شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
من سجن للمعارضين إلى فسحة الغلابة والمحبين... حديقة كاتمة الأسرار بالإسكندرية

من سجن للمعارضين إلى فسحة الغلابة والمحبين... حديقة كاتمة الأسرار بالإسكندرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الجمعة 21 يناير 202205:28 م

إذا سألتم أغلب سكان مصر عن المدينة التي يتمنون الإقامة فيها فستكون الإجابة رقم 1 الإسكندرية، ففيها السحر والدهشة والمتعة، فيها الماضى والحاضر، وكل ما يمكن أن يمنحنا القدرة على مواصلة الحياة.

جذبت الإسكندرية (عروس البحر الأبيض المتوسط) المبدعين من شتى المجالات على مرّ العصور، ليتغنى كلٌّ منهم بها على طريقته الخاصة، فظهرت في أغلب الأعمال الفنية بوصفها المدينة الملهمة، فيما امتدحها الشعراء والكتاب فقال عنها أمير الشعراء أحمد شوقى "إسكندرية يا عروس الماء وخميلة الحكماء والشعراءِ/نشأت بشاطئك الفنونُ جميلةً، وترعرعت بسمائك الزهراءِ"، بينما قال عنها أديب نوبل نجيب محفوظ "نبع الحرية والسحر في الصبحية... والغموض في العشية".

في زيارتنا للإسكندرية نجد التاريخ مفتوحاً أمامنا كسطور يمكن قراءتها وهضمها في اللحظة؛ في كل مكان أثر، وفي كل شارع حكاية، وبين كل شاطئ وآخر عنوان يخبرنا بما جرى في عصور وعهود سابقة، لتبقى القلاع والمتاحف والمباني والحدائق قصصاً عامرة تصلح للحكي في كل صباح.

هنا بمنطقة الحي اللاتينى وسط الإسكندرية، تقع حديقة الشلالات، أو "كاتمة الأسرار" كما يعرفها أهل الإسكندرية، والتي تم تدشينها في البداية لغرض يختلف تماماً عن وظيفتها اليوم.

يحكي لنا الخبير الأثري مصطفى مجدي: "المكان كان في بداية تدشينه عبارة عن صهاريج تُخزن فيها المياه، بينما كان سور الإسكندرية القديم يمرّ من داخلها، وظل المكان على هذه الحال لفترة من الوقت، ولعب دوراً مهماً في الدفاع عن أهالي الإسكندرية ضد الغزاة في أكثر من عصر".

ويكمل: "في عهد محمد علي باشا، تغيرت وظيفة المكان، حيث اختار أن يجعل منه سجناً لكل معارضيه، وكانت كل السجون موجودة تحت الأرض، فيما فرض حراسة مشددة على المكان وكل الأماكن المحيطة به، لدرجة أنه كان ممنوع الاقتراب من هذا المكان لمسافة كبيرة. وبعد انتهاء الحروب القديمة، وبعد أن تغيرت الأحوال تم تحويل المكان إلى حديقة مجانية مفتوحة للجميع، حتى يكون السكندريون وكل زوّارالمحافظة قادرين على الاستمتاع بما تحويه".

"في عهد محمد علي باشا، تغيرت وظيفة المكان، حيث اختار أن يجعل منه سجناً لكل معارضيه، وكانت كل السجون موجودة تحت الأرض، فيما فرض حراسة مشددة على المكان وكل الأماكن المحيطة به"

"حين تم تجديد الحديقة وضع لها الخبير الأمريكى فريدي أولمسد، تصوراً يجعل منها واحة طبيعية وكأن البشر لم يمروا منها أو يتدخلوا فيها، وبناءً على هذا التصميم نجد أن المكان يضم هضاباً وبحيرات وقنوات مياة عذبة، إلى جانب مجموعة من النباتات والأشجار النادرة التي تم جلبها من خارج مصر، كما تضم الحديقة أيضاً شلالات صغيرة، وصهريجاً يقع تحت الأرض، تبلغ مساحته نحو 250 متراً، ويرتفع لنحو 3 طوابق تحت الأرض، ويقوم على مجموعة نادرة من الأعمدة والتيجان المتنوعة، والتي بقيت على حالتها حتى اليوم".

أحمد عبدالهادي (23 سنة) خريج قسم الآثار، بجامعة الإسكندرية، وقع في حب المكان، تماماً كما عشق كل ما هو أثري، ولذا اختار أن يكون ارتباطه بالمكان مختلفاً نوعاً ما عن سائر الزوّار.

يقول لنا عبدالهادي: "تزور الحديقة كثيرٌ من البعثات الأوروبية، التي تعمل على تطوير المكان، بالتعاون مع المحافظة حتى تبقى قادرة على الوقوف في وجه تحديات الزمن، وحتى لا تتحول إلى أثر مهمل. أنا شخصيا دشنت مع أصدقائي صحفة خاصة على السوشيال ميديا للدعاية للمكان، لأني لاحظت أنه ورغم كل الإمكانيات الموجودة فيه إلا أنه خالٍ في أغلب الأوقات إلا من الأجانب الذين يحضرون لالتقاط الصور وسط هذا المكان الساحر، وكذلك العشاق والمحبين الذين يجدون في المكان راحة وهدوء وفسحة بدون مقابل مادي، بدلاً من أن يذهبوا إلى حدائق المنتزه، ويدفعوا 25 جنيه لكل فرد. كما سأحاول في الفترة المقبلة تدشين حملات بالمدارس والجامعات للتعريف بأهمية المكان وغيره من الأماكن الأثرية المهمة التي يهملها سكان الإسكندرية".

ولغرض ثالث يأتي رشاد الصواف، (45 عاماً)، بقّال، حيث يقول لنا: "بنيجي هنا أنا ومراتى والأولاد، تقريباً يوم الجمعة من كل أسبوع، ومعانا الأكل والشرب لنستمتع بالطبيعة والهدوء اللي يعد أهم سمة في المكان. والحديقة ببلاش وبعتبرها زي ما بيقولوا (فسحة الغلابة)، ولما بكون فاضي بجيب الأولاد من الصبح ونيجي نستمتع بالشمس والهواء، والأولاد بيبقوا مبسوطين جداً وهما بيشوفوا المناظر الطبيعية، وبيلعبوا ويجروا ويبقوا آخر سعادة".

بينما جاء حاتم وخطيبته مي إلى المكان لأنهما كما قال: "نتفائل دائماً بهذا المكان، لأن أول لقاء لنا كان هنا، ولذلك اخترنا زيارته من فترة لأخرى".

بمنطقة الحي اللاتينى وسط الإسكندرية، تقع حديقة الشلالات، أو "كاتمة الأسرار" كما يعرفها أهل الإسكندرية، والتي تم تدشينها في البداية لغرض يختلف تماماً عن وظيفتها اليوم

وعن سبب زيارته للحديقة روى لنا المخرج الشاب تامر عز: "جئت إلى هنا لأني أصور فيلماً تسجيلىاً قصيراً يدور حول قصة حب وليدة بين شاب وفتاة يقتلها الزمن بحداثته ورأسماليته، فتنتهي قصة الحب سريعاً بسبب عدم قدرة الشاب على الارتباط بالفتاة التي أحبها خلال مرحلة الجامعة، لأن هناك من تقدَّم لها وكان جاهزاً بكل شيء، وهذه مشكلة تقابل أغلب الشباب في الجامعة. وقد اخترت التصوير في الحديقة لأن المناظر فيها ساحرة جداً؛ تكفي الأشجار النادرة التي لا مثيل لها في مصر كلها، وطبعاً (اللوكيشن) هنا لن يحتاج إلى تدخل كبير من مهندس ديكور لأن ميزانية الفيلم منخضفة للغاية".

في 3 نيسان/أبريل من 2016، تناقل أبناء الإسكندرية أخباراً عن اختفاء تمثال "كاتمة الأسرار"، الموجود بالحديقة، لتبدأ الضجة الكبرى، ويبدأ المسؤولون في البحث عن سبب الاختفاء، حتى تبين أن التمثال قد تعرض لكثير من الشروخ ما تسبب في تصدعه وانهياره، وأوصى المسؤولون فوراً بعمل نسخة مطابقة من التمثال.

لا يعرف عماد الذي يأتى إلى هنا من وقت إلى آخر لعرض بضاعته على الزوار، وخصوصاً المحبين، من الذي اختار للحديقة اسم "كاتمة الأسرار"، مشيراً إلى أنه ربما اعتقاد البعض بأن المكان كان الملاذ الأول للحبيبة، ويكتم أسرارهم التي يأتون هنا للكشف عنها.

يواصل لنا عماد: "أبيع الحلي والإكسسورات للحبيبة، وأكتب بحبات الأرز والمعكرونة أسماءَ المحبين، وأبيعها لهم بأسعار زهيدة، وطبعاً لأن زوار المكان من صغار السن، والبسطاء فهم يفرحون جداً بهذه الهدايا البسيطة".

نلتقي هنا أيضاً أحمد رمضان، الرسام الذي يعمل في الصباح حتى يكون قادراً على استكمال مصاريف دراسته الجامعية، والذي يقول: "أعيش في الإسكندرية بمفردي وقررت أن أستغل هوايتى في الرسم لأكسب قوت يومي، فأصبحت أحضر إلى هنا لأرسم بورتريهات للمحبين والعشاق الذي يأتون إلى زيارة الحديقة".

بينما يحضر محمود عزت (17 عاماً)، مع أصحابه للمذاكرة لأن المكان، كما يقول، هادئ جداً، والشمس موجوده طوال النهار. أما إبراهيم الفضالي (29 عاماً)، فتعود أن يأتي إلى الحديقة لشيء مختلف، حيث اعتاد مع صديقه أن يحضر إلى هنا لممارسة بعض الرياضات للمحافظة على رشاقتهما بدلاً من الذهاب إلى النادي الرياضي.

يحكي لنا: "بندفع في (الجيم) فلوس على الفاضي، وكل شهر نقول خلاص هنروح وننتظم، بس في النهاية مش بنروح زي عادة أغلب المصريين يعني، فبقيت أنزل فيديوهات من على النت، ونيجى هنا نمارس الرياضة براحتنا بدون أن يضايقنا أحد وبدون أن نضطر لدفع أي أموال".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image