شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
حكاية الشابّ المسلم الذي يحرس كنیسة للأرمن في إيران

حكاية الشابّ المسلم الذي يحرس كنیسة للأرمن في إيران

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 27 يناير 202207:06 م

هذا الشتاء الثالث الذي يمّر، وداريوش بين المسطبة والمطرقة في تأمين مصاريف لباد الأسفلت لسقف الكنيسة، الذي ‏أوشك علی الوقوع، وذلك لأن مجلس الخلافة الأرمني في طهران المعني بأمور الكنائس الأرمنية، أوعز الأمر إلى وزارة التراث حيث البناية باتت ضمن ‏قائمة التراث الوطني، لكن وزارة التراث تجاهلت واجبها بحجة أنها خصصت ميزانية لترميمها قبل سنتين، ولم ‏تعد قادرة على ذلك الآن. كما لمّحت  الوزارة إلى إن المسيحيين الأرمن أثرياء ومتمكنون من تأمين ‏مصاريف صيانة السقف التي لا تتجاوز تكلفته ألف دولار.

وبسبب تخلي المعنيين  بالأمر عن مسؤوليتهم، لم تصل مطالبات ومتابعات داريوش، خادم كنيسة مريم العذراء ‏في مدينة مشهد الدينية (شمال شرقي إيران) إلى نتيجة حتى اليوم‎.‎

تاريخ أرمن شمال شرقي إيران وكنسية مشهد

وجود الأرمن في شمال شرقي إيران يعود إلى عهد نادر شاه أفشار، الذي كان ملكاً ‏في فترة (1736 إلى 1747) حيث أتى بهم من أصفهان. وبعد عقود قدمت عوائل مسيحية أخری إلى مدينة مشهد، ‏متوجهين من المناطق التابعة للحكم السوفياتي أو من الداخل الإيراني.

وفتحت كنيسة مريم العذارء بابها في عام 1941 أمام جالية الأرمن في مدينة مشهد، بعد موافقة الحكومة آنذاك بتدشين دار عبادة ‏ومدرسة خاصة بهم.

وأضفت هذه الكنيسة شرعية ‏على وجود الأرمن في مشهد، فشكلت جزءاً عظيماً من ذاكرتهم الجمعية، فهي ليست دار عبادة فحسب، بل أيقونة ‏وهلامة هوية لهم، وموقع للتسلية والتربية، تحتضن أفراحهم وأتراحهم، كما أنها معتصمهم في الشدة‎.‎

360‏‎ ‎أرمنياً تقلصوا إلى 4 أفراد

كل ما تبقى اليوم من أصل 360 أرمنياً في منتصف القرن الماضي في مدينة مشهد هي أسرة واحدة فقط،  حيث هاجر معظمهم إلی ‏العاصمة طهران، وإلى خارج البلاد. وربّما الأمر يعود إلى أن مدينة مشهد هي مدينة شيعية بامتياز، حيث تحتضن مرقد ثامن أئمة الشيعة، ‏الإمام علي الرضا، ويحج إليها الملايين سنوياً‎.‎

كل ما تبقى اليوم من أصل 360 أرمنياً في منتصف القرن الماضي في مدينة مشهد هي أسرة واحدة فقط

ولم ينتهي الأمر هنا، حيث بعد إغلاق المدرسة الأرمنية التي تقع في وسط المدينة بجوار الكنيسة ‏قبل مایقارب 25 سنة، تقلص عدد أرمن مشهد إلی أربعة أفراد من عائلة واحدة.

مفتاح الكنيسة الأرمنية بيد عائلة مسلمة

كان لـ آلفرد هاوان، رجل الأعمال الأرمني، شركة في مشهد، وفي هذه الشركة كان هناك عامل من سكان المدينة، يسمى ميرآقا أشرفي. ‏وبما أن ميرآقا كان أقرب العمال لصاحب الشركة، فطلب منه آلفرد الذهاب إلى الكنيسة، والقيام بأعمال صيانتها ‏كلما اقتضت الضرورة.

وبعد إغلاق المدرسة الأرمنية إثر تسارع وتيرة الهجرة عند نهاية القرن الماضي، ‏سلّم آلفرد مفتاح الكنيسة لعامله وصديقه، ميرآقا، وهاجر إلى أمريكا. ومنذ عام 1996 أصبح العامل یرعی الكنيسة ‏الأرمنية، مهتماً بشؤونها نيابة عن مديره آلفرد الذي هو وكيل الكنيسة أيضاَ.

