مع دخول المجتمعات العربية في موجة الحداثة، شعر المسلمون بحالة من الصدمة نتيجة الضعف العربي والإسلامي بمواجهة التفوق الغربي، فبدأ المتنورون من رجال الدين بالدعوة إلى التوفيق بين التعاليم الإسلامية ومُفرزات الحداثة الغربية، في محاولةٍ لإصلاح الموروث الديني.
بدأت عملية الإصلاح في العصر الحديث بمحاولة الإمام محمد عبده عَقلنة الفكر الديني وتنقيح مروياته، واستمرت لعقود حتى وصلت إلى أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة الأزهر أحمد صبحي منصور الذي عمل على نقد التراث الديني ومرويات رجال الحديث وأهمهم الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، صاحب "صحيح البخاري".
ومن أكبر جامعة إسلامية سُنيّة في العالم الإسلامي، شكّك منصور في السُنّة النبوية ودورها كمصدر أساسي للتشريع، فوصفها بالاجتهادات البشرية الخاضعة للإملاءات السياسية من قبل الخلفاء، الأمر الذي أدى إلى طرده من عمله والتنكيل به وبأتباعه ممن سُمّوا بـ"القرآنيين".
ما حدث مع منصور كان تجسيداً واضحاً للاضطهاد المُنظَّم الذي تمارسه السلطة الدينية، مُمثَّلةً بالأزهر، تجاه أية رؤى دينية مختلفة عن تلك الرسمية، وهو ما يعرض له التقرير من خلال مناقشة أوضاع القرآنيين فى مصر.
تمرّد أستاذ جامعي
أحمد صبحي منصور هو مفكر إسلامي وأستاذ جامعي سابق من مواليد محافظة الشرقية عام 1949، نشأ وتربى في أسرة أزهرية وتلقى تعليماً أزهرياً. التحق بكلية اللغة العربية في جامعة الأزهر وحصل على الإجازة العلمية منها ليُعيَّن مُعيداً في قسم التاريخ، ثم يحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه.
في عام 1985، تقدّم منصور إلى لجنة الترقية لأستاذ مساعد بخمسة كتب، كان أهمها "الأنبياء فى القرآن: دراسة تحليلية". في الكتاب، انتقد منصور أحاديث "صحيح البخاري"، مستدلاً بآيات من القرآن رأى من خلالها أن لا شفاعة للنبي محمد، وأنه غير معصوم خارج ما يوحى إليه، ولا يجوز تفضيله على سائر الأنبياء.
أثار كتاب منصور حفيظة الأساتذة المتشددين، فأرسل هؤلاء شكاوى إلى شيخ الأزهر ورئيس الجامعة ورئيس الوزراء يتهمون عبرها زميلهم بإنكار السُنّة النبوية. إثر ذلك، أوقف منصور عن العمل وتمّت إحالته للتحقيق الذي استمر عامين حتى القبض عليه في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1987، في قضية "أهل القرآن"، المعروفة إعلامياً وشعبياً بقضية "مُنكِري السُنّة".
ماذا يقول القرآنيون؟
قبل أزمة الكتاب عام 1985 وحتى اعتقاله عام 1987، يقول منصور إنه كان يؤمن بالسُنّة لكنه يعرضها على القرآن فما وافق القرآن قَبِله وما خالفه رفضه، لكن مع اعتقاله رفَضَ السُنّة كلياً، ونادى بالقرآن كمصدرٍ أساسي وكافٍ لتعاليم الإسلام وتشريعاته.
في الفترة التي أعقبت فصله عن عمله وسبقت اعتقاله، جال منصور خطيباً في مساجد متعددة وندوات ومناظرات مختلفة في القاهرة ودمياط وطنطا، وهناك شرح منهجه القرآني، ما ساعد في تكوين أول تيار قرآني في مصر.
من أهم أفكار هذا التيار: الاكتفاء بالقرآن كمصدر وحيد لمعرفة الإسلام، ورفض السنة والسيرة النبوية باعتبارهما اجتهادات بشرية لها ظروفها السياسية وليست من الدين في شيء، وعدم الاعتراف بالناسخ والمنسوخ في القرآن وكذلك رفض حد الردة وحد الرجم ونفي عذاب القبر والولاء والبراء و حادثة الإسراء والمعراج ، وإباحة زواج المسلمة من "كتابي" (مسيحي أو يهودي)، فضلاً عن المناداة بعلمنة الإسلام وحقوق الإنسان.
عثمان محمد علي هو قرآني مصري تخرّج من كلية الصيدلة في جامعة الأزهر وهاجر إلى كندا عام 2005 هرباً من الاعتقال. يشغل محمد علي اليوم منصب الأمين العام لموقع "أهل القرآن"، وهو الموقع الرسمي لجماعة القرآنيين.
يقول، في حديث لرصيف22، إن القرآنيين لا يُشكّلون أي جماعة أو حزب وإنما يمكن اعتبارهم تياراً، يجمعهم الإيمان بالقرآن كمصدر وحيد لمعرفة الإسلام وقد يختلفون في ما بينهم على مسائل أخرى، وهو ما يفسر الاختلاف الظاهر بين بعض الباحثين القرآنيين.
الاكتفاء بالقرآن كمصدر وحيد لمعرفة الإسلام، رفض السُنّة والسيرة النبوية باعتبارهما اجتهادات بشرية، رفض حد الردة، المناداة بعلمنة الإسلام... ما يؤمن به "القرآنيون" تسبّب لزعيمهم أحمد صبحي منصور ولهم بعداء مع الأزهر وملاحقات أمنية متكررة
بسؤاله عن تجديد الخطاب الديني، يرى محمد علي أن تجديد الخطاب الديني يكون بتدبّر القرآن وتتبع سقطات التراث وبيان التناقض الواضح بين شريعة القرآن وشريعة الفقهاء.
ورغم إيمان القرآنيين بالحقوق والحريات وقيم الدولة المدنية فإنهم يرفضون الحريات الجنسية، وهو ما يشرحه محمد علي بالقول إن القرآن يرفض أية علاقة جنسية خارج الزواج ويعتبرها مخالفة للإسلام، أما عن المثلية الجنسية فيرى محمد علي فيها نوعاً من الأمراض النفسية التي تحتاج إلى التقويم والإصلاح، لكن ليس على فاعلها عقوبات بدنية بل عنف لفظي وحسب.
الانتشار الاجتماعي للقرآنيين
شكّلت الحملة الإعلامية والأمنية ضد القرآنيين دعاية مجانية لهم، فأصبحت قضية "مُنكِري السنة" شأناً عاماً، وتحولت أخبارهم إلى مادة صحافية تعمل على نشرها الصحف لجذب القراء، فتكاثرت أعدادهم وأصبحوا يشكلون مجموعة فكرية تُخالف المذهب العام في الدولة والتوجه الرسمي للمؤسسة الدينية الرسمية.
ومع ذيوع الفكر القرآني في فترة الثمانينيات، بفعل الخُطب والدروس التي ألقاها منصور في المساجد والنوادي، انتشر القرآنيون بشكل خاص في منطقتين: قرية كفر صقر في محافظة الشرقية وهي مسقط رأس منصور، وفي ضواحي محافظة الجيزة، إلى جانب مناطق أخرى مختلفة كانت أعدادهم فيها أقل كالزمالك وإمبابة في العاصمة.
حقّق القرآنيون نجاحاً في الوصول إلى الناس البسطاء، خاصة في الأرياف، ما أثار الانتباه إلى امتدادهم في المجال العام. وبإيعاز من المؤسسة الدينية، شنّت الدولة حملة أمنية موسعة عليهم بدأت باعتقال "رأس القرآنيين" (منصور) من منزله في منطقة المطرية بالقاهرة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، إلى جانب 62 آخرين، في قضية "أهل القرآن" المعروفة كذلك بقضية "مُنكِري السُنّة".
ومع الانتشار الذي حققه القرآنيون بين عامة الناس، كان منصور يتلقى دعماً معنوياً من عدد من المفكرين والكُتاب المصريين، من أبرزهم سعد الدين إبراهيم، وهو أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية ومدير مركز "ابن خلدون" للدراسات، والذي عمل فيه منصور بعد فصله من الأزهر، والمفكر الإسلامي جمال البنا وهو شقيق مؤسس جماعة الإخوان حسن البنا.
أحد الداعمين الرئيسيين لمنصور كان أيضاً المفكر فرج فودة الذي خضع للتحقيق أمام النيابة بسبب مقاله "أحمدك يا رب" في جريدة "الأهالي" والذي هاجم فيه شيخ الأزهر مدافعاً عن منصور. لاحقاً، اغتيل فودة على يد الجماعة الإسلامية بسبب أفكاره العلمانية عام 1992، وكان قبل اغتياله بأسابيع يعمل مع منصور على تكوين "حزب المستقبل" لمواجهة الجماعات الإسلامية المتطرفة.
الملاحقات الأمنية للقرآنيين
تعرّض القرآنيون منذ ظهورهم في مصر في الثمانينيات إلى خمس موجات من الاعتقال، حصلت في أعوام 1987، و2007، و2008، و2015، و2017، أخطرها كانت الأولى، حيت اعتُقل منصور و62 آخرون، ثم قضية 2007 المرفوعة من الدولة والتي أفلت منها منصور بهجرته إلى أمريكا عام 2001، ثم توالات الاعتقالات التي شملت أقارب منصور من القرآنيين.
سوء المعاملة التي يلقاها القرآنيون في مصر تعود لسببين: دعوتهم إلى القرآن كمصدر وحيد للإسلام ما يُجرّد المؤسسة الدينية من قوتها، ومناداتهم بالحقائق القرآنية التي تدعو إلى الإصلاح الشامل والتوزيع العادل للسُلطة والثروة ما يُزعج أي نظام استبدادي
أحد المعتقلين مع منصور في قضية 1987 هو أحمد حسين (اسم مستعار). يقول حسين لرصيف22 إنه لم يكن يحب "السُنيّة" (يقصد الشيوخ والوعاظ)، وأثناء عمله هو ومعارفه صلى مرة صلاة الجمعة في مسجد وكان الخطيب الشيخ منصور (يقصد أحمد صبحي منصور)، ووقتها اقتنع بأفكاره واعتبرها التعبير الصحيح عن الإسلام.
عاد حسين إلى بيته عاقداً العزم على اتّباع منصور، فداوم على صلاة الجمعة في مسجد الرحمن في منطقة الزمالك وهو المسجد الذي كان يخطب فيه منصور، ثم مسجد شارع الوحدة في مدينة إمبابة، كما يروي مشيراً إلى أنه كان قد اعتزل الصلاة في مساجد قريته اجتناباً لمضايقات السُنية وتحريضهم للناس، فكان يصلي هو وأولاده في المنزل.
يقول حسين إنه عمل على نشر الفكر القرآني وسط الناس، وهو ما جذب الأنظار إليه وجعله على رأس المعتقلين من منطقته مع 8 آخرين في قضية 1987، وحينها تعرض للاستجواب مدة شهرين ثم أُفرج عنه. لم يُعذَّب، لكنه تلقى تهديداً من الأمن مفاده أن "خليك في حالك"، وهو ما يقول إنه فعله مع أولاده.
من جهته، يقول عثمان محمد علي إنه هرب من مصر عام 2005 خوفاً من الاغتيال على يد المتطرفين أو الاعتقال من قبل الدولة، ومحمد علي كان المتهم الثاني -بعد منصور- في قضية القرآنيين التي رفعتها الدولة عام 2007، في الموجة الثانية من الملاحقات الأمنية لهم.
يُرجع محمد علي سوء المعاملة التي يلقاها القرآنيون في مصر إلى سببين: الأول دعوتهم إلى القرآن وحده كمصدر وحيد للإسلام ما يُجرّد المؤسسة الدينية من قوتها أي متاجرتها بالتراث والخلط بينه وبين الدين، ففي النهاية العودة إلى القرآن تُفقد رجال الدين مكانتهم الاجتماعية بوصفهم حراس العقيدة. أما السبب الثاني فيرجع إلى مناداتهم بالحقائق القرآنية التي تدعو إلى الإصلاح الشامل وضرورة التوزيع العادل للسُلطة والثروة، وهي الحقائق التي يُعاديها أي نظام استبدادي مهما كانت طبيعة المُنادين بها.
القرآنيون في المخيال الشعبي
عدا عن ملاحقتهم أمنياً بشكل متكرر، لم يسلم القرآنيون من النبذ الاجتماعي الذي تمكن من عقول العامة تجاههم بسبب الحملة الإعلامية التي قادتها المؤسسة الدينية والصحف الحكومية كـ"جريدة الأخبار" والجرائد الحزبية الإسلامية كـ"اللواء الإسلامي".
عمل هؤلاء على نعت القرآنيين بالكفر بما هو "معلوم من الدين بالضرورة"، فأصدر الداعية الإسلامي البارز محمد متولي الشعراوي بياناً نشرته "جريدة اللواء" تحت عنوان: "القتل والصَلب وتقطيع الأطراف من خلاف" يطالب فيه بتوقيع حدّ الحرابة على القرآنيين، ومعاقبتهم على أقوالهم، وهو ما مهّد لاعتقالهم عام 1987.
يقول عبد الرؤوف عون، وهو قرآني يعمل مُهندساً ميكانيكياً بعد تخرجه من جامعة الأزهر، لرصيف22: "ظهرت في لقاء تلفزيوني مع الإعلامي وائل الأبراشي عام 2012 للتعبير عن أفكاري القرآنية، وبعد انتهاء الحلقة بساعة تلقيت اتصالاً هاتفياً يُبلغني بفصلي من العمل".
يُخبر عون أنه تنقّل في عدة مكاتب هندسية وكلما ظهرت أفكاره لزملائه في العمل كان يُفصَل فوراً، ويضيف "سافرت إلى السعودية وعملت في الإدارة الهندسية للحَرَمَين، وعندما علم مديري بأفكاري عن السُنّة طُردت من العمل، وأنا الآن بلا عمل منذ عامين بسبب موقفي من السُنّة".
"منهج القرآنيين قاصر عن إحداث إصلاح ديني حقيقي، وما نالوه من اضطهاد يرجع في جزء منه إلى لغتهم السوقية في تعاملهم مع شيوخ وأئمة الأزهر".
سعيد عبد المعطي هو الآخر قرآني مصري ومهندس اتصالات سابق في الجيش، تعرض للاستجواب فى أمن الدولة عام 2007 بسبب شكوى من شيخ أزهري، كما يقول لرصيف22، موضحاً أنه اضطر للصلاة في منزله بسبب المضايقات التي يتلقاها من الناس بسبب أفكاره عن السُنّة، حيث يعتبره البعض كافراً.
"ظرف سياسي"
عادل المسلماني هو مستشار سابق وكاتب إسلامي. يقول لرصيف22 إن القرآنيين لا يملكون منهجاً واضحاً أو أدوات معرفية تُمكّنهم من تدبّر القرآن وهو ما يفسر صراعهم على تفسير النص القرآني، معتبراً أنهم وقعوا في الفخ نفسه الذي عابوه على الجماعات المتطرفة حيث أنهم عابوا عليهم تكفيرهم للمسلمين، في حين أنهم ينعتون كل من يخالفهم بالشرك.
ويرى المسلماني أن منهج القرآنيين قاصر عن إحداث إصلاح ديني حقيقي، و"ما نالوه من اضطهاد يرجع في جزء منه إلى لغتهم السوقية في تعاملهم مع شيوخ وأئمة الأزهر، فيصفونهم بأمور لا تليق بالقيم القرآنية التي يدّعون اتباعها".
يُتابع المسلماني مفسّراً رأيه بأن الملاحقات الأمنية التي طالت القرآنيين ترجع إلى طبيعة الظرف السياسي الذي مرّت به الدولة في فترة الثمانينيات، حيث واجهت الأخيرة الجماعات الإسلامية المتطرفة التي تُكفّر الدولة وتسعى لإسقاطها ما تطلب وقتها وحدة في الصف، وهو ما لم يفعله القرآنيون فعمدوا إلى تهييج الجمهور ضد المؤسسة الدينية وإحداث تمرد ديني وسط عامة الشعب، ما أزعج الدولة فلاحقتهم أمنياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...