لا عجب إذا صادفنا كتابات للمصريين على جدران الشوارع، وجذوع الشجر، والنقود، وحتى على أبواب الحمامات، فكمصريٍّ أرى أنهم يعشقون الكتابة على كل شيء!
على جدران الشوارع في مصر، تعودنا أن نرى الرسومات والعبارات التي طالما تباهى أصحابها بأنفسهم، فعبروا عن انتمائهم الكروي لأي من قطبَي الكرة المصرية الأهلي والزمالك، تعودنا أيضاً على العبارات الرومانسية التي تعود البعض أن يدونها على حائط ما على أمل أن تمرّ حبيبته من هذا المكان فترى ما عجز عن البوح به.
على الجدران كذلك تعودنا على تلك العبارات التي تحمل الحكَم والمواعظ والآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، لكن ولأسباب يجهلها العامة تسربت ظاهرة الكتابة تلك إلى أبواب دورات المياة العامة في كثير من الأماكن حتى تحولت إلى "أتوغرافات" مفتوحة وجاهزة لتوقيع الجميع.
والواقع أن تلك الظاهرة لم تكن حديثة على شوارع مصر، فهي، وكما يقول الباحث التاريخي عماد عامر، بدأت منذ عصر الفراعنة الذين كتبوا على المعابد، وبقيت تلك الظاهرة تتوارث من جيل إلى آخر، حتى وصلنا إلى العصر الحديث.
يكمل لنا عامر: "في زمن الاحتلال البريطاني تعود المصريون تدوين العبارات التي تعبر عن رفضهم للاحتلال على جدران الشوارع وأغلب الأفلام التي ظهرت في الماضى بصيغة الأبيض والأسود ترصد مشاهد كتلك".
"المفارقة أننا نجد أحياناً مباراة كتابية بين من يكتبون العبارات الصارخة والفجة، والبعض الذي يردّ عليهم ويطالبهم بإن يعودوا إلى صوابهم، وهي عبارات من نوعية: (وأنت مالك؟ خليك في حالك!)"
ويضيف: "بمرور الوقت بدأت تزداد تلك الظاهرة في القرى والنجوع عن المدينة، حيث تعود أهالي القرى والنجوع على نقش الرسومات والعبارات على جدارن المنازل تماماً كما نرى في بيوت النوبة مثلاً، حيث الرسومات العبقرية، والتي تكشف عن جماليات مدهشة، بينما في الريف مثلاً نجد هناك العبارات والرسومات الموسمية مثل الترحيب بالعائد من الحج بعبارات "حج مبرور وذنب مغفور"، ومعها رسومات لسفينة أو طائرة".
"المدارس أيضاً من الأماكن المهمة التي تستقطب المصريين للكتابة على جدرانها، فعلى الجدران الخارجية نجد الجُمَل الحماسية التي تحثّ الطلاب على الاجتهاد والاستذكار، بينما من الداخل هناك مجموعة من العبارات التي تكشف عن طبيعة المنافسة بين الطلاب، ورغبة كلٍّ منهم في لفت الانتباه، خصوصاً في المرحلة الثانوية والتي يبحث فيها كلّ شاب عن الكشف عن نضوجه. وبين جدران داخلية وخارجية نجد أن المقاعد المخصصة للطلاب مدون عليها هي الأخرى كتابات وعبارات تصف حال التعليم وحال الطلاب والأستاذة إلى جانب بعض الرسومات التي يبقى أغلبها متعلقاً بتضخيم الذات."
وعن تلك الظاهرة يقول لنا الأخصائي النفسي كمال عبدالحافظ: "ما يمكن قراءته من خلال تلك العبارات أنها تحمل العديد من الدلالات الاجتماعية والإشارات والإسقاطات التي تكشف عما يجول في خواطر الشباب، الذين يختارون طرح تلك الأفكار على الأبواب المغلقة".
تبقى الكتابة على أبواب دورات المياه، ظاهرة ملفتة للنظر في المدارس والجامعات وحتى الهيئات والمؤسسات، وهي كما يقول عبدالحافظ، دليل على التمرد والتنفيس والرغبة في الإفصاح عما يجول بداخل النفس، ودليل أيضاً على أن أصحابها يعيشون في فراغ كبير.
ويروي لنا: "نجد على أبواب دورات المياه في الهيئات والمؤسسات العامة، عبارات وإشارات جنسية وهي دليل واضح على مدى الكبت الذي يعيشه هؤلاء، وهو ما يتطلب العلاج. وعلى أبواب أخرى نجد عبارات تحثّ على الالتزام بالأخلاق الحميدة. والمفارقة أننا نجد أحياناً مباراة كتابية بين من يكتبون العبارات الصارخة والفجة، والبعض الذي يردّ عليهم ويطالبهم بإن يعودوا إلى صوابهم، وهي عبارات من نوعية: (وأنت مالك؟ خليك في حالك؛ انصح نفسك!). كما نجد البعض يكتبون النكات وعبارات بأسمائهم كنوع من الاستعراض، ولأن الشعب المصري ابن نكته كما يقال، نجد هناك بعض قفشات الأفلام أو الكوميكسات، وهي غالباً ما تعبر عن طموح كتّابها أو تصوراتهم للشخصية التي يحب أن يكونوا عليها مستقبلاً".
"رغم أن الأغلبية ترى في تلك العبارات سلبيات لا تحصى، إلا أنها أحياناً تكون سبباً في تغيير حياة البعض، تماماً كما حدث مع الطالبة الإنكليزية"، وقصتها..."
يكمل عبدالحافظ: "التعبير عن النفس بهذه الطريقة أمر خاطئ، وهو ما يكشف لنا أن مثل الذين يقدمون على تلك التصرفات لم يحظوا بالتربية الصحيحة التي تؤهلهم للتعبير عن ذواتهم بشكل صحيح ودون إلحاق أي أذى بالغير".
بدوره يؤكد القاص والروائي محمد المنشاوي أن لا أحد يكتب على أبواب الحمام الخاص بمنزله، وإنما الأغلبية تكتب على أبواب دورات المياه العامة، وهو أمر يستحق الانتباه والتأمل.
يكمل لنا: "سبق وقرأت مرة عن معاناة صاحب أحد المطاعم في الولايات المتحدة الأمريكية، الذي كان يشكو باستمرار من تشويه بعض الزبائن لأبواب حمامات المطعم وكتابة عبارات غير لائقة عليها، حتى هداه تفكيره إلى حلّ سحري، حيث وضع لوحاً مخصصاً للكتابة على أبواب الحمامات ومعه أقلام مخصصة للكتابة بحيث يسهل محو تلك العبارات المكتوبة على لوح الكتابة، وكانت المفاجأة الكبرى أن أحداً لم يكتب على اللوح لأنهم أدركوا أن كل ما يكتب سوف يمّحي ولن يبقى طويلاً، فالفعل هنا مرتبط بفكرة الاحتجاج نفسها، وطبعاً هي بحاجة لأن تبقى طويلاً".
يواصل المنشاوي: "نجد أحياناً من يضع أرقام بعض الهواتف كنوع من الانتقام أو التشهير بالآخرين، كما يستغل البعض تلك الأبواب في الدعاية بما أنه لن يدفع فيها أي ثمن وسيراها يومياً الكثيرون".
يختتم: "ورغم أن الأغلبية ترى في تلك العبارات سلبيات لا تحصى، إلا أنها أحياناً تكون سبباً في تغيير حياة البعض، تماماً كما حدث مع الطالبة الإنكليزية، التي كانت تعاني من أزمات نفسية كثيرة بسبب اعتقادها بأنها دميمة، وهو الشعور الذي غذته صديقاتها سواء عن عمد أو حتى جهل. تلك الفتاة وفي أحد الأيام قرأت عبارة على باب حمام مدرستها وكانت تقول: (أنت جميلة مهما يكن). وقتها أدركت أنها لابدّ وأن تبحث عن الجمال في داخلها، وحين آمنت بجمالها الداخلي انعكس ذلك على صورتها عن نفسها، وبدأت تتعامل مع الجميع على أنها جميلة فعلاً، وزادت ثقتها في نفسها أضعافاً."
عند الرجال أغلب الكتابات جنسية، بينما لدى النساء تكون أغلبها رسومات وعبارات رومانسية إيجابية
أما أستاذ علم الاجتماع فؤاد الصياد فيقول: "يمكن فهم تلك الظاهرة على أنها خلل في السلوك ورغبة من البعض في تشويه الممتلكات العامة، كردّ فعل انتقامي، أو ربما لمجاراة ما يرونه على تلك الأبواب. ويمكن أيضاً فهمها بكونها دلالاتٍ اجتماعية تكشف وعي البعض وتعاطيهم مع المجتمع. المشكلة أن الكتابة على الجدران، منذ أن كانت شكلاً احتجاجياً ضدّ الاحتلال وبمرور الزمن لم تتوقف رغم ظهور عشرات التطبيقات ومواقع السوشيال ميديا، والتي باتت نوافذ مهمة للتعبير عن الذات والحديث عن كل ما يؤرق الشباب بوصفهم العنصرَ الأهم في تلك الظاهرة. لكن هذا لم يحدث، واستمر وضع الكتابة على الأبواب والجدران على ماهو عليه".
يستكمل: "في دراسة قديمة وجدوا أن فكرة الكتابة على الحمامات والمنتشرة في دول كثيرة حول العالم وليست مصر فقط، بدأت من فكرة الرغبة في ترك التذكار، لكن بمرور الوقت تغير الوضع وباتت تلك الأبواب ملاذاً للمكبوتين، تماماً كما حدث مع الطلاب النيجيريين الذين لم يُسمح لهم بمناقشة القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بشكل علني، فراحوا يعبرون عن آرائهم على أبواب الحمامات، التي كانت أكثر أماناً بالنسبة لهم، خصوصاً وأنهم كانوا مجهولين لدى الآخرين".
ويختتم الصياد أنه في دراسة أخرى وجدوا أن الكتابات في حمامات الرجال مختلفة تماماً عن الكتابة في حمامات السيدات؛ فعند الرجال أغلب الكتابات جنسية، بينما لدى النساء تكون أغلبها رسومات وعبارات رومانسية إيجابية، وهذا الأمر يحدث في دول العالم وليس مصر فقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه