف الأقل كفاءة في مراكز مرموقة على حساب الأكثر كفاءة، فقط لأنه ينتمي إلى حزب أو جهة سياسية نافذة. ومن جهة أخرى، نلمس تأثيراً سلبياً لها على خيارات الشباب غير المتحزبين والذين يبحثون مباشرة عن فرص عمل خارج البلد إيماناً منهم باستحالة العثور على وظيفة بدون دعم حزبي أو سياسي.

ففي النظام الزبائني، تأتي الكفاءة في المرتبة الأخيرة من شروط التوظيف، ما أدى إلى "هجرة الأدمغة" وتردي أوضاع المؤسسات العامة التي كثيراً ما نرى فيها أشخاصاً غير مناسبين في أماكن حساسة.

مشهد موازٍ

في المقابل، حاول ويحاول بعض الشباب العلمانيين والشابات العلمانيات في الجامعات ممن يؤمنون بالحريات والتقدمية والتشاركية، شق طريقهم المليء بالصعوبات، في ظل إدارات خاضعة لنفوذ أحزاب.

منذ تأسيس النادي العلماني في الجامعة الأمريكية في بيروت، كان منافساً شريفاً وسط بيئة سياسية معادية مع طروحات تقدمية شبابية تُعنى بأمور الطلاب الأكاديمية وتحاول خلق وعي سياسي بعيد عن الطائفية.

ولعب النادي دوراً مهماً في الحركات الاحتجاجية التي بدأت عام 2011 مع الحملات والمسيرات ضد النظام الطائفي التي خرجت نتيجة تفاعل الفئات العلمانية مع الربيع العربي، وبعدها في حراك عام 2015 الذي كانت شرارته أزمة النفايات التي تراكمت في شوارع العاصمة، وصولاً إلى تجربة ثورة تشرين، التي خاضها بشكل منظم أكثر، عاميْ 2019 و2020.

"تؤثر الزبائنية في توجهات الشباب اللبنانيين وآرائهم حول سوق العمل. تُسخَّف بنظرهم قيمة الشهادات عند وجود ‘الواسطة’ التي قد توظِّف الأقل كفاءة في مراكز مرموقة على حساب الأكثر كفاءة، فقط لأنه ينتمي إلى حزب أو جهة سياسية نافذة"

وبالرغم من التحزب السائد في الجامعات، إلا أن الأندية العلمانية والمجموعات التغييرية التي تؤمن بمساوئ النظام الطائفي وزبائنيته وتدعو للمساواة والعدالة الاجتماعية وتسعى إلى التغيير الاجتماعي والسياسي حفّزت قيام حركات تغييرية عدّة.

وعندما ظهرت موجة الغضب التشرينية التي أظهر مئات آلاف المشاركين فيها الاستياء من الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وألقوا اللوم على أحزاب المنظومة الحاكمة، أحيي التفاؤل بإمكانية تطويق السلطة. ولمعت بارقة الأمل من الجامعات مع فوز النوادي العلمانية والمجموعات المستقلّة في الانتخابات الطلابية في الجامعات الخاصة الكبيرة (الأمريكية واللبنانية-الأمريكية واليسوعية)، ما مثّل علامة فارقة في الصراع ضد الأحزاب السياسية التقليدية.

وتوسع حضور وتأثير هذه الأندية والمجموعات ونجحت في تعميم خطابها أكثر بين الفئات الشبابية، ما شكّل خطراً غير مسبوق على مصالح الإدارات من جهة وشبكات الأحزاب الزبائنية من جهة أخرى.

واجه النظام الحاكم هذا التأثير بأمكر الطرق، إذ شنّ عبر أذرعه كافة (السياسية، المالية والأمنية) هجوماً مضاداً وعمد إلى إذلال المواطنين كافة من خلال حرمانهم من المواد الأساسية وإعادة تكريس شبكاته الزبائنية بالقوة. أدى ذلك إلى انحسار المدّ التغييري في أوساط الفئات الشبابية، وتلاشت قدرة الحركات القاعدية على المواجهة، خاصةً في الأوساط الاجتماعية المحدودة الدخل، وخاصةً بعد صيف 2020.

قد تبدو هذه النظرية غير واضحة عند البعض، لكننا لمسنا في أوساط الطلاب عامل الخوف على المصير والمستقبل. فالإذلال الذي حصل أعاد بث التفكير الأناني (المحق نوعاً ما) لدى جميع الفئات، خاصةً الشباب.

ولعب العامل الأمني دوراً كبيراً في انحسار المدّ التغييري. لم نشعر كفئات شبابية يوماً بوجود أبسط مقومات الأمان، في سياق التفلّت الأمني الكبير منذ بدء اهتزاز النظام الحاكم. كثيرون من الناشطين واجهوا استدعاءات ومضايقات وحتى ضغوطات اجتماعية. على سبيل المثال، خلال التحركات الطلابية ضد "دولرة" الأقساط، استُدعي بعض المنظّمين إلى التحقيق، عدا مضايقات عديدة تعرض لها ناشطون في النوادي العلمانية والمجموعات التغييرية في مناطق نفوذ حزب الله، واستدعاءات من قبل الأجهزة الأمنية.

ومع توالي الهجمات المتنوعة من قبل أذرع النظام، أكانت على أفراد فاعلة أو على المجتمع ككل، ضعف عامل التحفيز والحس بالجماعة لدى فئات تطمح إلى مستقبل واعد لكنها وُلدت في مجتمع يربّي على الأنانية وفي نظام قائم على اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية يحاول الفرد فيه عدم الانزلاق إلى الأسفل.

مكر النظام وقوته

من خلال بنيته الزبائنية، لطالما نجح النظام اللبناني في جر المتخرجين حديثاً من الجامعات إلى "لعبته"، في أول استحقاق تكويني لحياتهم العملية. تمرُّس النظام في لعبته هذه والعراقيل التي يخلقها القانون أحياناً، وغياب القانون في أحيان أخرى، يصعب على الحركات التغييرية عملية تعميم خطاب جديد يمهد لإعادة هيكلة علاقة المواطن بالدولة وبالتالي ممارسة سياسية نقيضة للسلطة الحالية.

"الخطوة الأساسية في سبيل الانفكاك من هذه الدوّامة تتمثل في كسر شبكات النظام الزبائنية، عبر شبكات أمان اجتماعية تُبنى خارج أطر المحسوبيات"

الخطوة الأساسية في سبيل الانفكاك من هذه الدوّامة تتمثل في كسر شبكات النظام الزبائنية، عبر شبكات أمان اجتماعية تُبنى خارج أطر المحسوبيات. لكن قدرتنا كحركات قاعدية محدودة مقارنةً بقدرة النظام على المناورة، خاصة خلال الأزمات.

قد يكون انتشار الأندية العلمانية في الجامعات الخاصة مرتبطاً بالفضاء المفتوح الذي توفّره، والتنوع الثقافي الذي تحتضنه والقدر اليسير من الحرية التي تضمنها، ما يشكل بيئة حاضنة لكل أنواع الثقافات، إذ يعتبر علماء الاجتماع أن الفضاء المفتوح هو أحد الشروط الأساسية للتغيير الاجتماعي.

ولكن هذه الظروف لا تتوفر في كليات الجامعة اللبنانية المُسيطر عليها من قبل الأحزاب الحاكمة، ما يجهض تجارب الحركات الشبابية التغييرية فيها، وهي التي تحتضن معظم شباب وشابات لبنان.

ومن أجل إحداث أثر أقوى، بناءً على قضايا مشتركة تتخطى الانقسامات الطائفية وتولّد حساً بالهوية الجماعية العابرة للطوائف والمتجاوزة للولاءات الحزبية، يجري العمل على توسيع النضال ضد مجموعة السلطة الفاسدة التي عاثت في البلاد انقسامات عمودية تؤمّن استمرارها.

توسعت الأندية العلمانية في الكثير من المناطق اللبنانية، في مؤشر إيجابي وسط الأجواء السوداوية السائدة، وحالياً تعمل هذه الأندية على دعم ترشيح شخصيات تتوافق معها في الطروحات لخوض الانتخابات النيابية المرتقبة في أيار/ مايو القادم.

فمع حرب النظام علينا والثورات المضادة ضد ثورة تشرين، يبقى الأمل بتضامن الفئات الشبابية وإيمان شباب وشابات لبنان بدورهم الريادي في إنتاج مفاهيم سياسية جديدة تشكل مدخلاً إلى حياة سياسية واجتماعية أفضل.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image