في استهلال لافت في رواية أمين معلوف الأخيرة "إخوتنا الغرباء" الصادرة عن دار الفارابي لعام 2021 من ترجمة نهلة بيضون "بأن الروايات تنشأ من نواقص التاريخ" نوفاليس، ما يشي بأن ما سنقرأ في نصه ما هو إلا الشيء الذي لم يحصل، وهو آت من ثغرات الزمن التي تصل إلينا الحكايا لترمم ذلك النقصان وتكمل ما ينبغي أن يكون.
نهاية العالم كما نعرفه
من الصفحات الأولى يصدمنا صاحب "صخرة طانيوس" بغرائبية ما يحصل للكون، فأن نستيقظ مثلاً ذات يوم ونصدم بأن وسائل الاتصال بالعالم معطلة كلها على الإطلاق، من هاتف وكهرباء وإذاعة وتلفزة وإنترنت، وكل ما تعودنا عليه من معدات وأجهزة تواصل، وتوقف كل شيء يعتمد على أدنى استخدام للتكنولوجيا، والعجب تزامن هذه الأعطال مع بعضها.
كل منجزات الحضارة تتوقف ونرجع إلى نقطة الصفر، باستثناء صفير جنائزي يطلق من الأجهزة المتوقفة ليكون التساؤل القلق: وماذا بعد؟! وخاصة للسارد المتوحد، بطل العمل، وجارته الروائية الغامضة، في جزيرة معزولة "اسمها "انطاكية".
ليتبادر إلى أذهاننا التفكير بنهاية العالم وعالم الماورائيات المجهول الذي لا نعرف سبباً لحدوثه، فلطالما كان عجز الإنسان عن تفسير علامات الوجود في السابق يقوده إلى القبول والتسليم بوجود قوى وراء الطبيعة، تفعل فعلها في الواقع والحياة، نعم هي صدمة نفسية تواجه القارئ الذي يحتار لهذا الطارئ المفاجئ الذي حدث، بعد أن اعتاد تسهيلات الحياة، وتآلف مع قدرته الفائقة على التواصل مع أي شخص مهما بعدت المسافات، ولعله تساؤل وجودي مهم أن يكون الإنسان وحيداً وأعزلاً من جديد أمام القوى الكونية ومجرداً من كل شيء، ماذا يفعل وكيف يعيش وكيف يبدأ من جديد؟ ليحفّز فينا الصراع لأجل الحياة، فمن "دون المبارزة مع الموت تصبح الحياة أقل تشويقاً"، وفق تعبير أحد شخوص النص.
في استهلال لافت في رواية أمين معلوف الأخيرة" إخوتنا الغرباء" الصادرة عن دار الفارابي لعام 2021 "بأن الروايات تنشأ من نواقص التاريخ"، ما يشي بأن ما سنقرأ في نصه ما هو إلا الشيء الذي لم يحصل، وهو آت من ثغرات الزمن التي تصل إلينا الحكايا لترمم ذلك النقصان وتكمل ما ينبغي أن يكون
مجموعة من الأسئلة المحيرة يقذفها بوجه القارئ بها منذ الصفحات الأولى، لنصدم ثانية بوجود أناس خارج المنظومة المعرفية لأقوى دولة بالعالم، أي الولايات المتحدة الأميركية، متحكمين بوسائل اتصالنا وهم وراء ما حدث، ليبدأ السؤال عن ماهيتهم ومن أين جاءوا، وكيف هم، ومن وراءهم، وهل هم أخيار أم أشرار؟ ليقدمهم فيما بعد كجماعة ذات معرفة علمية عالية تتفوق على أعلى المنظومات العلمية والمعرفية السائدة في عالمنا، وهي إلى ذلك تتمتع بحيادية في مراقبة العالم، ولا تتدخل إلا عندما تقوم إحدى جهاته بالإيعاز لدرء خطر يهدد العالم بأسره.
جماعات سرية
هذه الجماعة ترجع أصولها إلى حضارة الإغريق القديمة لسلالة استمرت بتطوير نفسها بسرية تامة وبالخفاء عن أي جهة، فهي مجموعة تسللت من ذلك العهد، وحافظت على كتمان أمر وجودها وسرية وصولها إلى أعلى درجة من التطور التكنولوجي فاق كل ما وصل إليه العالم المتحضر، وهي المسؤولة عن التوقف الحاصل في وسائل الاتصال وبالتالي الشلل الذي أصاب المجتمع والخلل في منظومة الاتصالات بكاملها، وهم إلى ذلك يقومون بواجبهم في التدخّل بالوقت المناسب عند وجود خطر داهم، وبعدها يعاودون الحياد.
ما يوحي بمبدأ العوالم المتوازية هو وجود أناس من عالم آخر، لهم قدرة بالتأثير على حياتنا، دون أن ندرك ماهيتهم وكيفية مواجهتهم، وبغض النظر عن عدم واقعية ذلك بوجود الأقمار الصناعية وعالم التجسس الخطير الذي يسيطر على العالم، وعلى الرغم من فانتازية الفكرة، ولكنها ليست بجديدة، فأفلام الخيال العلمي مثل "أفتار" وسواه، التي افترضت وجود عوالم فضائية أخرى، مازالت تغازل عقول الفنانين والمكتشفين حتى الآن، وعلى الرغم من أن هذا يبقى افتراض روائي مشروعاً، ولكننا نحاول تفكيك الأفكار التي حاول أن يدرجها في هذا القالب الحكائي الذي اعتمد على سارد وحيد، للتوغل في الشخصيات الأخرى ومناقشة الأفكار التي أراد إيصالها، قبل أن نعرج على المعمار الروائي الذي نسج به عمله.
فالمشهد الأولي الذي أثار جماعة إخوتنا غير المتوقعين "إخوتنا الغرباء" عنوان العمل، ما أسماهم أخيراً بجماعة امبيدو، هو أن الرئيس الأمريكي أعطى أمراً بتدمير صواريخ المشير سارداروف القوزاقي، تجنباً لعملية إبادة للمدن كان القوزاقي سيقوم بها، محاولاً أن يتقبل الخسارة الأقل مقابل درء الدمار العظيم، وهنا تدخّل القادمون من عالم الإغريق لدرء الشرين معاً: الخسارة الأقل من جهة والدمار العظيم الذي كان سيشنه الزعيم القوقازي من جهة أخرى، وذلك بسيطرتهم على التقنيات المستخدمة لدى كل الأطراف، نزع فتيل الأزمة وتعطيل وصول الأوامر التدميرية إلى مصادرها.
يحق لنا هنا أن نتساءل لماذا حصر الجهة المنقذة بجماعة الإغريق وحسب، لقد تشاركت حضارات كثيرة في رفد الإنسانية بمنجزات عظيمة ومن الغبن تجاهلها، إلا إذا اعتبرهم رمزاً لكل حضارة سبقت أزماننا، وأيضاً الحديث عن أزمة الانتشار النووي الجامح وفكرة نزع السلاح من أيدي البعض الذي تقوده أمريكا: "الأمريكيون يجمعون الأسلحة النووية من أيدي الشر"، فمن المعروف أن كل الدول تبحث عن مصالحها، غير عابئة بمصالح الشعوب وما ينتظر البشرية في الزمن القادم، فلماذا هذا الافتراض وأمريكا نفسها هي التي أطلقت القنابل النووية على هيروشيما وناغازاكي؟
أمين معلوف وهو يصيغ هواجسه الكامنة عن مستقبل البشرية، يتغاضى عن تقنيات الفن السردي، ومستجدات التقنيات الروائية الحديثة التي تحاكي دواخل الفرد الأعزل في منظومة الهيمنة الكبرى، ما يعكس الضياع الذي يتهدده ويتهدد مجتمعاتنا بالانهيار
بالتالي، تحمل وصمة العار الأولى حتى لو كانت سيدة العالم في القوة، فالأدب صوت الضمير الإنساني الذي يعلو على صوت القوة، وليس كافياً أن الأمر مجرد تخيل روائي، فلماذا الافتراض أنها ستقوم بتخليص العالم وجمع السلاح النووي من الآخرين، ما هو الهدف من هذا القول؟ وهل ينقصها من يلمع تاريخها والتاريخ القريب يشهد؟
فيمكننا على صعيد المثال طرح هدف آخر وهو التخلص من كل أسلحة التدمير الشامل لدى أي طرف كان، لأجل سلام البشرية، فكل قوي هناك من هو أقوى منه، وهذا ينسجم مع افتراضه بوجود قوة تفوقها علماً وتقنية، حتى أنها استطاعت شفاء الرئيس الأميركي من مرضه المستعصي على أطباء عصره، كما مسألة تغييب جغرافيا الأماكن، فجزيرة السارد اسمها أنطاكية، ليستدرك الكاتب ويوضح أنه سبق أن وجدت مدينة بذات الاسم وهي حسب قوله "أنطاكيه مدينة في تركيا على نهر العاصي"، ونحن السوريين الذين تربينا على روايات حنا مينه القادم من تلك المنطقة، وفيها تاريخه وتاريخ مواطنيه، وكلنا يعرف أنها مدينة سورية رغم كل شيء، وقد كانت عاصمة للبلاد السورية لعقود طويلة، كما أنها عاصمة الكرسي الرسولي لعدد كبير من الكنائس المشرقية في سورية، فيحق لنا أن نتساءل ونستغرب هذا الخلط غير المفهوم.
غرق الحضارة
أمين معلوف وهو يصيغ هواجسه الكامنة عن مستقبل البشرية، يتغاضى عن تقنيات الفن السردي، ومستجدات التقنيات الروائية الحديثة التي تحاكي دواخل الفرد الأعزل في منظومة الهيمنة الكبرى، ما يعكس الضياع الذي يتهدده ويتهدد مجتمعاتنا بالانهيار، كما انهارت حضارات من قبلنا، وكما انهارت أمم وممالك تشهد آثارها على وجودها ذات زمن، فهو اعتمد على غرابة الفكرة أكثر من الأسلوب والشكل الذي يقدم نصّه فيه.
ولا ينسى صاحب "الحروب الصليبية كما رآها العرب"، وهو الحائز على جائزة الغونكور لعام 1993، وصاحب الدراسات الفكرية المتعددة في كتبه "اختلال العالم" و"الهويات القاتلة"، توضيح همّ فكري بارز في كتابه الموازي للرواية موضوعنا، ألا وهو "غرق الحضارة"، لكون هذا الغرق هو الخطر الذي يتهدد البشرية، ويضع حلوله في أن تبلغ البشرية الرشد، ورغم ضبابية هذا الحل ولكنها دعوة للتفكير في مستجدات خطيرة نمشي إليها، ما يضعنا أمام بروفة تخيلية للخطر القادم، وأمل بوجود جهة ما رشيدة الفكر تنقذ العالم من ظلامه القادم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 14 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 20 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com