"والله سمعنا عن الأتوبيس الجديد بس محدش فاهم حاجة، يعني هيلغوا المواقف بتاعت الدائري وهيكون في أتوبيس واحد؟ طيب دة هيكون زحمة جداً. أنا بطلت أركب المترو عشان زحمة، أروح ألاقيه على الدائري؟".
حيرة عصام عبده، في الخمسين من عمره، التي تنقلها كلماته تكاد تتكرر على ألسنة مئات الآلاف من سكان مناطق القاهرة والجيزة والقليوبية، المحافظات الثلاث التي تتشكل منها "القاهرة الكبرى" ويعتمد الملايين من فقرائها ومتوسطي الدخل فيها على "الميكروباص" في ظل ندرة المواصلات العامة.
في مايو/أيار 2020، أعلن الفريق كامل الوزير، وزير النقل المواصلات عن إلغاء سير عربات الميكروباص نهائياً فوق كوبري الدائري الرابط بين المحافظات الثلاث في نهاية ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وذلك ضمن خطة الوزارة لتوسعة وتطوير الطريق الدائري. تضمنت الخطة إلغاء الكباري الأهلية التي يستخدمها المواطنون لاستخدام المواصلات من فوق الكوبري، وكذلك إزالة منشآت وبيوت بجانبي الطريق.
وعليه، يفترض أن تخصص محطات لاستقبال الأتوبيس الترددي، المقرر له أن يحل محل آلاف من سيارات الميكروباص العاملة لخدمة السكان، وأن يبدأ عمل المحطات والأتوبيس مع مطلع يناير/ كانون الثاني المقبل، على أن يتم تخصيص حارتين في منتصف الطريق الدائري لسير الأتوبيسات الترددية العاملة بالغاز، بمعدل حارة لكل اتجاه.
يعتمد الملايين على مواصلات الطريق الدائري، إذ يعتبر عصب الحياة وسبيلاً للهرب من الزحام المروري الخانق داخل شوارع القاهرة الكبرى
عصب الحياة
بحسب بيانات وزارة النقل، يسير فوق الطريق الدائري (بدأ إنشاؤه 1986) قرابة 100 ألف سيارة يومياً، تنقل سكان محافظات القاهرة الكبري الثلاث، إلى جانب السيارات المتوجهة منها أو إليها من المحافظات الأخرى.
وتتنوع السيارات التي تستخدم الدائري في النقل والحركة ما بين السيارات الخاصة وسيارات نقل البضائع التجارية وتوزيعها، وسيارات نقل مشتقات البترول، وعربات السرفيس "الميكروباص" الذي يستخدم في حركة تنقل الموظفين والعمال والطلبة.
يتفرع الطريق غلى جزئين: الدائري الغربي، ويصل إلى مدينة السادس من أكتوبر شمال غربي الجيزة وصولاً إلى طريق الواحات، مروراً بمحور المنصورية الذي يصل إلى اللبيني والمنصورية وطريق سقارة ومحور المريوطية. فيما يصل الدائري الشرقي (الجزء الثاني) إلى محور 26 يوليو وأحمد عرابي، وكرداسة وصفط اللبن، وبهتيم ومسطرد والمرج ومدينة السلام وصولاً إلى التجمع الخامس من جهة ومشارف مدينة العبور من الجهة الأخرى.
يعتمد الملايين على الطريق الدائري، إذ يعتبر عصب الحياة وسبيلاً للهرب من الزحام المروري الخانق داخل شوارع القاهرة الكبرى. وما بين التخوف والترحاب اختلفت آراء المعتادين ركوب الميكروباص حول خطط إلغائه.
زيادة أعباء
يعمل عصام عبده، عامل بناء، ويعيل أسرة مكونة من خمسة أفراد وزوجته، يقول لرصيف22: "أنا بنزل من البيت أركب توكتوك يوصلني للدائري بيكلفني 3 جنيه وساعات بتمشاها، من هناك بركب للشغل في أكتوبر بـ 6 جنيه، دا غير مواصلات الأولاد. بيتهيألي الأتوبيس الجديد هيكون سياحي، اللي هو التذكرة مش أقل من 15 -20 جنيه، يعني أدفع 3 أضعاف. طب ليه؟ أنت بتحملني فوق طاقتي، يعني في عز حالة الغلاء اللي بنعيشها عايز تحملني أكتر في المواصلات".
لكن لمشكلة أسرة عبده مع القرار بعداً آخر، إذ إن دخل الأسرة لن يتأثر فقد بزيادة التعرفة المطلوبة يومياً للمواصلات، وإنما قد يفقد أحد أفراد الأسرة مصدر رزقه. يتساءل عبده: "أنا ابني سواق ميكروباص، خط مؤسسة – أكتوبر، لما تلغي خط السير دة هو هيشتغل إيه؟ ومتجوز وعنده عيال. أنا نفسي الحكومة تبص علينا بس بنفحت في الصخر عشان نأكل عيالنا، وبعدين محدش فاهم إيه الأتوبيس الترددي دة ولا هيقف فين والمحطات والتكلفة، بس الحكومة عارفة".
مواطنون وسائقي ميكروباص عن الأتوبيس الترددي الجديد: محدش فاهم حاجة
استعادة الإخفاقات
في ورقته البحثية التي حملت عنوان «الظلم الاجتماعي الناجم عن النقل: النموذج المصري»، يشير الباحث معتز محمد أستاذ مساعد الأنظمة الذكية والنقل في قسم الهندسة المدنية، جامعة ماكماستر، كندا، إلى أن المخاوف من ضلوع الدولة المصرية من خلال وزارة النقل في إنشاء شبكة مواصلات تابعة للدولة، من دون خطة وهيكل إدارة حديث، يهدد بانتهاء مصير تلك الشبكة إلى ما انتهت إليه الشبكة التي أنشأتها الدولة في الخمسينيات.
بحسب الباحث، فإن الخطة الجديدة تعيد فيها الدولة نموذج احتكار سوق خدمات النقل. منوهاً بأن المشروع الذي بدا واعداً للوهلة الأولى (يقصد مشروع الخمسينيات) أصيب بالعديد من الإخفاقات مع التطور الذي تشهده خدمات النقل حول العالم، إذ وفر وسائل نقل بتسعيرة مخفضة صاحبتها رداءة في الخدمة ذاتها، فضلاً عن اقتصار الشبكة على المناطق الحضرية في معزل عن المحافظات والأقاليم.
وأشار الأستاذ المساعد للأنظمة الذكية والنقل إلى تغير جذري في منظومة النقل بالتزامن مع الانتقال إلى اقتصاد السوق المفتوح في أواخر سبعينيات القرن الماضي، ودخول القطاع الخاص إلى سوق النقل حيث عمد إلى سد الفراغات الكبيرة التي خلفتها منظومة النقل العام التابعة للدولة، وظهرت وسائل النقل الخاصة "الشاحنات، والميكروباصات"، وحلت بدورها محل الحاجة إلى خدمة النقل بالنسبة للطبقتين العليا والمتوسطة على السواء، مما دفع إلى تطور الخدمة وتنوعها.
معضلة سائقي الميكروباصات
لا يخفي سائقو الميكروباصات مخاوفهم من قرار منع وجود الميكروباص أعلى الدائري، خاصة أن البعض منهم يعتمد اعتماداً كليَّاً على ما يحصله من الميكروباص كمصدر وحيد لدخله ودخل الأسرة.
يقول سعد محمد، سائق ميكروباص على خط "المنيب – زهراء مدينة نصر": "سمعنا عن موضوع منع الميكروباص من على الدائري، وهيكون فيه ـتوبيس كهربا، طيب إحنا هنعمل ايه؟ أمال هما وسعوا الطريق الدائري وبقى 7 حارات ليه؟ عشان الأتوبيس يمشي فيه لوحده يعني؟". يؤكد محمد أن المسؤولين في وزارة النقل أو أجهزة الحكم المحلي في القاهرة والجيزة (المحافظتين اللتين يتنقل بينهما) لم يهتم اي منهم بالتواصل مع سائقي الميكروباص لشرح الأوضاع أو الخطط التي تعتزمها السلطات لضمان استمرار مصادر أرزاقهم بعد منعهم من السير فوق الدائري.
لهذا يبدو القرار بالنسبة إلى سعد "غير واضح". يقول: "محدش بيجاوب على أسئلتنا". ويتابع: "يعني هي الدولة بتفكر في الطريق ومش بتفكر في الناس؟ أنا راجل عندي 3 عيال، شغال كومسيون على الميكروباص (مناوبة) باخد 150 جنيه مقابل شغل 9 ساعات. لما أقعد في البيت هأكل عيالي التلاتة منين؟".
ويختم: "بص من الآخر! الدولة محتاجة الميكروباص دة زي ما أنا محتاجه وحضرتك محتاجه. أنا أجرتي من المنيب للزهراء 6 جنيه، الأتوبيس الكهربا دة مش هيكون أقل من 15 جنيه إن مكانش أكتر. هو المواطن الغلبان اللي بيروح شغله بـ 6 جنيه رايح و6 جنيه راجع، بدل ما يدفع 12 جنيه رايح جاي، هيدفع 30 جنيه؟ هي الناس لاقية تاكل؟ ولا هتوفر من قوتها وقوت عيالها عشان المواصلات؟".
الأتوبيس الترددي
في إطار خطة تطوير الطريق الدائري لـيستوعب "الترددي الجديد، تمت إزالة قرابة 1200 عقار لتوسعة الطريق، وحصلت بعض العائلات على تعويض مالي عقب إزالة العقارات التي تؤويهم، إذ قدّرت الحكومة الغرفة بـ 40 ألف جنيه، فيما تمت إزالة المباني التي تمثل تعدياً على أملاك الدولة، ونقل سكانها إلى مناطق الإسكان الاجتماعي التي تواصل الدولة إنشاءها من دون تعويض مادي.
تأتي تلك الخطة التي تحملت الدولة فاتورة ضخمة لتنفيذها (بلغت ثمانية مليارات جنيه)، من أجل زيادة سيولة المرور فوق الطريق الدائري وفق خطة ضمن بنودها الاعتماد على الأتوبيس الترددي أسوة بمدن أخرى حول العالم لجأت إليه حتى بات ينقل قرابة 32.2 مليون راكب يومياً حول العالم.
وبحسب المعلومات المتاحة عن الأتوبيس الترددي على الطريق الدائري، فإنه سوف تتم إزالة المواقف العشوائية المنتشرة على جانبي الطريق الدائري واستغلال أسفل الدائري بشكل استثماري في مشروعات أو مقاه.
وسيكون السير على الدائري مقتصراً على سير السيارات الملاكي والأتوبيس الترددي السريع، إضافة إلى سير سيارات النقل خ من الساعة 12 منتصف الليل حتى السادسة صباحاً.
ملوك الطريق
وئام مصطفى، صحافية في العقد الثالث من العمر، تعمل في أحد المواقع الإلكترونية في حي الدقي، وتعيش في مدينة الخصوص المنسوبة إدارياً وجغرافياً لمحافظة القليوبية، إذ يحدها الطريق الدائري وترعة الإسماعيلية من الشرق، وشارع شركات البترول فى مسطرد من الشمال، وحي المرج من الجنوب والغرب، ويمثل موقف مدينة السلام وسيلة المواصلات الأمثل للتحرك من الخصوص إلى الوجهات المختلفة بالقاهرة والجيزة.
قالت وئام التي يصل راتبها إلى ثلاثة آلاف جنيه مصري لرصيف22: "بحكم شغلي باتحرك في أماكن كتيرة. بركب الميكروباص لموقف مدينة السلام اللي فيه مواصلات لكل المناطق التانية، أحيانا بروح مصر الجديدة - التجمع - مدينة نصر - المترو - المنيب- اكتوبر، وكلهم بيعتمدوا على الطريق الدائري".
وعبّرت عن تخوفها من الأتوبيس الترددي قائلة: "الميكروباص بالنسبالي أفضل، لأنه أول حاجة أسرع وبينجز الوقت. تاني حاجة الأتوبيسات اللي هتنزل دي خط معين وبتقف في محطات معينة، لما الميكروباص هيتلغي إحنا هنركب إيه ونروح الشغل إزاي؟ إحنا الطريق الوحيد فعلاً بالنسبة لنا الدائري".
ترسم وئام سيناريوهات منطقية للمستقبل: "هنضطر نلجأ للتوكتوك مثلا عشان يوديك المحطة اللى هيقف فيها الباص، شوف هياخد كام؟ تاني حاجة الباص دة أقل حاجة بـ ١٥ جنية عشان أركبه من بيتى لموقف السلام، كنت بادفع في المسافة دي ٣ جنيه ونص من عند البيت، أنا كدة هدفع فلوس أكتر، وهركب أكتر من مواصلة، فين الفايدة اللي عادت عليا؟ هو تم توسيع الدائري بالشكل دة ليه؟ مش عشان الزحمة والحوادث. طيب يقنن مثلاً الميكروباص إنه يمشي في الحارات اليمين ويعمل مخالفات".
مزايا كثيرة وخطة غائبة
هناك أسباب دفعت وزارة النقل لتبني الأتوبيس الترددي، بحسب تصريحات مسؤولين في وزارة النقل، فهو وسيلة "أسرع وأنظف ويسهل الوصول إليها"، وارتفاع جودة الخدمة المقدمة من خلاله، فضلاً عن تقليل وقت التنقل بين المدن، عدا تحسين الربط بين المجتمعات العمرانية الجديدة في القاهرة الجديدة ومدينة 6 أكتوبر ووسط القاهرة والجيزة.
وتواصل رصيف22 مع مسؤولين بالأجهزة المحلية لمحافظتي القاهرة والجيزة، على رأسهم اللواء عاطف غالي، مدير جهاز السرفيس بمحافظة القاهرة. إلا أن مسؤوليْن وافقا على التحدث إلينا شريطة عدم ذكر اسميهما، اتفقا على أنه لا توجد خطة لدى المحافظتين بشأن التصرف في مواقف السرفيس القائمة (تتبع المحافظات وأجهزة الحكم المحلي) أو مصائر عربات الميكروباص العاملة بالفعل لخدمة سكان المتطاق حول الدائري. كما اتفقا أنه لا توجد معلومات عن الأتوبيسات الجديدة ومساراتها إلا لدى وزارة النقل، التي رفض مسؤولها الرد أو التصريح.
يبقى أن المميزات المرحب بها للأتوبيس الترددي، لم تٰعلن بموازتها خطة للحركة أو استيعاب واقع انخفاض الأجور، واضطرار السكان في المناطق التي ينتظر ان يخدمها هذا الأتوبيس لاستقلال أكثر من وسيلة نقل في سبيل الوصول إلى وجهتهم، ما يجعل محصلة الأوتوبيس هماً اقتصادياً لسكان المناطق الفقيرة المحيطة بالدائري وقطع لأرزاق السائقين والعاملين على نحو خمسة ملايين سيارة ميكروباص تجوب شوارع القاهرة الكبرى لتعوض فشل منظومة النقل العام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين