اليوم 17 كانون الثاني/ يناير. في مثل هذا اليوم تحديداً، قبل 89 عاماً، وُلدت طفلة أطلق عليها والداها المهاجران الإيطاليان اسم يولاندا. في تلك الليلة الخالية فضاءاتها من قمر ونجوم، اختبؤوا احتماءً من برد شتاء 1933. لم يوقظ بكاء من ستصبح لاحقاً نجمة النجمات، حي شبرا التاريخي العريق في القاهرة، الذي شهد نشأة عدد كبير من الفنانين المصريين، مثل النجمات سعاد حسني، ونبيلة عبيد، وبوسي، والملحن بليغ حمدي، والمطرب والممثل محرم فؤاد، والمخرج خيري بشارة.
تسع لغات وألفا أغنية
إنها "جيجي لاموروزو"، و"بيسامي موتشو"، وMourir Sur Scène، وParoles Paroles، وLaissez Moi Danser، و"سالمة يا سلامة"، و"حلوة يا بلدي". إنها الديفا، وإحدى أهم مغنيات الاستعراض في العالم. إنها أجمل النساء بقامتها الممشوقة كسيف، وشعرها الغجري المسبوك بوهج الذهب تحت أشعة الشمس، وصوتها الاستثنائي الذي أبهر الجنرال ديغول، فمنحها لقب "ميدالية رئاسة الجمهورية".
إنها من وضعت حدّاً لحياتها الخاوية من الحب عام 1987، على الرغم من ملايين المعجبين، ولكنها لم تستطع أن تضع حداً لأسطورتها، ولا أن تطفئ وهج نجوميتها الخالدة.
إنها صاحبة القدرة الاستثنائية على الغناء بتسع لغات، أغنياتٍ فاق عددها الألفي أغنية، وأسطوانات تخطّى مبيعها الـ170 مليون أسطوانة حول العالم، منها 70 أسطوانةً ذهبيةً. إنها صاحبة القدرة على تجسيد أهم المشاعر وأصدقها، من خلال 122 فيلماً سينمائياً، من ضمنها فيلم "سيجارة وكاس"، مع سامية جمال في بداياتها، و"اليوم السادس" من إخراج يوسف شاهين، قبل عام من وفاتها. إنها تلك التي تمنّت يوماً أن تموت على خشبة المسرح أمام "البروجكتورات"، وهي تغنّي حتى الرمق الأخير، ولكنها انتحرت وحيدةً في غرفة غارقة في الظلام، تاركةً خلفها رسالةً تقول: "سامحوني، الحياة لم تعد تحتمل".
إنها من وضعت حدّاً لحياتها الخاوية من الحب عام 1987، على الرغم من ملايين المعجبين، ولكنها لم تستطع أن تضع حداً لأسطورتها، ولا أن تطفئ وهج نجوميتها الخالدة، فكرّمتها الحكومة الفرنسية بعد رحيلها، بوضعها صورتها على طابع بريدي، وأقيم لها تمثال بحجمها الطبيعي على قبرها في مقبرة مونمارتر في باريس سنة 2001. حتى السينما التي عشقتها، كرّمتها بدورها من خلال شريط من نوع السيرة الذاتية، حمل اسمها عنواناً: Dalida.
لماذا قررت الرحيل؟
Dalida، فيلم صدر عام 2016، وشعرت برغبة في أن أهديه لنفسي في ذكرى مولدها التاسع والثمانين. من خلاله احتفلت معها بمسيرة استثنائية، واسترجعتها بفرح وحزن. هذا الفيلم، حَلُم شقيقها ومدير أعمالها أورلاندو، بتقديمه قبل فترة طويلة، ولكنه يئس من إيجاد الشخص المناسب ليساعده في كتابة سيناريو يفي داليدا حقها، إلى أن عرّفه المنتج جوليان مادون، على المخرجة الفرنسية ليزا أزويلوس، ابنة المطربة ماري لافوري التي تعرف جيداَ عالم الاستعراض.
يومها قال أورلاندو: "وحدها المرأة تستطيع أن تفهم بشكل حميم وعميق ما عاشته أختي". وفعلاً، استطاعت ليزا أن تحترم إلى حد ما الوقائع التاريخية، وقدّمت تشخصياً نفسياً لشخصية داليدا، من خلال هذا الفيلم التكريمي بامتياز، الذي قدّم الديفا بصورة مثالية تقريباً، شابّةً دائماً، من دون عيوب تُذكر.
في مثل هذا اليوم تحديداً، قبل 89 عاماً، وُلدت طفلة أطلق عليها والداها المهاجران الإيطاليان اسم يولاندا. في تلك الليلة الخالية فضاءاتها من قمر ونجوم، اختبؤوا احتماءً من برد شتاء 1933. لم يوقظ بكاء من ستصبح لاحقاً نجمة النجمات، حي شبرا التاريخي العريق في القاهرة، الذي شهد نشأة عدد كبير من الفنانين المصريين
لم تكن المخرجة ليزا أزويلوس، في البداية، من المعجبات بداليدا، قبل الموافقة على تولّي الفيلم. وما أن بدأت تغوص في كافة تفاصيل حياتها، حتى شعرت بأنها مسحورة تماماً بهذا القدر الاستثنائي، وخصوصاً القدر العاطفي الذي يشبه تراجيديا إغريقيةً. وقالت أزويلوس يومها: "داليدا تركت رسالةً تطلب فيها من الناس أن يسامحوها على انتحارها. وهنا شعرت بأنه من واجبي أن أوضّح لماذا قررت الرحيل. أردت أن أجعلهم يتفهمونها، ويعذرونها. إنها امرأة عاشت لعنةً تلخصت بكونها امرأةً عصريةً، أحبّت في زمن كان من الصعب فيه عيش الحب بحرية. لم تستطع الاحتفاظ بجنينها من دون زواج، ولم تكن عمليات الإجهاض آمنة، فتسببت لها بالعقم". وهكذا عاشت وحدةً عاطفيةً، وأمومةً محرّمةً كانت لتضمن لها الثبات العاطفي، والحافز للاستمرار.
يقدّم الفيلم قصة داليدا التي وُلدت تحت اسم يولاندا جيغليوتي في مصر، وعلاقتها الصعبة بوالدها العنيف، بسبب الحرب والسجن، مما سيؤثر على علاقتها بالرجال لاحقاً. يتطرق الفيلم أيضاً إلى قصتها مع شقيقها ومدير أعمالها أورلاندو (قام بالدور الممثل ريكاردو سكامارسيو)، وإلى أول ظهور لها على مسرح الأولمبيا الشهير عام 1956، ثم زواجها من لوسيان موريس (قام بالدور جان بول روف)، وأسفارها إلى الهند، والنجاح الساحق لأغنيتها "جيجي لاموروزو"، سنة 1974، وقدرها العاطفي المأساوي، وصولاً إلى النهاية الدرامية لحياتها عام 1987.
في كل مرة أشاهد فيها هذا الفيلم، أشعر وكأنني أقف أمام لوحة "بورتريه" مرسومة بشكل حميم لامرأة استثنائية تعيش ازدواجيةً مطلقة، فهي معقدة ومرحة في آن معاً، شغوفة وعصرية في زمن مكبّل بالتقاليد، تشع بألف لون ولون تحت الأضواء، ولكنها حزينة ووحيدة عندما تخلو إلى نفسها. هذه الازدواجية بين النجمة والمرأة هي عقدتها، والمحرك الأساسي للفيلم، فهي قالت يوماً: "الرجال ينامون مع داليدا، ويستيقظون مع يولاندا".
موت والدها وتحقيق الحلم
متابعتي للشريط جعلتني أستعيد معلوماتٍ كثيرةً عنها، قرأتها منذ صغري وولعي الطفولي بها؛ كانت يولاندا الصغيرة قد تعلمت العزف، وأخذت دروساً في الغناء، لكنها كانت تحلم بأن تصبح ممثلةً مشهورةً، لا مغنية. عاشت طفولةً عاديةً، لم يعكّر صفوها سوى حَوَلٍ في إحدى عينيها (أجرت ثلاث عمليات جراحية في ما بعد). ولكن ما أن أصبحت مراهقةً، حتى بدأ والدها الحاد الطباع يضيّق عليها، فيمنعها من الخروج مع أصدقائها.
كانت الكنيسة منفذها من مراقبة والدها، فهي لم تكن تذهب للصلاة كما يظن أهلها، بل لملاقاة فتى إيطالي الأصل اسمه أرماندو. وعندما توفي والدها، بدأت يولاندا تحلم بحياة أخرى. حلم النجومية لم يفارقها، فقررت المشاركة سرّاً في مسابقة "ملكة جمال مصر"، لأنها كانت تدرك أن والدتها لن تسمح لها بالظهور "شبه عارية" بالمايوه
وكانت الكنيسة منفذها من مراقبة والدها، فهي لم تكن تذهب للصلاة كما يظن أهلها، بل لملاقاة فتى إيطالي الأصل اسمه أرماندو. وعندما توفي والدها إثر جلطة في الدماغ، بدأت يولاندا تحلم بحياة أخرى. حلم النجومية لم يفارقها، فقررت المشاركة سرّاً في مسابقة "ملكة جمال مصر"، لأنها كانت تدرك أن والدتها لن تسمح لها بالظهور "شبه عارية" بالمايوه. وهكذا فازت بلقب ملكة جمال مصر 1954، وهي في الواحد والعشرين من عمرها، وكان التاج مدخلها إلى عالم الشهرة.
تحوّلت يولاندا بين ليلة وضحاها، إلى "سندريلا"، خصوصاً أن جائزة الفوز كانت زوجاً من الأحذية الذهبية. اللقب الجمالي سمح لها بأن تقدّم بعض الأدوار التمثيلية البسيطة، فقررت أن تتخذ لها اسماً فنياً. اختارت أولاً اسم دليلة DALILA، تيمّناً ببطلة فيلم "شمشوم ودليلة"، للممثلة هايدي لامار التي كانت تشبهها. ويقال إنها التقت في الأقصر، في أثناء مشاركتها الصغيرة في أحد الأفلام الغربية، ممثلاً مبتدئاً يحلم بالشهرة مثلها، اسمه ميشال شلهوب (قبل أن يصبح النجم العالمي عمر الشريف). وعلى الرغم من أنه فُتن بها، إلا أن علاقتهما انتهت قبل أن تبدأ، لأن داليدا سافرت إلى فرنسا بحثاً عن الشهرة، على الرغم من معارضة أمها.
الغناء وتغيير الاسم من جديد
في باريس، شعرت يولاندا يومها بالقلق والوحدة، فالعاصمة الفرنسية الرمادية لم تستهوِ ابنة الشمس الدافئة في مصر، هي التي غنت لها أغنيتها الشهيرة "Soleil Soleil". ولكنها احتملت، لأنها كانت تعلم أن غربتها وابتعادها هما ضريبة الرغبة في الشهرة والنجاح. وحين يئست من النجاح، وحزمت حقائبها للعودة إلى مصر، وتوجهت إلى مكتب الحجز لتحصل على تذكرة السفر، لفتت نظر مدرّبٍ للصوت يُدعى رولاند برغر، الذي أُعجب بإطلالتها، وحاول إقناعها بالغناء، وصرف النظر عن فكرة التمثيل، وبدأ يعطيها دروساً في الصوت، إلى أن أصبحت قادرةً على الغناء بشكل جيد، فبدأت "دليلة" تغنّي في الكباريهات الفرنسية. وفي المبنى الذي سكنته، كان جارها شاب وسيم يُدعى آلان ديلون، يحلم بدوره بأن يصبح ممثلاً مشهوراً. وبحكم الجيرة والطموح المشترك ومصاعب الحياة في بداياتهما، أصبحا صديقين، ومعا أنشدا، عندما لمع نجمهما، أغنية Paroles.
في باريس، شعرت يولاندا يومها بالقلق والوحدة، فالعاصمة الفرنسية الرمادية لم تستهوِ ابنة الشمس الدافئة في مصر، هي التي غنت لها أغنيتها الشهيرة "Soleil Soleil".
لم يضطر ديلون إلى تغيير اسمه، أما يولاندا التي كانت تُعرف باسم "دليلة"، فقامت بتغيير اسمها. في إحدى المرات، التقت في المكان الذي كانت تغنّي فيه بصديقٍ قديم، قال لها إن اسم"دليلة" غريب، وعدواني. وبعد تفكير، قررت مزج اسمها الحقيقي "يولاندا"، باسم "دليلة"، وهكذا وُلدت "داليدا".
في باريس نفسها، وبعد أكثر من 25 عاماً على وصولها الأول إليها، عادت يولاندا والتقت بميشال شلهوب، بعدما أصبحت هي، الأيقونة داليدا، وهو النجم العالمي عمر الشريف. اللقاء تم من خلال مقابلة تلفزيونية جمعت بينهما عام 1981، فقدّمته داليدا على أنه صديق قديم، وتذكرا كيف التقيا للمرة الأولى في مصر، وكيف أنه حقق حلمه، ووصل إلى هوليوود، بينما هي لم تحقق حلمها بالتمثيل. أيضاً خلال هذه المقابلة التلفزيونية، رقص عمر الشريف مع داليدا، وهي تغنّي "ذكرى حبنا لسه حوالينا".
انتحار العشّاق
ولكن الحب الذي لطالما غنّت له داليدا، لم يكن للأسف دائماً "حواليها"، فلعنة انتحار رجال حياتها نغّصت عليها حياتها، ودفعتها للانتحار بدورها. تزوجت أولا من لوسيان موريس، ولكن زواجهما انتهى سريعاً، وقد حاول موريس الانتحار لرفضها العودة إليه. أيضاً عشقت داليدا الرسام جان سوبيسكي الذي انتحر بدوره بإطلاق الرصاص على نفسه عام 1961. وفي سنة 1967، أحبّت داليدا مغنّياً إيطالياً مبتدئاً يُدعى لويجي تنكو، وحاولت مساعدته ليصبح نجماً، ولكنه فشل بعد مشاركته في مهرجان سان ريمو سنة 1967، فأنهى حياته برصاصة من مسدسه، في أحد الفنادق.
انتهيت من مشاهدة فيلم Dalida، وتوقفت ذكرياتي. أطفأت اللاب-توب، وفي قلبي حسرة. داليدا لن تطفئ اليوم 89 شمعةً. رحلت شابّةً، وبقيت أسطورةً، وستظل تردد: "كل النساء كنّ يرغبن في أن يصبحن داليدا، وداليدا كانت ترغب في أن تكون امرأةً فحسب لا غير"
عام 1986، حاول المخرج المصري يوسف شاهين مساعدتها على استعادة توازنها العاطفي، بعد قيامها بمحاولتَي انتحار، فاقترح عليها بطولة فيلم "اليوم السادس"، وألحّ عليها حتى اقتنعت، فزارت القاهرة وبيت طفولتها في شبرا، وقدمت الفيلم. ولكن بعد سنة على "اليوم السادس"، وفي الثالث من أيار/ مايو 1987، قررت داليدا إنهاء حياتها وعذاباتها. تناولت كميةً كبيرةً من الحبوب المهدئة، وتركت رسالةً تقول فيها: "سامحوني الحياة لم تعد تحتمل". استلقت في سريرها، هدأ وجعها، و... انتهت حياتها.
انتهيت من مشاهدة فيلم Dalida، وتوقفت ذكرياتي. أطفأت اللاب-توب، وفي قلبي حسرة. داليدا لن تطفئ اليوم 89 شمعةً. رحلت شابّةً، وبقيت أسطورةً، وستظل تردد: "كل النساء كنّ يرغبن في أن يصبحن داليدا، وداليدا كانت ترغب في أن تكون امرأةً فحسب لا غير".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...