لم ‏يتطلب العدد الضئيل للأرمن المتبقين في المدينة  من خادم الكنيسة أن يفتحها باستمرار، لكنه حرص على فتحها كل أيام الأحد. مرَّ الزمن، فتقدم ‏الرجل بالسن وعندما بلغ الـ66 عاماً، أصبح الأمر أكثر صعوبة في حراسة الأمانة. ثم حسمت الأمر الوعكة الصحية التي أصيب بها ميرآقا ‏عام 2011، لكنه بقي ينتظر عودة صديقه إلى إيران ضمن الزيارات السنوية‎.‎

بعد الوعكة الصحية اضطر آلفرد أن يختار بين إبقاء باب الكنيسة مفتوحاً وسط مدينة شيعية، على يد داريوش، إبن ميرآقا الشاب الذي يبلغ 18 عاماً، أو أن تُغلق الكنيسة. فكان الخيار أن يودع الكنيسة لداريوش. وهكذا حقق داريوش الإبن ‏البكر لميرآقا، أمنيات والده وآلفرد.

عن طقوس وآداب الكنيسة، أخذ داريوش التعاليم من مجلس الخلافة الأرمنية، ثم تلقى من القوی الأمنية تعليمات بشأن الحدود والخطوط التي يجب ألا يقترب منها، رغم أنه كان قد تعلم كل ‏ذلك علی ید والده عند اصطحابه للكنیسة في فترة مراهقته، ومن هناك أصلاً نشأت العلاقة بينه وبين بناية بعمر ‏والده اليوم.

"تعيش فيّ أكثر مما أعيش فيها" هكذا يصف داريوش تعلقه بهذه البناية البسيطة التي ‏يعلوها قبتان من الطابور البني، رافعتين الصليب الأبيض‎.‎

لا یسمح داریوش للمّارة بالدخول 

لا يتردد داريوش في الاعتناء بالكنيسة، فأوقات فراغه تنقضي فيها، ولا یسمح لشموعها أن تطفأ، فهذا هو أسلوب حياة عاشه منذ ‏طفولته. لحظاته هناك ممتلئة بالعشق، والتذوق، والتعارف، والإعجاب، وكأنه خُلق من أجلها.

"تعيش فيّ أكثر مما أعيش فيها" هكذا يصف داريوش تعلقه بهذه البناية البسيطة

لا لوحة في الشوارع ‏تدل على موقع الكنيسة، كما أنها لم تصبح متحفاً كي تفتح بابها أمام السكان والزوّار الراغبين بزيارتها، رغم تسجيلها في قائمة التراث الوطني. ‏

وبالكاد يكوّن لداريوش صداقة، كي لا یضطر لشرح تفاصيل الكنیسة أو أن يطلب منه صديقٌ الدخول إليها، فهو ‏في مدينة مقدسة للشيعة وعليه ألا يفعل شيئاً يعتبر تبشيراً للديانة المسيحية! فيعرف الشابُّ جيداً أنه إن أراد ‏ألا تهدم هذه الكنيسة أو تباع أو تغلق، فعليه أن يقبل بهذا الوضع.

وبالرغم من رغبته القلبية، لا یسمح داریوش للمّارة بالدخول ‏عند تشخيصهم الكنيسة عبر صليبها المنقوش علی بابها، حيث أنها واقعة في زاوية خلف محلات ‏البيع الملتفة حول الساحة وسط المدينة.

يصل عدد سكان مدينة مشهد إلى 3 ملايين ونصف المليون نسمة، ومعظمهم لا ‏يعرف موقع الكنيسة، ولا دورها كما كان معروفاً في القرن المنصرم، حيث كان الأرمن طبقة ‏مؤثرة في التجارة والإعمار والاقتصاد في المدينة.‏

حتى العائلة المسيحية الوحيدة الموجودة في المدينة لا ترتاد على دار عبادتها، فأعوام ممتالية ولم تشهد ‏كنيسة مريم العذراء مراسم صلاة ودعاء، لكن داريوش لا يفوّت يوماً لزيارة الكنيسة؛ ينظف كراسيها، ‏يمسح غبار إنجيلها الذي لا يفهم لغته، يسقي أشجارها، وبعد الانتهاء من الاعتناء بها، يحتسي فنجان قهوة ‏داخل فناء الكنيسة وعلى نغمات الناقوس، والموسيقى الروحية، والأناشيد الخاصة، والتي تشعره بالهدوء ‏وتهديه الطمأنينة وكأنه مسترخٍ في باحة منزل مطل على البحر وفيه ما تشتهي الأنفس؛ هكذا يفسر لنا داريوش علاقته بالكنيسة.

هنا، بعيداً عن ‏صخب المدينة وحياتها، يغوص داريوش في قلب بناية تحمل ألف قصة من حب وحرب، وتوبة وتقرّب ‏إلى الله، وكره ومودة، عاشها سكان المدينة الأرمن، فوثقتها جدران الكنيسة، وأحبها داريوش.‏

نهب الكنيسة مباح!‏

بيانو خشبي من فخامة الصناعة الروسية، ومصحف إنجيل يعود تاريخه إلى 500 عام، كانا ضمن المقتنيات القديمة ‏التي استضافتها الكنيسة من أقصى دول العالم، على يد أرمن اعتادوا على جلب هداياهم الثمينة ‏لكنيستهم، لكنها سُرقت!

ويبدو أن ‏نهب الكنيسة في ظل عدم اكتراث وزارة التراث والمجلس الخلافي الأرمني بات أمراً مباحاً. ويُقدر سعر السلع المنهوبة من الكنيسة بمليار تومان (ما يساوي 33 ألف دولار).

حتى العائلة المسيحية الوحيدة الموجودة في المدينة لا ترتاد على دار عبادتها، فأعوام ممتالية ولم تشهد ‏كنيسة مريم العذراء مراسم صلاة ودعاء، لكن داريوش لا يفوّت يوماً لزيارة الكنيسة

وليس باليد ‏حيلة، فتوجه داريوش إلى مجلس الخلافة الأرمنية ليبدأ مفاوضات لنقل مكتبة كنيسة مشهد إلى كنيسة ‏طهران. وتتضمن مكتبة كنيسة مشهد ألف كتاب باللغة الأرمنية، أقدمها يعود إلى القرن الثامن عشر. وغالبية هذه الكتب دينية، جلبها أرمن مشهد ‏من رحلاتهم حول العالم، ومعظمها طبع ‏باريس، ولندن، وروما، وموسكو ويريفان.

لم تفلح هذه المرة أيضاً محاولات داريوش، فلم يستلم المجلس ‏الکتب بحجة أن أضعافاً منها تتواجد في مخازن کنائس طهران. فلابد للرجل أن يكافح وحيداً لصيانة ‏الكنيسة التي هي بمثابة منزله. ولا يبقى له سوى خيار ملء نوافذ المكتبة المطلة على أشجار ساحة "ده دي"، ‏بالطابور، صيانةً للمكتبة التي تملك مخطوطات حجرية ثمينة.‏

تراث أرمني تحفظه الصَداقة من السلب والهدم ‏

‏لا يتعدى راتب داريوش من المجلس الخلافي الأرمني 13 دولار، أما خادم كنيسة العاصمة طهران يستلم نحو 500 دولار شهرياً، لأن ‏جالية الأرمن في طهران على تردد مستمر للكنيسة، فصندوقها يمتلئ بالتبرعات والنذورات، لكن في ‏مشهد لا زيارات ولا مساعدات؛ هكذا يُبرر مكتب المطران، الأمر.

راتب داريوش يعادل بضع ريالات إيرانية فقط والتي لا تساوي شيئاً، لكن داريوش قبِلَ بها ‏كي لا يُّفَوتَ أمر رعاية الكنيسة، فيعمل الرجلُ في مجال تأمين معدات بناء الشقق السكنية لتمشية أمور ‏حياته، دون أن ينتقص من أمر الكنيسة علی مدی النهار. وهذا نمط حياة تأقلم عليه وفق إرادته.

يعتقد داريوش، حسب قوله لنا، ب‏قانون واحد: "احترام دور العبادة دون النظر إلى ديانتها، فالاعتناء بالكنيسة ليس إيماناً بالمسيحية". وداريوش شيعي، لكنه وجد في الحفاظ على الأمانة، سمة من سماة الإنسانية مهما كلف الثمن.

الكنيسة ‏التي سلمها آلفرد هاوان لوالد داريوش، أمانة صديق أرمني أرغمته الظروف علی الرحيل من مشهد، مثلما ‏ألزمته النزول فيها قبل ذلك؛ أمانة سلمّها آلفرد لرفيقه المسلم ميرآقا، واستمر علی خطاه إبنه داريوش. فهذه حكاية تاريخ ‏وتراث تحفظهما صداقة مواطنَين إيرانيين في ظل استخفاف مستمر من متولي الكنيسة.‏ 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image