يسارعن الخطى أمام مقام أبي زمعة البلوي، في محافظة القيروان، بحثاً عن زبائن يرغبون في معرفة حظهم والاستماع إلى كلمات تسعدهم، أو تريح بالهم. قد يشككون في صحتها، لكن مع ذلك يرغبون في سماعها. ينتقين ألفاظاً حفظنها، وما عادت مفهومةً بسهولة للمارّين والمارّات، من شدّة تكرارها بلهجة محلية قيراونية: "هيا يا مزيانة هيا يا سمحة... إيجا نشوفلك البخت... هاي البشارة".
سبحة ربح
قد تغلب على ملامحهن علامات الدهاء والاحتيال، لكنهن في النهاية يظفرن بمن يصدّق كلامهن... "طرائدهنّ" من اللذين فقدوا الأمل، وزارهم القلق حول المستقبل، وكثيراً ما تكون النساء أكثر الزبائن. هكذا تقول ربح، وهي قارئة كفّ (عرافة)، أو "تقّازة" باللهجة التونسية، تعمل في هذه المهنة منذ 18 عاماً.
عادةً تختار العرّافات مقام أبي زمعة البلوي، لخصوصيته الاجتماعية والثقافية، إذ يعتقد أهالي القيروان، والمناطق المجاورة للمحافظة، ومناطق عدة في تونس، ببركة هذا المكان، ويأتون لزيارته من مختلف الأماكن طلباً للشفاء وللدعاء.
"هيا يا مزيانة هيا يا سمحة... إيجا نشوفلك البخت... هاي البشارة". اللجوء إلى العرافات في تونس تزجية عن النفس وبحث عن خبر مفرح
وقد أقيم ضريح سيدي الصحبي، أو زاوية سيدي الصحبي، أو مقام أبي زمعة البلوي، تخليداً لذكرى الصّحابي أبي زمعة البلوي، ويسمّيه أهل القيروان السيّد، ويرجع تاريخ بناء المقام إلى عهد حمودة باشا المرادي في القرن السابع عشر ميلادي.
بيدين مجعّدتين شاهدتين على تجربة سنوات أمضتها في هذا العمل. تُخرج ربح السبّحة من حقيبتها، ثم تمرّرها بين يديها، وبعد ذلك تعطيها للشخص صاحب الحاجة، "لينوي الأمر" الذي يريد معرفته، ثم تمسك بها من جديد، وتقوم بتمرير حبّاتها، والتمتمة ببعض الأدعية. تسأله عن اسمه واسم أمه، وبكلمات موزونة قريبة من الشعر تشخّص وضعه: "لديك سحر، أو انت محسود، وهناك من ينظر إليك في رزقك، وسائر أمور حياتك، وعنادك أضرّ بعملك". وتقدّم له الخطوات التي سيتّبعها ليزول السحر أو العين عنه، والمدة الزمنية التي يراجعها فيها، تماماً كما يراجع الطبيب. تقول ربح إنها ورثت هذه المهنة عن أمها، وتضيف أنها انقطعت عن التعليم منذ الثانية ابتدائي، بسبب بُعْدِ المدرسة عن البيت، وأنها تعلمت من الحياة ومن عملها أشياء كثيرةً. وتؤكّد أن ما تخبر به زبائنها ليس كذباً، أو ادّعاءً، بل حدساً وموهبةً حباها بها الخالق، وورثتها عن والدتها. وتضيف: "نشوف بالسبحة، أو بالكّف، أو من خلال النظر في جبين الشخص". دخلها من هذا العمل ليس قارّاً، أحياناً يكون جيداً، وأحياناً أخرى لا يكفيها؛ هذا يتوقف على العرض والطلب ومدى إقبال الناس"، تضيف المرأة.
معتقد شعبي سائد
ويبقى الاعتراف بالاعتقاد في ما تقوله العرّافات، أو الذهاب إليهن، أمراً صعباً، خاصةً في أوساط المتعلمين، وهنا تروي ابتسام لرصيف22، أن تجربتها مع قارئات الكف لم تكن موفقةً إذ أقدمت على هذه الخطوة عندما كانت تمرّ بمشكلات نفسية، وقلق متواصل، بسبب تأخّر زواجها حسب قولها. دخلت العرّافة المتجوّلة يومها المحلّ الذي تعمل فيه، وعرضت عليها أن تكشف لها طالعها. وبعد إلحاح من العرّافة، وكلمات اختارتها بعناية للتأثير عليها، ورغبة خفية منها، وافقت. أخبرتها أشياء مبعثرةً وعامّةً تتقاطع مع مختلف الفتيات، مضيفةً أن كل ما يهمها هو أن تحصل على المال، وأغلب ما قالته لها لم يكن صحيحاً، بل كان احتيالاً، وهنا تبدو غير مرتاحة وهي تسترجع المشهد، ولم تخفِ ندمها، على حد قولها، بسبب تصديقها مثل هذه الأمور.
"لديك سحر، أو انت محسود، وهناك من ينظر إليك في رزقك، وسائر أمور حياتك، وعنادك أضرّ بعملك"، تكرّر العرافات نفس الكلام لدفع الناس إلى الإيمان بما يقرأنه في أكفّهم
تُعدّ معرفة المستقبل احتياجاً نفسياً حسب ما تؤكّده لنا الأخصائية النفسانية سنية الجبالي، مشدّدةً على أنّ الذهاب إلى العرّافات رغبة ملّحة في دواخلنا، لمعرفة المجهول والخوف من الغدّ، وتوضح: "قد نميل إلى معرفة المجهول، ليكون لنا سَبْقٌ في التخطيط، ولأن مصيرنا مجهول، فهذا يدفعنا للبحث عن المعلومة لنطمئن ونشعر بالأمان، وهو احتياج أساسي لدينا، لذا نلجأ إلى الأشياء والأفكار التي تطمئننا حول مستقبلنا الذي لا نريده غامضاً، لذلك نرغب في معرفة الجميل والمبهج فيه، ونحب تصديق ذلك. وإذا عرفنا الأمور السيئة، نسعى إلى تفاديها". وقد يتطوّر ذلك لدى البعض إلى القيام بأعمال سحر، والدخول في متاهات الشعوذة، لتغيير القدر، وإبعاد الأذى الذي يخشونه.
وما قد يميّز سهى عن غيرها ممّن خضن تجربة الاعتقاد بالعرّافات، هو تحليلها للبعد النفسي والإطار الاجتماعي الذي دفعها للذهاب إلى العرّافة. تقول لرصيف22: "نحن كبشر نتعلق بالأوهام عندما يكون واقعنا قاسياً. قد نهرب إلى المستقبل، ونبحث عمّا يواسينا ويعوّضنا عن قسوة الحاضر الذي نعيش فيه". هذا ما دفعها يوماً لطرق باب العرّافات الذي قد يصادف أن تثبت صحة تنبؤاتهن في بعض الأمور. تروي سهى أنها مرّت بصدمة عاطفية قاسية، إذ خانها خطيبها، وانهارت علاقتهما، ما جعلها محطمةً ويائسة. رفضها لما حصل جعلها تطرق باب إحدى العرّافات، بحثاً عن المواساة، ولمعرفة ما كان يخفيه الخطيب الخائن، وظنّاً منها أنها تنتقم بهذا. تقول: "هكذا اعتقدت حينها. أخبرتني أنه سيعود متأسفاً نادماً، وأمرتني أن أضع نوعاً من البخور وقت الشروق والغروب، مدّة سبعة أيام، وأن أطعمه بيضةً قرأت هي عليها طلاسم وأدعيةً. طبقتُ ما قالته لي، وعاد، لكننا لم نتفق، وافترقنا".
حاجة نفسية
يتعارض الاعتقاد بكلام العرّافات، مع العلم والثقافة، فنجد أن هذه الأمور يعتقد بها غالباً من لم يذهبوا إلى المدارس، ولم يتعلموا. هذه هي الفكرة السائدة، واذا حدث أن ذهب شخص متعلم إلى "الشوَّافين"، فلن يكون من السهل عليه الاعتراف بذلك. تقول أماني إنها كامرأة متعلمة ومثقفة، لا تصدّق هذه الأمور، وإنما جرّبتها من باب التسلية، وشاركت ذلك مع صديقتها التي اصطحبتها إلى بيت قارئة فنجان. تضيف أنها أرادت معرفة المستقبل، وكسر الروتين لا غير، ولا تتذكّر بالضبط ما قالته لها يومها. كانت ثرثارةً، أو ربّما لا تريد التذكر، واختارت أن تسقطها من ذاكرتها.
إنّ الرغبة في معرفة المستقبل حاجة عامة لدى جميع الفئات الاجتماعية على اختلاف مستوياتها التعليمية والاقتصاديّة، حسب تفسير الأخصائية النفسانية سنية الجبالي. وتشير الجبالي إلى أن الأشخاص الذين ينكرون هذا الأمر، إنما يسعون إلى إخفاء ضعفهم، والحفاظ على خصوصيتهم، بالإضافة إلى خوفهم من نظرة الناس السلبية إليهم، لغياب التصالح داخل المجتمع مع مهنة المبصّر (المنجّم): "اجتماعياً، النظرة إلى التبصير سلبية، مع أنه لدينا فطرياً هذه الرغبة في معرفة المجهول. منذ صغرنا ونحن نلعب، نقوم بقراءة أكفِّ بعضنا البعض. تضاعف الفترة الاجتماعية الصعبة التي نعيشها اليوم من رغبتنا في معرفة المستقبل والإقبال على المنجّمين".
في حين تشير الباحثة في علم الاجتماع، منال القادري، إلى أن المتمعّن في هذه الظواهر يلاحظ مباشرةً أنّها عبارة عن ممارسات لا ترتبط بالطبقات غير المتعلمة، أو الطبقات الشعبية فحسب، بل تتعدى ذلك لتطال الطبقات المثقفة التي نراها تعيش مع نفسها حياتين مختلفتين؛ حياة ثقافية يظهر فيها المثقفون أمام الناس، وحياة خاصة يحيّونها بينهم وبين أنفسهم، بعيداً عن أعين الآخرين. في الأولى يظهرون بأنهم علميّون يرفضون كل ما هو غيبي وخرافي، بينما يعيشون في الثانية مع هذه الظواهر وهذه الطقوس الحياتية، ويصدّقونها، ويتفاعلون معها.
وبالنسبة إلى القادري، فإنّ هذه الظواهر المجتمعية تُعدّ من الموضوعات المهمّة والحاضرة في المجتمع التونسي والعربي، وحتى الغربي، وتتطلب الدراسة والتعمّق في حيثياتها وثناياها، بمعنى آخر، لا بد من الاهتمام بها بشكل يتعدى استطلاعات الرأي، ليصل إلى دراسات علميّة عميقة، تكشف فعلياً واقع هذه الظاهرة وحجمها في كل مجتمع أو في كل بيئة مجتمعيّة ولدى الفئات المجتمعيّة باختلاف أصنافها.
هذا لأن هذه الظواهر ظلت راسخةً كإحدى سمات عيشنا اليوميّ، وكنهج للتفكير والممارسة، وحتى كرسم للمستقبل وطلب للأمنيات وتحقيق الطموح، ولو أننا نعيش في عصر التكنولوجيا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...