فستان طويل مُزخرف بفتحة تُمهّد للحكايات الجميلة بخباياها، والساق تنساب منها بما يُشبه الدعوة، تستدرجنا للعودة إلى الأنوثة. فستان مُسيّج بما يُشبه الورود، وكأنه مصنوع من الساتان، والطريق إلى دمشق التي تعقص شعرها بدلال العاشقة، محفوفة بالنوادر، وأحمر الشفاه مرسوم بعناية. والشعر المجعد "الجامح" بإطلالته، يميل إلى الشقار، والمعادن قصة حب تتحوّل منحوتات ناعمة بقسوتها.
شرسة بإنسيابها المُخملي، تروي بعض فصول من حياة لا بد من أن نعيشها ذات يوم، ولو عن طريق الخطأ.
أعمالها قاسية بنعومتها، تحمل عنوان: "صورة تذكارية"، وتطل في معرض تستضيفه فُسحة "ميشون آرت" البيروتية، القائمة في منطقة مار مخايل التي تُحاول جاهدة أن تقف على رجليها بعد الإبادة الجماعيّة التي تعرّضت لها في الرابع من آب.
صفاء الست
صيف تلك السنة
صفاء الست تعشق الحديد. هذه المادة الجافة والقاسية تُرافق الفنانة منذ رقصتها الأولى مع الفن.
يستهويها التركيب، بحسب ما تروي لي في دردشة معها في الفسحة التي حوّلها توفيق الزين وغيّاث المشنوق، لمُلتقى أنيق للأعمال التي لا وقت لديها لتُساير الاتجاه السائد.
والعمل النحتي الذي إتخذته هذه الFemme Fatale أسلوبها في مواجهة الحياة، يطل في خانة العمل التركيبي، وفي العمل التركيبي، المادة الأكثر انسجاماً مع جنون الفنان هي الحديد.
"ومع الوقت صرت أضيف بعض المواد الأخرى: النحاس، الرخام... هيك شغلات. ولكن الحديد يبقى الأساس".
منحوتات صفاء الست تصف اللحظات العادية والأخرى المؤلمة، بدراماتيكيّة باردة بفعل الحديد القاسي الذي يصعب تطويعه، أو ربما يسهل تطويعه، لاسيما مع مرور الوقت، ويُقال إنه مع الوقت، نُصبح أكثر قدرة على تطويع كل ما يتباهى بالقسوة
الشرارة الأولى كانت في الطفولة
تضحك قائلة: "البنات كانوا يلعبوا بالباربي، وأنا بالميكانو (المواد الميكانيكيّة)". درست الإعلان متخصصة بالرسوم البيانيّة (الجرافيك)، وتخرجت من أكاديمية الفنون الجميلة في جامعة دمشق في 1997. وعندما قدم الطلاب معرض "ميرو بثلاثة أبعاد" الجماعي (1994) مع الفنان التشكيلي السوري أحمد معلا، "تعلّمنا كيفيّة العمل مع يدينا. نركّب. نساوي. معرض (ميرو) كان شي رهيب. كانت تجربة رائعة. فأنا كانAlready عندي ياها، وخلص فتت". فكان المعرض المُنفرد الأول والثاني والثالث... والحديد رفيق كل الأيام، يروي بعض فصول من حياة قد يأتي يوم نعيشها "بالطول وبالعرض".
ومعرض "صورة تذكاريّة" الحالي، يروي مشاهد عابرة من يوميّاتنا الثقيلة، يومياتنا البسيطة، والعمل التركيبي يُلازم صفاء الست كطيفها، والفستان الطويل المُزركش بالألوان، يروي يوميّات الأنوثة، وفتحة الصدر تشي بال"غلامور" (Glamour)، والقليل من اللامبالاة، من فضلكم.
والمعارض الأولى انحصرت داخل سوريا، وبعدها استقبلت عشرات البلدان المواجهة العنيفة بين الأنوثة والحديد. وكانت المعارض الفنيّة العالميّة سعيدة بانسياب فتحة الصدر الرمزيّة بين ثنيات المنحوتات التي تروي يوميّات عاديّة والموت والحرب ونضال المرأة وأناقتها وهي تواجه القدر بمفردها أحياناً.
الحديد ليس مادة فقط قاسية، بل هي مزاجيّة أيضاً "فوق الدكّة"، ولكن السنوات الـ20 التي أمضتها صفاء الست حتى الساعة مع القسوة والمزاجيّة، علّمتها الكثير
وشراسة الحديد وصلابته تحضنان العصافير المُنهمكة بزقزقاتها الطربيّة، ومقاعد تلك الجُنينة المصنوعة من شوق وطيف أحاديث الهوى العابثة بقلب العاشق.
وصفاء الست، المولودة في حمص، تقطن اليوم دمشق، ومحترفها، "للأسف، تغيّر كثيراً مع الأيام". وصفاء استقرّت "في كذا Atelier"، وكان ريف دمشق حديقتها السريّة. بما أن عملها يُشبه إلى حد كبير، عمل الحدّاد، "فيو كتير أصوات. فيو إزعاج. فيو روايح. فنحن ممنوع نشتغل بقلب البلد. كانت ورشتي بزملكا. وزملكا وقت الحرب انضربت. وبعد 10 سنوات فيها، تركتها واستقرّيت وسط الشام. في سوق المناخلية والنحاسين، حيث العلاقة المباشرة مع المواد التي أتوسلها. كل الأعمال اليدويّة، الحلوة بالشام، كنت بيناتها".
مجتمع رجولي، وذكوري "بطريقة خُرافيّة. ما كان في غيري بنت يعني بيناتهم".
في البداية، "ما قبلوني. إنّو مين هي؟ وبعدين كتير حبّوني. صرنا كتير صحاب. إيام حلوة. حلوة كتير بصراحة".
حان الوقت للانتقال مجدداً
لتكون إلى جانب الحدّاد "يالّلي ما بستغني عنّو، هوّي إيدي اليمين. يعني ما قدر يطلع من ورشتو من وين ما هوي بيسكن فرحت لعندو"، لفترة قصيرة، والعودة اليوم مجدداً إلى قلب الشام، المناخلية... النحاسين.
ومن هذا المنطلق، فإن محترفها الخاص لا ينحصر في إطار "أي مكان محدد"، وفي الورشة (المحترف)، لا ترسم الاسكتشات قبل الانتقال إلى عمليّة تطويع الحديد واللهو مع النحاس والخردة.
ومنحوتات صفاء الست تصف اللحظات العادية والأخرى المؤلمة، بدراماتيكيّة باردة بفعل الحديد القاسي الذي يصعب تطويعه، أو ربما يسهل تطويعه، لاسيما مع مرور الوقت، ويُقال إنه مع الوقت، نُصبح أكثر قدرة على تطويع كل ما يتباهى بالقسوة.
وها هي الساق تنزلق من فتحة الفستان الطويل الذي ربما كان مصنوعاً من الساتان، والأنوثة الحرّة والحارة تغوي المواد الباردة، وتبدأ عمليّة التركيب والتلحيم.
العمل قد يتطلّب "يومين أو شهر"، ليقف مهيوب الطلّة أمام الزائر، والظروف التي تُحيط بها تُحرّكها، تستفز أنوثتها، تُحرّك إنسانيّتها، تستدعي ثورتها، وصفاء الست صارت تعرف جيداً كل أسرار مادة الحديد.
وهذه المادة ليست فقط قاسية، بل هي مزاجيّة أيضاً "فوق الدكّة"، ولكن السنوات ال20 التي أمضتها صفاء الست حتى الساعة مع القسوة والمزاجيّة، علّمتها الكثير.
مادة قاسية و"مطواعة" في آن. وصفاء الست اقتحمت ثنايا مزاجها، والحرب مرّت من هنا، سارت يداً بيد مع اليوميّات العاديّة، وتركت أصابع حقدها على روح الفنانة، والفن يسمح لها بأن تروي كل انفعالاتها وخضّات كيانها، "وإلا كنت طقّيت".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...