شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"مغارة علي بابا" الخاصة بأمّي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 6 يناير 202202:46 م


مرّ زمن طويل قبل أن ألاحظ أن لأمي ثروةً خاصةً وكبيرةً، وأن ما تملكه ويخصها، أهم من قلائد الذهب أو أرصدة البنوك والعقارات، وأثمن. كنت للتو أسجل دخولي السنة الثانية لاستقلاليتي وانفصالي عن أسرتي، وتكويني لما يسمّى بيتي البعيد في العاصمة، ودائمة الانهماك بتجميع أشياء هذا البيت، وملامحه، حين جعلتني ثروة أمي أكتشف أن ملء البيت بالأشياء الصغيرة، أكثر صعوبةً بكثير من الأشياء الكبيرة، وأن هوية البيت ورائحته ودفأه لا تولد مع قطع الأثاث الجدية وصاحبة الحضور الحجمي الكبير، كالبرّاد أو الغسالة أو خزانة الملابس والأسرّة، بل مع أشياء أكثر دقةً وأصغر. أشياء لا تختارها عيناك ويداك وحاجتك ومعايير الجودة، بل تختارها روحك لتُعبّر بدقة عمّا يُدعى شخصيتك، ولتحول منزلك إلى ما يشبه حقاً المنزل، بمعايير تربيتك وذاكرتك وذوقك الذي شكلته.

فأيدي النساء كلّما صنعت البيوت، بنت الذاكرة. وكلما طهت الطعام لوّنت حياةً. وكما اكتشفت الزراعة قبل عشرة آلاف عام، اكتشفت كيف يمكن صناعة ثروة حقيقية من الحنان والحب والاهتمام.

فكم من السهل مثلاً أن تنزل إلى السوق لتشتري برّاداً وغسالةً وسريراً؟ ولكن كم من الصعب أن تختار غطاء سريرك؟ أو أن تجد وعاءً مناسباً لمونتك الشتوية؟ أو غطاءً "لقطرميز" يتيم فقد غطاءه؟ كم من المتعب أن تجد وسادةً تريحك، أو تشبه ما اعتدت النوم عليه طوال حياتك؟ كم من المعقّد أن تصادف مثلاً غطاء طاولة يغيّر لون غرفة جلوسك؟ أو أين من الممكن أن تجد كيساً قماشياً مليئاً بأكثر من خمسين زرّاً أشكالها وألوانها وأحجامها مختلفة؟ فهذا انحدر من كمِّ جاكيت قديم، وذاك من قميص لم يعد مناسباً، وغيره سقط سهواً من ضيف عابر.

بعد سنتين من الاستقلالية الجافة، اكتشفت الحقيقة، واصطدمت بها؛ حين زرت منزل أهلي، وشكوت لأمي قضية غياب الملامح عن منزلي، ففتحت أمي "مغارة علي بابا" خاصّتها، كاشفةً عن خزانة مليئة بالعبوات الزجاجية والبلاستيكية بقياسات وأشكال متنوعة، وكلها مخصصة لنقل الطعام، أو حفظه، وقد أصبح لهذه العبوات بعد سفري تاريخ طويل من الذهاب والإياب مع أشخاص كثر قريبين وبعيدين؛ فكل من يزور العاصمة هو مرسال بنظر أمي، إذ كانت تسفّر العبوات إليّ مليئةً بالملوخية أو المعجنات أو اليبرق أو اليالنجي أو أقراص العيد، وتعود إلى منزل أهلي خاليةً تصفّر فيها الريح.

بعد سنتين من الاستقلالية الجافة، اكتشفت الحقيقة، واصطدمت بها؛ حين زرت منزل أهلي، وشكوت لأمي قضية غياب الملامح عن منزلي، ففتحت أمي "مغارة علي بابا" خاصّتها

وصلتني وهي تكاد تنفجر. فأمي لا تقتنع بالطاقة الاستيعابية العلمية للعبوة، وكنت أشعر وكأنها أرادت وضع جزء من قلبها في كل علبة. أرسلت لي في هذه الثروة من العبوات كل أصناف الطعام التي تظنّ أن لا أحد يتقن صنعها سوى الأمّهات، ووجبات كانت متأكدة من أنني سأفتقدها في الغربة المؤقتة، فلطالما خافت عليّ من رائحة عابرة تنساب من منازل الجيران لملوخية وقت العصر، أو يبرقه، وكم أبكتني هكذا رائحة فعلاً. وعلى الرغم من كل هذه الحوادث المسجّلة، بقينا لا نعرف أبداً مصدر ثروة أمي، وأرشيفها الواسع من هذه العبوات، وأغطيتها التي تتدرج من عشرات أغطية القوارير الصغيرة إلى أكبر أغطية الأوعية الزجاجية، وبكل الأشكال والألوان.

خزانة أخرى كشفت أمي عنها، كانت مليئةً بالأغطية السميكة، والوسائد المريحة المحاكة بيديها، وأنا التي ظننت أنني قريبة من أمي، ورافقتها طويلاً، لا أذكر أبداً متى جمعت كل هذا، ولمن. وكيف؟ هل كانت تعرف أننا سنقع ضحية برد العواصم والمدن الغريبة؟ قالت لي: "ماما بدك لحاف صوف، أو ديكرون؟"، وسادة طرية أم سميكة؟". وقفت حائرةً. كنت أمام رفاهية من نوع جديد، رفاهية عرفنا قيمتها بعد الابتعاد عن رحمنا الأول.

كيس الأزرار القماشي السحري المغلق بإحكام بخيط يلفّ رقبته، ودفتر وصفات الطعام السحرية، خاصًّة الحلويات التي كتبت مقادير أسرارها على عجل بخط ركيك، وعلب التوابل المرتبة بأنواع وأصناف مختلفة مع لصاقة تبوح بسرّ محتوى كل علبة، وخزانة المونة التي يبقى مستوى السكر والأرز والبرغل والحمص فيها ثابتاً من دون أي نقصان، وكأننا لم نكبر هنا، أنا وإخوتي وأبي، وكررنا هذه الطبخات مع أمي عشرات المرات، وأخيراً أرشيف أمي اللا مادي المحفوظ في ذاكرتها بكل دقة، مفصّلاً أماكن أشياءنا وملابسنا الشتوية والصيفية وأحذيتنا وحتى أسرارنا، وقياسها، ومصائرها.

خزانة أخرى كشفت أمي عنها، كانت مليئةً بالأغطية السميكة، والوسائد المريحة المحاكة بيديها، وأنا التي ظننت أنني قريبة من أمي، ورافقتها طويلاً، لا أذكر أبداً متى جمعت كل هذا، ولمن. وكيف؟ هل كانت تعرف أننا سنقع ضحية برد العواصم والمدن الغريبة؟

تصنع النساء الحياة، حين يكنّ أمهات أو صديقات أو حبيبات أو جدّات. يطرّزن الحكايات مع الوسائد، وينحتن الذاكرة بأصابع من لحم ودم ورائحة. وحين حلّت أمي ضيفةً في منزلي المتواضع الذي ادّعيت أنه يشبهني، عدت إليه من بعد يوم عمل طويل لأجده مختلفاً تماماً، بإضافة قطع قليلة مصدرها ثروة أمي من النفائس الصغيرة؛ غطاء طاولة من الصوف الملوّن حاكته هي، وغيّر وضعه بشكل مائلٍ على طاولة غرفة الجلوس لون البيت وطابعه، ووسائد على الأرائك والأسرّة أضافت إلى المنزل دفئاً وصلني حين فتحت الباب، وأوعية زجاجية مليئة بالمونة زينّت الرفوف الحزينة في المطبخ، ووصفات طعام محفوظة في الذاكرة كانت تتحضر على النار ناشرةً في الهواء روائح يستطيع قلبك التقاطها قبل أنفك، والأكثر تأثيراً كان حوض متوسط الحجم، حوّلته أمي من دلوٍ مثقوب إلى حوضٍ ملوّن زرعت فيه شتلة زينة صغيرة غيّرت لون شبّاكي الوحيد من الرمادي إلى الأخضر.

عبر التجارب البشرية الطويلة، ألصق التاريخ بالنساء صفاتٍ وأدواراً كثيرةً، أهمها سحر جاذبيتهن، وعطفهن، وغيرهما، لكن الأكثر تأثيراً وغرابةً على الإطلاق، هو المدى الزمني لسحر النساء، بل ذبول الزمن أمام سحرهنّ، فأيدي النساء كلّما صنعت البيوت، بنت الذاكرة. وكلما طهت الطعام لوّنت حياةً. وكما اكتشفت الزراعة قبل عشرة آلاف عام، اكتشفت كيف يمكن صناعة ثروة حقيقية من الحنان والحب والاهتمام.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image