عرف التاريخ الإسلامي العديد من النساء اللاتي لعبن أدواراً مهمة على الصعيد السياسي. واحدة من تلك النساء كانت تركان خاتون، زوجة السلطان السلجوقي الثالث جلال الدين ملِكشاه.
رغم قصر عمر تركان خاتون، لكنها كانت أحد أهم أركان البيت السلجوقي الحاكم، إذ كانت صاحبة خبرة واسعة في كل ما يخص السلطة، كما أنها أسهمت في رعاية الحياة الثقافية والعلمية، وفضلاً عن كل ما سبق، فإن المصادر التاريخية قد حفظت لنا أخبار تنافسها المستمر مع بقية نساء البلاط من جهة، ومع الوزير الفارسي الأشهر نظام الملك الطوسي من جهة أخرى.
أفراسياب والقراخانيون... الأصل والنسب
لا يمكن فهم أبعاد الدور المهم الذي لعبته تركان خاتون في تاريخ المشرق الإسلامي، إلا بعد الرجوع لأصولها وجذورها الأسرية الضاربة في القدم، تلك التي مهدت الطريق لوصول الخاتون لواحدة من أهم المراتب الاجتماعية والسياسية في هرم السلطة السلجوقية في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري/القرن الحادي عشر الميلادي.
يرجع نسب تركان خاتون، إلى سلالة ملوك القراخانيين، حكام ما وراء النهر، والتي امتدت دولتهم من القرن العاشر إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وتقول الأسطورة الشائعة إنهم ينحدرون من نسل أفراسياب.
أفراسياب، هو أحد الملوك الأسطوريين، الذين شاع ذكرهم في العديد من القصص الدينية والشعبية في بلاد فارس وآسيا الوسطى، وقد ورد اسمه في كتاب الأفِستا، وهو الكتاب المقدس في الديانة الزرادشتية، كما تناولته ملحمة الشاهنامة التي جمعها الشاعر الفارسي أبو القاسم الفردوسي في القرن الخامس الهجري/العاشر الميلادي.
المِخيال الفارسي الجمعي ربط دائماً بين اسم أفراسياب والخراب والظلم والدمار، الأمر الذي يمكن التأكد منه بالرجوع لما كتبه المؤرخون عن سيرة هذا الملك، فعلى سبيل المثال، يتحدث المطهر بن طاهر المقدسي (المتوفى 355هـ) في كتابه "البدء والتاريخ" عن هذا الملك، فيقول: "ملك أفراسياب التركي، فعاث وأفسد وخرب الديار وعور الأنهار..". أما سبط ابن الجوزي المتوفى 654هـ فتحدث في كتابه "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان" عن فترة حكمه، فقال: "وعاث في الأرض ودَفَن القُنِيَّ، وغَوَّر المياه، فقَحِطَ الناسُ وأصابهم الجَهْد والبلاء..".
الخصم الأكثر خطورة على نفوذ تركان خاتون، كان الوزير الفارسي نظام المُلك الطوسي، الذي نظر لتوسع سلطة تركان خاتون بحذر شديد؛ الأمر الذي عبر عنه بشكل مبطن في كتابه الشهير "سياست نامه" (سيَر الملوك)، عندما انتقد تدخل النساء في الحكم
في أواسط القرن الخامس الهجري، وصل إلى عرش القراخانيين حاكم جديد، وهو تمغاش خان إبراهيم، الذي كان يسيطر من عاصمة ملكه في مدينة سمرقند، على مساحات واسعة من أراضي تركستان وآسيا الوسطى. من بين الأمور التي تزامنت مع فترة حكم تمغاش خان، أن الدولة السلجوقية الفتية التي تحكم إيران كانت في طور التوسع بعدما فرضت سيطرتها على الخلافة العباسية، وصار السلطان السلجوقي يحكم باسم الخليفة العباسي.
بحسب ما هو معروف في المصادر التاريخية، فالسلاجقة في عهد السلطان ألب الدين أرسلان -ثاني سلاطين الدولة السلجوقية- قد عملوا على التوسع في منطقة بلاد ما وراء النهر، الأمر الذي عرّضهم للصدام مع القراخانيين، الذين أرسلوا بشكواهم للخليفة العباسي وطلبوا منه أن يأمر السلاجقة بالالتزام بالحدود القائمة بين الدولتين.
في ظل تلك الظروف العصيبة، تم الاتفاق على عقد الصلح بين الدولتين، وكما هي العادة المتبعة في تلك العصور، المصاهرة كانت أفضل الطرق الدبلوماسية المعروفة، ولذلك ارتبطت السلالتين الحاكمتين -السلجوقية والقراخانية- من خلال زيجتين. في الزيجة الأولى، تزوجت عائشة خاتون بنت ألب أرسلان من شام المُلك نصر ابن تمغاش خان، وفي الثانية، تزوج ولي العهد السلجوقي ملكشاه الذي لم يكن قد بلغ التاسعة من عمره بعد، من تركان خاتون ابنة تمغاش خان، والتي لا تذكر المصادر عمرها وقت الزواج، وإن يغلب الظن أنها كانت أصغر سناً من ملكشاه.
