يناير... اتجمّعوا العشاق بسجن القلعة
أحاصر دائماً شبحاً يُحاصرني
في الحلم رأيته. تختلط عليه المفاهيم، ما هي أصول مناهج البحث؟ يُطرح السؤال فيجيب، لا وقت للخطوات الأكاديمية، الثورة ستطيح بالمنهج كله. يترك لجنة امتحانه الجامعي الأخير ويهرول إلى الميدان. شعره الطويل لم يحجب عنه الرؤية، قدماه التي ارتجفت من بيوت صامتة، يقبع أعلاها عيون جاهزة لتصويب الطلقات على من يشتم فيه رائحة الهتاف، سرعان ما ثبتت بين الجموع، وسرعان ما استبدل الجسد برودة يناير بحرارة الشوق للحرية، أتابعه يذوب بين الجموع، حاولت إيقافه. فشلت، هتف هتافه الأول، فخرج صوته قوياً، نظر إليّ لائماً ورحل وخفت أنا الاقتراب خطوة!
هذه آياتنا فاقرأ
رسالتي العاجلة لم تدعني انتظره، فاستدعيته تلك المرة، قابعاً في إحدى الزوايا وجدته، يستنشق الخل ليخفف به آثار القنابل المسيلة للدموع، طالبته بالمغادرة. الميدان مُحاط بجنود يرتدون ملابس رسمية وآخرين متنكرين، لن يكترثوا لقتله حتى لا يهتز كرسي الحاكم حتى ينام مستريحاً. إنه قابع في السلطة لثلاثين عاماً آخرين، ينظر إليّ كعادته لائماً، أقول لنفسي لماذا يشعرني أنني الوحيد القادر على خلع الديكتاتور، أمسك بيديه لنهرب فيُفلتها. يحكم "كوفيته" على وجهه ويربط يديه بقطعة قماش وينطلق في مواجهة مصفحات خلفها كتل بشرية سوداء، يُلقي حجراً عليهم. لا يصيب. لا يهم. حجر تلو آخر، تزايدت الأيدي وأمطرت السماء طيرها الأبابيل. وقفت أشاهده ودعوت الله أن يحميه، قبل أن أغادر مردداً: للميدان رب يحميه.
هل وقفنا يوم 25 يناير في الميدان، هتفنا ضد الديكتاتور، خلعناه من كرسيه، واجهنا جنوده المسلحة بصدور عارية، أكملنا المسيرة ونتفنا لحى الشيوخ التي استبدلت الطغيان بالطغيان؟... مجاز في رصيف22
سأواصل هذا الطريق إلى آخره وآخري
لم يغب كثيراً. أيام ووجدته يتسلل إليّ، يصحبني من يدي لأرى كيف انتزع الديكتاتور من كرسيه. هُزمت الجنود المدججة بالسلاح. انقشعت الغمامة. تنفس الناس الحرية. وجدتهم على أسطح الدبابات يهتفون بالحلم وملوّحين بعلامات النصر، يغنّون ويرقصون والباقي يترقب ما ستسفر عنه الأيام المقبلة، التفتّ إلى عينيه اللتين لمعتا لحظة الانتصار، يستريح طويلاً، فأقول: الله سلّم، فلنعد ويكفي سلامتك وسط ميدان ارتوت أرضه بالدماء، يكرر لومه ويكرّر إفلات يديه وأكرر سأمي، ماذا بعد؟ يبتسم. الآن فقط بدأت الثورة.
لست أعمى لأبصر ما تبصرون
انقطعت الأحلام لعامين، هدأت نفسي على الشاب الذي أقلقني إلى هذا الحد. أخيراً انتبه لعمله وبدت خطواته جيدة، لم تخفت ثوريته بعد، أشتمّها في كل حرف يكتبه حتى لو عن حبيبته. لكنه هدأ. أصبح مثلي وربما هذا يُسعدني، لكنه سرعان ما أثبتت عكس ذلك. زارني تلك المرة، فرأيته وسط نفس الميدان أمام نفس الجنود المدججة بالسلاح، يحكم كوفيته ويتسنشق الخل ويعاود رمي حجارته. أحاججه: يكفي ما حدث، الدماء التي نُزفت والشهداء الذين نسيوا. ينعتني بالجبان ويكمل رحلته، من داخلي شعرت بصدق وصفه، وتعجبت كيف يمكن لأحد أن يواجه الرصاص عارياً طيلة حياته.
لا شىء يُعجبني
لم يصحبني بعد ذلك لأرى لحظة انتصار، وسط جريدته يجلس صامتاً. يطالبه مديره بتجهيز ملف صحفي عن ثورة 25 يناير، لماذا اختاروه بالتحديد؟ أظنّ أن للأمر علاقة بثوريته القديمة. ابتسم قليلاً، وما إن بدأ يفكر حتى جاءه مديره ليؤكد عليه أن كل ما سُيكتب لا بد أن يكون في "المنطقة الآمنة". لم يعرف ماذا يقصد. تلك ثورة مُعترف بشرعيتها دستورياً، فأي أمان بعد ذلك؟ بعد حيرة وسؤال العالمين ببواطن الأمور، أدرك أن المطلوب الحديث عن ثورة دون ثوار، وانتصار دون الإشارة للخاسر، ومقتولين دون أي حديث عن القتلة، فلماذا قامت الثورة إذن؟ هذا أيضاً ممنوع الكتابة عنه، كأن هناك ملايين احتشدت دون داع، وتلقت الرصاصة لأنها ملّت من الجلوس في البيت!
وما إن بدأ يفكر بالثورة حتى جاءه مديره ليؤكد عليه أن كل ما سُيكتب لا بد أن يكون في "المنطقة الآمنة"... مجاز في رصيف22
نظر إلي تلك المرة عاجزاً. كرهت لحظة انكساره أكثر من اللحظة التي وصفني فيها بالجبن، أمسكت يديه فلم يفلتها. دع القلم وأعرض عن الظالمين: قلتها له مُدركا أن ذلك أضعف الإيمان، إن كان الجميع يريد مهادنة الطغاة فلا تكون سبيلهم. استجاب صامتاً يتابع بعينه كيف احتل من ثار ضدهم مانشيتات الصحف و"توب ستوري" المواقع الإخبارية، وكيف انزوى تاريخ ثورته في مكان قصيّ لا تلمحه العين بسهولة.
هل أنا أنت أخرى؟
تمر سنوات أكثر. في الجريدة يحين ذكرى ثورته، ينتظر أن يُطلب منه إعداد ملف عن الثورة شرط "المنطقة الآمنة"، ليرفض ويثبت لنفسه إنه مازال وفياً للميدان، لكن لا أحد يطالبه بشىء، هو أو غيره. الصمت تام وللجميع. يأتيني حائراً ويجلس أمامي، من أنت؟ سألته فكرر نظرته اللائمة. صحت فيه: لماذا تقتلني بعينيك دوماً؟ قال ضجراً: أنا من كنت يوماً أنت وأنت أنا الآن.
تركني ورحل بعد أن أكد أنه لن يزعجني ثانية، كيف لم أتأمل وجهه من قبل، نفس الطول والجسد والشعر الطويل والتعب بعد أول خمس دقائق من الركض، هوّنت على نفسي بمقولة أحمد خالد توفيق: "الزمن يُغيّر تضاريس الجبال فلماذا لا يغيرّك؟". لكن إن كنت شخصاً يمكن تغييره فماذا حدث للثورة؟
ما قاله أنا الآخر واقع، ما زالت الكوفية لدي كدليل أخير، لكنه عكس القاعدة. تحول الواقع في إحدى عشر سنة إلى مجاز، هل وقفنا يوم 25 يناير في الميدان، هتفنا ضد الديكتاتور، خلعناه من كرسيه، واجهنا جنوده المسلحة بصدور عارية، أكملنا المسيرة ونتفنا لحى الشيوخ التي استبدلت الطغيان بالطغيان؟ هل كنت جزءاً من ذلك أم أنها أحلامي بتنفس الحرية دفعتني لتخيل كل ذلك؟ وإذا كانت حقيقة فكيف أصبحت هكذا، صامتاً أواجه واقع كئيب بسخرية باهتة؟ لست وحدي، ملايين تزورهم نسخهم القديمة في المنام، تُذكرهم بما كانوا وكيف أصبحوا.
نعيش في مجاز الثورة لأننا على يقين بأننا لن نقدر على مواجهة أحد الآن، كيف ولماذا؟ لا أعرف، حين نرى صورنا القديمة نقول كيف فعلناها ولماذا سكننا الخوف؟ أهو النضج... التجربة... الاكتفاء بالدماء... الكُفر بالبلاد؟
لكنني أعود وأقول: على الأقل حملناها في صدورنا، رفضنا القول بأنها هوجة، لن نكرر مأساة محمود عبد الظاهر في رواية "واحة الغروب"، اضطر لوصف ثورة عرابي بـ"الهوجة" وقضى حياته مشتتاً، على الأقل نحن نراها مجازاً.
أما أنا، وقد غادرني أنا الآخر، كل ما أريده هو حلم جديد للمستقبل، استنشق فيه الحرية وأُسقط فيه الطغاة، حلم أخير حتى لا تصبح الثورة مجازاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين