في نوفمبر/تشرين الثاني 2009، حلّقت الطائرة من الفلبين باتجاه العاصمة الأردنيّة عمَّان، على متنها هانا التي بحثت عن عملٍ في المنازل لإعالة طفليها (10 و7 أعوام)، في ذلك الوقت.
بدا الأردن مختلفاً كثيراً عن بلادها التي تركت فيها طفليها وحيدين مع والدهما وجدتّهما، واضطرت لتغيير أصحاب العمل أكثر من مرة بعد رفضهم إعطاءها أجرها أو أوراقها الثبوتيّة، ومنهم من احتجز جواز سفرها، في مؤشرٍ يرقى للاتجار في البشر بالأردن.
لم تأذن لها سيدة المنزل الأولى بالخروج منه، وبدا كأنها تغار منها على زوجها –كما تصف هانا لرصيف22، طالبةً منها قصَّ شعرها الطويل حتى لا ينجذب الزوجُ لها، وحين رفضت ذَلك أعادتها لمكتب الاستقدام الذي أرسلها بدوره لعائلةٍ أُخرى كانت تحرمها من الطعام والشَّراب وتكتفي بتقديم كأسٍ من الأرز وبيضةٍ مسلوقةٍ لها طوال اليوم، تقول: "لقد تعلمت السرقة، سرقت الطعام من تلك الأسرة حتى أعيش".
ابني عاملة منزلية أجنبية: "أحياناً لا يمكننا سوى الابتسام لها دون سماع صوتها"
أول كريسماس
بعد ثلاثة أسابيع من وصولها إلى الأردن انتقلت لبيتٍ ثالث طلبت منها صاحبته رعايةَ أطفالها الخمسة، إلا أنها رفضت قائلة: "أنا أعتني بأطفالك، لكن من سيعتني بأطفالي؟ أتيت لتنظيف المنزل لا لرعاية الأطفال". حدث هذا بعد محاولتها الوصول لأسرتها من دون فائدة، فأصحاب المنزل ومكتب استقدام العاملات لم يعطوها هاتفاً للتواصل معهم، وذلك مع بدء احتفالات عيد الميلاد.
دأبت هانا وأطفالها على تزيين شجرة الكريسماس مطلع سبتمبر/ أيلول من كل عام، إلا أنَّ الأمرَ اختلفَ حين وصولها عمّان قبل 11 سنة إذ قضت أول ليلة عيدٍ تمضيها في الغربة وحيدةً تبكي شوّقاً لأسرتها وعدم قدرتها على الوصول إليها، "كان قاسياً" عليها –كما تصفه-، وهو ما دفع بسيدة المنزل إلى إعطائها هاتفاً حاولت من خلالها عبثاً الحديث مع أولادها، فسوء الإنترنت في الفلبين وانقطاع الشبكة المتواصل حالا دون مشاركتهم في عشيّة الكريسماس، ما اضطرها للحديث معهم بضع دقائِق عبر المكالمات الدوليّة.
دأبت هانا وطفليها على تزيين شجرة الكريسماس مطلع سبتمبر/ أيلول من كل عام، إلا أنَّ الأمرَ اختلفَ حين وصلت عمّان قبل 11 سنة إذ قضت أول ليلة عيدٍ في الغربة وحيدةً، تبكي شوّقاً لأفراد أسرتها وعدم قدرتها على التواصل معهم
تغيير الاسم
لم تكن السنوات التي قضتها هانا سهلةً عليها، وهو ما جعلها تُعرَفَ باسم "هارد" بين المجتمع الفلبينيّ في الأردن، أي "القويّة"، إذ بدأت معاناتها باحتجاز أوراقها مروراً بعدم حصولها على إجازاتٍ أو تلقيها الأجر المُتفق عليه، وليسَ انتهاءً بنومها أثناء الشتاء البارد قُرب باب منزل إحدى العائلات، لينتهي الأمر بها خلف قضبان السجن لعدم امتلاكها أوراقاً ثبوتية.
لم تكن تلك مواجهتها الأولى للسجن، فقد نجت منه سابقاً حينما حاولت إحدى الفلبينيات تلفيق تهمة حيازة المخدرات لها عبر وضع المادة الممنوعة في منزلها، وعن هذا تقول: "كانت تغار مني ومن علاقاتي الجيّدة مع المجتمع، دخل رجال الشرطة وفتَّشوا المنزل وخلال دقيقة وجدوها المخدرات، سألني الشرطيّ عن سبب شرائي لها، أجبته: إنه منزلي، لكنك وجدت المخدرات خلال دقيقة بينما أنا لا أعرف عن وجودها أصلاً! يمكنك سؤال الذي وضعها في منزلي من الأساس".
بُرأت هانا في ذَلك الوقت من تهمة التعاطي، إلا أن أوراقها الثبوتية "غير الموجودة" لم تنقذها من القبضة الأمنية التي تلاحق المهاجرين.
تجربة السجن علمتها الكثير، إذ وجدت فتيات من مُختلف الجنسيَّات داخله، إلا أنَّ نقطتها المحوريّة كانت حين قابلت إحدى الفلبينيات اللواتي كُنَّ يبكينَ في زاوية السجن وسألتها عن سبب بكائِها فردت السجينة أنَّ مجموعةً من النساء العربيات شتمنها وأخبرنها بأنَّها عاهرة!
جُنَّ جنون هانا وسألتها بحزمٍ أن تقودها إلى اللواتي أسأن إليها، وتوجهت لهنَّ متحديةً بقولها إنَّ الفلبينيَّات لسن عاهرات وارتداء العربيات غطاء الرأس لا يجعلهنَّ أفضل حالاً، في النهاية الجميع موجودونَ في سجنٍ واحد نتيجة تُهمٍ وجهت لهن، لا يعني أنَّ وجود الفلبينيّة فيه هوَ على خلفية قضيّة أخلاقيّة، كان ذَلك بمثابة موقفٍ حاسمٍ غيَّر من نظرة الأخريات إليها، وأصبحن أكثر ثقةً بها.
تتذكر الشجار الذي حصلَ آنذاك واستدعاء إدارة السجن لها لتخبر المسؤولين بكل ثقة: "احمدوا الله أنني داخل السجن لأنني سأطالب بحقوقي إذا كنتُ خارجه! أنتم تقومون بجعلنا نشرب من ماء المرحاض، كيف يمكنني قبول هذا!". موقفها الواضح ودفاعها عن السجينات الضعيفات جعلاها تفرض احترامها على الجميع، لتقوم بعد ذَلك بجني النقود من الروسيَّات اللواتي رفضن تنظيف السجن بالتناوب وتخرج بمبلغٍ كبيرٍ من المال، تقول: "كنا نتناوب حسب جنسيَّاتنا على تنظيف السجن، إلا أنَّ الروسيَّات كُنَّ يرفضن ذَلك، فأخبرتهن أنَّ بإمكاني التنظيف إذا دفعنَ لي، وبالفعل كنت أقوم بذَلك وأجني النقود، أريدُ العيش".
تلك المواقف دفعَت بهانا لتغيير اسمها الحقيقيّ الذي طلبت عدم الكشف عنه خلال هذه القصة حمايةً لها، مؤكدةً: "هذه هي طريقتي لحماية نفسي، واجهت العديد من التحديَّات في الأردن التي لم أختر المجيء إليه، بل أخبرتني الوكالة التي أحضرتني قبل 11 سنة بأن طقسه وثقافته وتعامل الناس فيه جيّدة جداً مقارنةً بغيره من البلدان".
أطفال بلا أب أو أم
لم تأذن الظروف لهانا بالسفر إلى عائلتها حتى بعد وفاة زوجها وبقاء طفليها في منزل والدة الزوج التي لم تتكفَل الإنفاق عليهما بل استمرت بالاعتماد على النقود التي ترسلها الأم من أجل متطلبات الحياة والتعليم.
ولم تستطع طوال مدة المقابلة إخفاء قلقها على أطفالها وهي تسترجع تلك الفترة من حياتها قائلةً: "لم يكن لديهما أبٌ أو أم، هذا صعب عليهما، تساءلتُ كثيراً كيف سيعيشان بدوني؟ لكن عودتي تعني توقف الدعم الماليّ"، تلك الحقيقة أجبرتها على تقبّل الحياة في الأردن وجمع النقود حتى يتمكن طفلاها من العيش في الفلبين، على الرغم من وصولهما لسن المراهقة بعيداً عنها.
تتذكر هانا الشجار الذي حصلَ، واستدعاء إدارة السجن لها لتواجه المسؤولين: "احمدوا الله أنني داخل السجن لأنني سأطالب بحقوقي إذا كنتُ خارجه! أنتم تجعلوننا نشرب من ماء المرحاض، كيف يمكنني قبول هذا؟!"
الانتقال إلى العمل الحرّ
فرق التوقيت بين الدولتين الذي حال بينها وبين الاطمئنان على الطفلين، وحرمانها من الأجور، وعدم حصولها على إجازات، وغيرها من الصعوبات دفعت بها لترك العمل في المنازل والانتقال للعمل الحرّ (العمل بنظام المياومة).
توضح أنها تحصل على خمسة دنانير (سبعة دولارات أمريكية) عن كل ساعة عمل في المنازل، إلا أنها ترفض العمل أقل من ثلاث ساعاتٍ في اليوم، حتى تتمكن من تأمين قوت يومها. وعلى الرغم من صعوبة تحصيل الدخل الكافي تساعدها التوصيات التي تحصل عليها من زبوناتها على الاستمرار في العمل المستقل الذي يعينها على التواصل مع أطفالها في أي وقت.
أعياد تلو أعياد
مرّت الأعياد تباعاً على هانا قبل انتقالها للعمل المستقل عام 2019، إذ كانت بعض العائلات اللواتي عملت عندها سابقاً تسمح لها بالاحتفال في عيد الميلاد رُغمَ اختلاف الديانة مع إعطائها كامل الحريّة بدعوة صديقاتها لصنع الحلوى والرقص، إلا أنَّ عائلاتٍ أُخرى كانت تمنعها من إجراء مكالمةٍ مع أُسرتها أو تفرض عليها ذَلك بعد إنهاء العمل من دون الأخذ بعين الاعتبار فرق التوقيت بين البلدين، وهو ما سهَّلَ عليها اتخاذ قرار الاستقلال بالعمل.
وعلى الرغم من صعوبة قرارها، فقد تمكنت من استئجارٍ منزلٍ وتحويله لبيتٍ يستضيف الفتيات غير القادرات على إيجاد عملٍ في الأردن أو اللاتي عانين من انتهاكاتٍ في أماكن عملهن، حيث توفر لهنَّ غُرفاً للنوم، كما تستمع لمعاناتهنَ في الغربة، وتقول: "طوال 11 سنة، لم أعرف عن وجود قريبتي في الأردن إلا بعد ثلاث سنوات، جئت إلى هنا ولم أكن أعرف أحداً ثم تمكنت من التعرّف على الجميع عبر (السوشيال ميديا)، لا أرغب بأن تعاني الفتيات مثلي معاناتي".
الأوقات الصعبة التي مرّت بها هانا ساعدتها على معرفة القوانين والتشريعات الأردنيّة الخاصة بالعمال، وانطلقت منها لمساعدة بقيّة العاملات في المنازل، وهو ما جعلها تلجأ مراتٍ كثيرةً لمراكز الدعم والمساندة القانونيّة إضافةً لتقديم الشكاوى لدى وزارة العمل. تتحدث عن هذا كله بثقة: "أخبرهم دوماً أن أصحاب العمل يعرفون حقوقهم جيداً، لكن لا أحد يلتفت لحقوقنا، نحن بشر ولسنا مجرد حيواناتٍ تعمل".
خوف وشرطة
لا تنسى هانا تلك اللحظات التي اختبأت فيها من الباعة المتجولين لاعتقادها بأنهم أفرادٌ من الشرطة يريدون القبض عليها بسبب تركها للعمل أو عدم امتلاكها جواز السفر أو تأخرها بالعودة إلى المنزل في يوم عطلتها. كان الخوف يحيط بها دوماً، في حين كان عدم إجادتها اللغة العربيّة عائقاً بينها وبين الآخرين.
ورغم كل ذَلك تمسّكت بموقفها تجاه الوظيفة التي جاءت من أجلها، فرفضت تعلّم الطبخ والعناية بالأطفال واكتفت بالتنظيف، تقول: "كان هناك الكثير من الأوقات التي احتجتُ فيها للحصول على دينارٍ واحد (1.41 دولار) إلا أنني لم أتلقَ أية مساعدة، لم أملك خياراً إلا أن أكون قوية!".
الكريسماس مرة أخرى
عام 2016 سافرت هانا للفلبين بعد غياب سبع سنواتٍ عن طفليها، ولم تكن قادرةً على قضاء الكثير من الوقت معهما، شعرت بنضوجهما ومحاولة تجنّب إظهارهما مشاعرهما حتى لا تشكّل عائقاً أمام سفرها، ولم يتسنَ لها في ذلك الوقت قضاء الكريسماس برفقتهما.
ورغم أن أعياد الميلاد التاليّة جاءت برفقة العديد من صديقاتها في الأردن، بدت خاوية وفارغة – كما تصفها- وراحت تراقب أجواء الاحتفالات في الفلبين عبر التلفاز، وتزيّن الشجرة وحدها خلال سبتمبر/أيلول كما اعتادت أن تفعل في بلادها.
كانت هانا تخرج لزيارة صديقاتها ويقمن معاً بالعديد من الفعاليّات، يقفزنَ قبل أن تصبح الساعة 12 صباحاً عشيّة يوم 25 لاعتقادهنَ بأن هذا يزيد من طولهن، ويجمعن 13 فاكهةً دائريةَ تيمّناً بالأسطورة التي تقول إنها تجلب الحظَّ الجيّد.
تحضّر الحلوى وتقوم بالرقص معهنَ وتبادل الهدايا قرب شجرة عيد الميلاد التي جهّزتها في منزلها. يعتقد الجميع بأنها تأقلمت مع العيش في الأردن، يرونها تبتسم عبر صفحتها الشخصيّة على موقع التواصل الاجتماعيّ فيسبوك، كما يراقبونها وهي ترتدي فستانها وتحتفل مع الأخريات، تقول: "لسنا سعداء، لا يمكنني أن أظهر للناس كم أنا وحيدة من دون أولادي الذين لا يمكنني مشاركتهما أكثرَ من مكالمة فيديو يختلف فيها التوقيت بين بلدينا، أرجو من سانتا دائماً أن يجلب لهما الصحة الجيّدة والسعادة".
من الأردن إلى الفلبين
تتحدث جوان (21 عاماً) وشقيقها جآن (18 عاماً) مع والدتهما هانا عبر مختلف تطبيقات التواصل الاجتماعيّ نظراً لانقطاع الاتصال المتكرر في ما بينهم، وهو ما يدفعهم للبحث عن أكثر من تطبيق للحديث عبره في كلّ مرة برغم انخفاض جودة الصوت وتشوّش الصورة.
"أحياناً لا يمكننا سوى الابتسام لها دون سماع صوتها"، بهذه الكلمات يلّخصان أعياد الميلاد التي مرّت عليهما دون والدتهما أثناء حديثهما مع رصيف22، لافتين إلى أنَّ سوء الانترنت وفرق التوقيت يحولان بينهما وبين الاحتفال مع والدتهما في الكريسماس، خاصةً أنها الشخص الوحيد الذي يرغبان برؤيته في كل مرة.
تقول جوان إنَّ غياب والدتهما شكَّلَ فارقاً في حياتهما، فقد كبرا بعيداً عنها، إلا أنهما لا يملكان أيَّ خيار سوى أن يكونا قويين ويعتمدا على نغسيهما بانتظار عودتها للاحتفال وإياها يوماً ما.
أما جآن فيروي عدم تقبّلهما غياب والدتهما في البداية حتى أنه كان يرفض الحديث معها أو إرسال صوره لها، "لكن التقبّل لم يكن خياراً، لقد أرادت والدتي إعالتنا وإن كان فراقها قاسياً علينا، إذ ليس هنالك خيار آخر"، بحسب تعبيره عن حالتهم.
تعود جوان لتؤكد دفء الكريسماس بوجود والدتهما الذي يحاولان الإحساس به عبر الاتصال بها مراراً وتكراراً ومحاولة البحث عن وقتٍ لقضائه معها، حتى ولو بضع دقائِق تبتسم فيها لهما ويبتسمان لها، في حين تحاول هانا جاهدةً العمل لإرسال هدايا الكريسماس لهما عبر سانتا كلوز المسافر من الأردن إلى الفلبين على شكل نقود، إلا أنها تعود وتتنهد قائلةً: "أريد أن نحتفل معاً في يومٍ ما، لكنني أنتظر إنهاءهما الدراسة حتى أتمكن من السفر خارج الأردن والاستقرار في الفلبين مرةً أُخرى".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...