بتلك الأصول التركية الملكية، التي تتداخل فيها عوامل الأسطورة والتاريخ، انتقلت الطفلة تركان خاتون إلى إيران، لتصبح سيدة القصر السلطاني، ولتدخل في العديد من الصراعات والمنافسات على السلطة.
من أميرة إلى سلطانة... الصراع مع نساء البلاط ونظام المُلك
في غضون سنوات قلائل فحسب، تغير الحال بالطفلة الصغيرة القادمة من غياهب سمرقند، فإذا بها وقد صارت -بعد وصول زوجها لسدة الحكم- السيدة الأولى في البلاط السلجوقي.
تركان خاتون وجدت نفسها في خضم حرب شرسة، فرضتها عليها ظروف القصر وطبيعة الحكم، وكان أهم منافسيها في تلك الحلبة، كل من زبيدة خاتون، الزوجة الثانية لملِكشاه، وابنة عمه، وأم ولده الأكبر بركياروق؛ وخاتون السفرية، محظية ملكشاه الأثيرة لديه، وأم ابنيه محمد وأحمد سنجر.
تركان خاتون عملت على إثبات تفوقها الكامل في البلاط، فسيطرت بشكل شبه تام على السلطان، وفرقت الأموال الطائلة على قادة الجيش، لضمان ودّهم وولائهم، وقد أتت تلك الخطة بثمارها في نهاية المطاف، إذ تتفق المصادر التاريخية على أن الحرس الخاص بتركان خاتون كان يقدر ببضعة آلاف من المقاتلين الأشداء.
على الرغم من المعارضة، أعلنت تركان خاتون عن تنصيب ابنها سلطاناً، ولقبته بناصر الدنيا والدين، واستدعت تابعها تاج المُلك الشيرازي لمنصب الوزارة، كما عملت على التخلص من مراكز المعارضة القوية القائمة داخل البيت السلجوقي الحاكم
نفوذ السلطانة بلغ لدرجة عظيمة وغير مسبوقة، لدرجة أن الخليفة العباسي بنفسه كان يخطب ودّها ويوجه لها الرسائل والسفراء، ويعتمد عليها في إقناع السلطان ببعض الأمور، ومما يشهد على ذلك أن الخليفة لما أرسل في طلب الزواج من ابنتها، أوكل ملكشاه الأمر برمّته إلى تركان خاتون، فأجابت على طلب السلطان بقولها: "إن ملك غزنة و ملوك الخانية مما وراء النهر طلبوها وخطبوها لأولادهم و بذلوا أربعمائة ألف دينار، فإن حمل الخليفة هذا المال، فهو أحق منهم..".
ولكن لما ردت عليها أم الخليفة، وأوضحت لها أن الخليفة هو أعظم الرجال، وأن جميع الملوك يخدمونه ويعظمونه، رضيت تركان خاتون بإتمام زواج الخليفة بابنتها وإن اشترطت عليه أن يدفع 50 ألف دينار لمهرها، و"أنه لا يبقي له سرية و لا زوجة غيرها و لا يكون مبيته إلا عندها"، فلما وافق الخليفة على تلك الشروط، تم الزواج في 480هـ، وازداد نفوذ تركان خاتون في البلاط السلجوقي، إذ أضافت لنفسها لقباً جديداً، ألا وهو حماة الخليفة.
الخصم الأكثر خطورة على نفوذ تركان خاتون، كان الوزير الفارسي نظام المُلك الطوسي، الذي تحكم في كافة الأمور الخاصة بالدولة، ونظر لتوسع سلطة تركان خاتون بحذر شديد؛ الأمر الذي عبر عنه بشكل مبطن في كتابه الشهير "سياست نامه" (سيَر الملوك)، عندما انتقد تدخل النساء في الحكم، فقال: "إنَّ كلَّ من يجعل النساء قيِّماتٍ على الرجال يستحمل وحده جرم أيِّ خطأ أو انحراف؛ لأنَّه هو الذي سمح بذلك وتخطَّى العادة المتَّبعة".
التنافس بين السلطانة التركية والوزير الفارسي وصل إلى أوجه في عام 485هـ، عندما تمكنت تركان خاتون من إقناع زوجها بالخطورة التي يمثلها نظام الملك على سلطانه، ولم تلبث بعدها أن دبرت لاغتيال الوزير، وأشاعت أن جماعة الحشاشين الشيعية التي تحكم قلعة ألَموت الشهيرة، هي المسؤولة عن تلك الفعلة النكراء.
بين الصعود والهبوط... تركان خاتون بعد وفاة ملكشاه
توفي السلطان جلال الدين ملكشاه قبل أن يبلغ الأربعين عاماً، وكان قد خلف من ورائه أربعة من الأبناء الذكور، وهم بركياروق، ومحمد، وأحمد سنجر، ومحمود.
ابن الأثير المتوفى 630هـ، ذكر في كتابه "الكامل في التاريخ"، تفاصيل الدور المؤثر الذي لعبته تركان خاتون في تلك المرحلة الحرجة، فكان مما قاله في هذا المقام: "لما مات السلطان ملكشاه كتمت زوجته تركان خاتون موته، وأرسلت إلى الأمراء سراً فأرضتهم، واستحلفتهم لولدها محمود، وعمره أربع سنين وشهور، وأرسلت إلى الخليفة المقتدي في الخطبة لولدها أيضاً. فأجابها، وشرط أن يكون اسم السلطنة لولدها، والخطبة له....".
الأرملة التي فقدت زوجها للتو، وجدت أن هناك معارضة قوية لخطتها الطامحة لسلطنة ابنها الصغير، ولا سيما من قبل علماء الدين، الذين تزعمهم في هذا الوقت حجة الإسلام أبي حامد الغزالي المتوفى 505هـ، والذي أعلن وقتها أن الشرع لا يقبل سلطنة طفل، لم يتعدّ عمره الأعوام الأربعة.
تركان خاتون، كانت معروفة بدعمها المادي السخي لكل من العلماء والطلبة، وأقامت مدرسة عظيمة في الجانب الشرقي من مدينة بغداد
على الرغم من تلك المعارضة، أعلنت تركان خاتون عن تنصيب ابنها سلطاناً، ولقبته بناصر الدنيا والدين، واستدعت تابعها تاج المُلك الشيرازي لمنصب الوزارة، كما عملت على التخلص من مراكز المعارضة القوية القائمة داخل البيت السلجوقي الحاكم، فأرسلت إلى أصفهان سراً، للقبض على بركياروق، ووضعه في السجن، إلا أن تدبيرها سرعان ما فشل بعدما وقعت الثورة، وتم تحرير بركياروق على يد أتباع نظام المُلك، وتوجه بعدها الفتى الذي لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره لمدينة الري، حيث تواجد حشد كبير من المؤيدين له، لتبدأ المواجهة العنيفة بين أبناء ملكشاه.
أبو الفداء (المتوفى 732هـ)، حكى في كتابه "المختصر في أخبار البشر"، عن تفاصيل بداية تلك المواجهات، فقال: "أرسلت تركان خاتون عسكراً إلى بركياروق والنظامية -أتباع نظام الملك-، فاقتتلوا بالقرب من بُروجِرد فانهزم عسكر خاتون وسار بركياروق في أثرهم وحصرهم بأصفهان".
بعد فترة قصيرة من وقوع الهزيمة، قنعت السلطانة بالابتعاد عن دوائر السلطة، خصوصاً بعدما فشلت في الحصول على دعم إسماعيل بن ياقوتي حاكم أذربيجان، أو تتش بن ألب أرسلان زعيم سلاجقة الشام، وهكذا توارت تركان خاتون عن الأنظار، وتوفيت في 487هـ، وتوفى ابنها الصغير في العام نفسه، ليقل عدد المتنافسين على وراثة عرش ملكشاه.
حازمة، وذات هيبة، وراعية للعلم والعلماء... تركان خاتون في عيون المؤرخين
اتفق المؤرخون على أن تركان خاتون كانت واحدة من أهم الشخصيات النسائية التي عرفها التاريخ الإسلامي على مرّ القرون، الأمر الذي اتضح في المصادر التاريخية بشكل لا مراء فيه.
على سبيل المثال، وصفها أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي (المتوفى 597هـ) في كتابه "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم"، بأنها "كانت حازمة حافظة شهمة... زمت الأمور حين وفاة السلطان وحفظت أموال السلطان فلم يذهب منها شيء". أما شمس الدين الذهبي (المتوفى 748هـ) في كتابه "تاريخ الإسلام"، فقد أكد على سلطتها ونفوذها في الدولة، فقال: "وكان لها هيبة وصَوْلة، وأمرٌ مُطاع..".
تركان خاتون، كانت معروفة أيضاً بدعمها المادي السخي لكل من العلماء والطلبة، حتى أنها قد أقامت مدرسة عظيمة في الجانب الشرقي من مدينة بغداد، وكانت هذه المدرسة مسؤولة عن تعليم المذهب الحنفي، وعمل بها الكثير من العلماء المشهورين حينذاك. وأغلب الظن أن تركان خاتون قد أقامت تلك المدرسة لتنافس الوزير نظام الملك الطوسي الذي كان قد أنشأ العديد من المدارس في كل من بغداد وأصفهان ونيسابور، وهي المدارس التي نُسبت إليه فعُرفت باسم "المدارس النظامية".
لا يفوتنا أيضاً الإشارة إلى أن التنافس المحتدم بين السلطانة والوزير، قد تأثر كذلك بخريطة المذاهب الفقهية الإسلامية، ففي الوقت الذي تعصب فيه نظام المُلك للمذهب الشافعي، السائد في الكثير من الأقاليم الفارسية، فقد تعصبت السلطانة للمذهب الحنفي، وهو المذهب المعتمد في عموم البلاد التركية، ومن هنا نستطيع أن نفهم أسباب اعتماد المذهب الشافعي في المدارس النظامية، واعتماد المذهب الحنفي في المدرسة الخاتونية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع