شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
الكون كرقصة مقدسة... الإنسان الإلهي في الدائرة الوجودية

الكون كرقصة مقدسة... الإنسان الإلهي في الدائرة الوجودية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 16 ديسمبر 202110:00 ص

في أكثر من لهجة عربية نجد كلمة "الشَّطْح" ترادف "الرقص"، وعند الصوفية فإن الشطْح هو "عبارة مُستَغربَة في وصف وَجْدٍ فاضَ بقوتِه وهاجَ بشدةِ غليانهِ وغَلَبَتِهِ"، بحسب تعريف الصوفيّ الشهير أبي نصر السراج الطوسي، في كتابه "اللمع".

ويحدث هذا الشطح (الكلام المُستَغرب) في لحظة اتحاد الصوفي بالله بعد مجاهدة روحانية حارقة، وهي أسمى وأعظم حال يصل إليه.

وإذا ما قاربنا المعنيين يمكن القول بأن الرقص الصوفي هو نتاج مجاهدة روحانية تصل بالمُريد إلى الشطح الجسماني، فبدلاً من الشطح بالكلام يشطح بجسده؛ فقد يفيض الوجد وتحترق الروح ولا تجد النفس كلاماً على قدر ما تحمله، فيهيج الجسد راقصاً منصاعاً للطاقة الناتجة عن احتراق روحه.

والرقصة المولوية (الدائرية) الخاصة بالطريقة التي أسسها مولانا جلال الدين الرومي، ليست مجرد تنفيس روحاني لوجد فاض بالصوفي الذي يعيش تجربة اتحاد، وإنما أيضاً محاكاة أو تعبير عن فلسفة عميقة، ألقت بظلالها على عدة مدارس صوفية، بل تجاوزت الظلال إلى الجذور نفسها.

هي فلسفة الدائرة التي يتوسطها مركز، هي هذا الشكل الهندسي المقدس الذي يقترب من شكل الكعبة وصحنها في مكة، وشكل الكرة الأرضية، والأفلاك التي تدور حول الشمس، وأخيراً، هي شكل العلاقة بين الله والكون والإنسان، كما سنوضح.

في هذه المقالة نحلل الرقصة المولوية الدائرية ودلالاتها، ثم نخوض في الفلسفة الصوفية للدائرة نفسها من خلال كتابات ابن عربي وإخوان الصفا والحلاج، وغيرهم.

الرقصة المولوية (الدائرية) الخاصة بالطريقة التي أسسها مولانا جلال الدين الرومي، ليست مجرد تنفيس روحاني لوجد فاض بالصوفي الذي يعيش تجربة اتحاد، وإنما أيضاً محاكاة أو تعبير عن فلسفة عميقة، ألقت بظلالها على عدة مدارس صوفية

رحلة للطهارة والحب والاتحاد بالله

الرقصة المولوية هي الجزء الأهم والأكبر من مجلس السماع الخاص بالمولوية، والذي يبدأ بغناء قصيدة "الناي" للرومي، والتي ترمز إلى روح الصوفي المشتاقة للاتحاد بالذات الإلهية، كما يحن الناي إلى شجرة الغاب التي قطع عنها، والتي تقول: "أنصت إلى الناي يحكي حكايته"، ومن ألم الفراق يبث شكايته: "منذ قطعت من الغاب/ والرجال والنساء لأنيني يبكون/ أريد صدراً مزقه الفراق/ لأبوح له بألم الاشتياق/ فكل من قطع عن أصله/ دائماً يحن إلى زمن وصله".

وبعد مجموعة طقوس، تبدأ الرقصة على موسيقى بَطَلُها "الناي"، فهو ليس مجرد رمز لمعنى في القصيدة المذكورة، ولكنه أيضاً صوت مادي ينبعث من تلك الآلة المركزية في موسيقى الرقصة المولوية.

بل إن طريقة عزف الناي هنا تُوظّف لترسيخ معنى الدائرة – وإن لم نتأكد من تعمُّد ذلك- فالعازف يؤدي بأسلوب الليجاتو الانسيابي، الذي وإن تَعرَّج أو انحنى لكنه لا يتقطَّع، ويبقى متصلاً كما اتصال الدائرة، حسبما رصدنا.

خلال الرقصة نحن أمام مجموعة دوائر، الأولى هي حلبة الرقص الدائرية وفيها يقف الشيخ، ومن حوله مجموعة دوائر وهمية، كل دائرة يتوسّطها درويش يدور فيها حول نفسه في اتجاه عكس عقارب الساعة، جهة دوران الحجاج حول الكعبة، إضافة إلى شكل الجزء السفلي من ملابس الدراويش فهو دائري أيضاً.

ومجموع الدوائر يكوّن دائرة كبيرة حول الشيخ، الذي وإن كان لا يتوسط هذه الدوائر بشكل دقيق أثناء الرقص، إلا أنه مركز جذب وقائد للرقصة ومجلس السماع عموماً.

وكأننا أمام المجموعة الشمسية الفلكية؛ فالشمس هي المركز وتدور حولها الكواكب، وكل كوكب يدور حول نفسه، كما قال الرومي حين سؤل: لأي شيء تخرج وتدور؟ فأجاب: "لفلك إذا فقد شمسه يدور ليتخلص من ظلمة الفراق"، حسبما جاء في "روح البيان" للصوفي الشهير إسماعيل البروسوي.

فكما يعزف الناي دائرياً آملاً في اتحاده بشجرة الغاب التي قطع عنها، وتدور الكواكب مشتاقة لاتحاد بالشمس التي كانت جزءاً منها قبل الانفجار العظيم، يدور الدرويش حول نفسه ساعياً لاتحاد روحه بربه الذي نفخها فيه، "فكل من قطع عن أصله دائماً يحن إلى زمن وصله".

في الرقصة المولوية تتجلى فلسفة الدائرة التي يتوسطها مركز، هي هذا الشكل الهندسي المقدس الذي يقترب من شكل الكعبة وصحنها في مكة، وشكل الكرة الأرضية، والأفلاك التي تدور حول الشمس، وأخيراً، هي شكل العلاقة بين الله والكون والإنسان

إذاً، نحن أمام مفهومين مرتبطين ببعضهما، أو يمثلان نتائج لبعضهما، وهما "الاتحاد" و"الدائرة"؛ أي أن للدائرة ووضعية الدراويش وشيخهم فيها دلالة رمزية على علاقة الله بالإنسان، يمكن وصفها بتعبير إليف شافاق في روايتها "بنات حواء الثلاث": "في موضوع الرب، لابد أن يكون النقاش في دائرة، بحيث يبعد كل فرد في محيطها مسافة متساوية عن المركز".

فالشيخ الذي يدور حوله الدراويش قبل بدء الرقصة هو رمز نور الله أو خليفته، والدراويش سواسية في مسافة القرب منه، كما المسافة بين الله وعباده، فهو عادل بين الجميع، ويرحب بدورانهم جميعاً حوله حنيناً إليه.

هذه القداسة تستدعي طقوساً خاصة استعداداً للرقصة، تشبه الوضوء الذي يسبق صلاة المسلم، ومنها نزع العباءة السوداء التي يرتديها الدرويش فوق لباسه الأبيض، ما يعني التطهر من الآثام التي يرمز لها لون العباءة، ويبقى الدرويش بالأبيض رمز النقاء والطهر.

وقداسة الرقصة لا تأتي من مفهوم الدائرة فقط والذي سنتوسع في شرحه خلال المقال، ولكن من رمزية الحركات التي يؤديها الدرويش مع الدوران -وعددها 10- بوجهه ويديه ورجليه ووضعيات جسده.

الشيخ الذي يدور حوله الدراويش قبل بدء الرقصة هو رمز نور الله أو خليفته، والدراويش سواسية في مسافة القرب منه، كما المسافة بين الله وعباده، فهو عادل بين الجميع، ويرحب بدورانهم جميعاً حوله حنيناً إليه

تبدأ الحركات بما يَرمُز إلى وعد الدرويش لله بالتوبة والبدء في الحب، وتنتهي بالدعاء بطلب الرحمة، مروراً بحركات تدل على توحيد الله واستنشاق الطاقة الإلهية، التحرر من الشر، نشر الخير في العالم وملء النفس بجمال الكون.

وبعد الحركة العاشرة يتوقفون، ليعود الدرويش من رحلته ولقائه بربه إلى عالمنا، وهو ساكن الوجه مفتوح اليدين رافعهما إلى أعلى، محدثاً الكون عن رحلته الساحرة، ثم يجلس ليستمع إلى صلوات على النبي ثم ترتيل للقرآن.

قد تحدث اختلافات بسيطة في هذا الترتيب وهذه الطقوس، ولكن ما ذكرناه هو الغالب، بحسب دراسة بعنوان "سيميائية الرقصة في الطريقة الصوفية المولوية" لراضية بوالزيت ونوال لخلف.

الدائرة المقدسة: تكوين الكون وشكله وقانون عمله

قداسة الدائرة في الفلسفة الإسلامية لا تقتصر على الرومي، وإن حدث تباين نسبي في تناولها؛ فبعض المدارس كمدرسة ابن عربي استخدمتها لتقريب فهم آلية الحياة والعلاقات بين الله والكون والإنسان، وبعضهم فهمها بشكل يتجاوز التشبيه إلى التطبيق المباشر على شكل الحياة وطبيعة عملها كإخوان الصفا، وبعضهم تعمّق إلى تكوين الدائرة نفسها لخدمة مفهوم وحدة الوجود، وإعطاء قداسة أكبر للإنسان، كالحلّاج الذي تلتقي فلسفته مع الرومي ورقصته، كما سنبيّن.

ابن عربي وعالم يتشكل من 4 دوائر

في كتاب "إنشاء الدوائر" تخيل الشيخ الأكبر ابن عربي الله والكون والإنسان على هيئة 4 دوائر، أوسعهم وأشملهم دائرة "الحضرة الإلهية" المهيمنة على كل شيء.

وتلي الحضرة الإلهية دائرتين للإنسان، وبداخل دائرتي الإنسان تقع دائرة العالم المستخلف عليه الإنسان.

الشكل كما جاء في كتاب إنشاء الدوائر

دائرة الإنسان الأولى التي تلي الدائرة الإلهية هي "حضرة الخلافة الإنسانية"، وفيها "مضاهاة الإنسان للحضرة الإلهية" أي الإنسان الكامل خليفة لله، الذي تكلم عنه ابن عربي كثيراً، وله نظرية مشهورة فيه.

وبداخل "حضرة الخلافة الإنسانية" توجد دائرة إنسانية أقل وهي دائرة "مضاهاة الإنسان عالم الكون"، وبها يقترب الإنسان من عوالمه الأرضية ويبتعد عن الحضرة الإلهية، حيث تشمل هذه الدائرة الأصغر "الإنسان وطبيعة العالم، وجسمه وجوهره، ولونه وصفته، جهاته وما أشبه ذلك".

قداسة الرقصة المولوية لا تأتي من مفهوم الدائرة فقط، ولكن من رمزية الحركات التي يؤديها الدرويش مع الدوران -وعددها 10- بوجهه ويديه ورجليه ووضعيات جسده

وبداخل دائرة الإنسان الثانية، توجد الدائرة الرابعة التي استخلف الله الإنسان عليها، وهي دائرة العالم المقسم إلى 4 عوالم، وهي:

- "قائم بنفسه غير متحيز كالعقول المفارقة"، وهي الموجودات المجردة عن المادة الروحانية، كالملائكة والجن.

- "قائم بنفسه متحيز كالأجسام والجواهر"، وهي كل ما له حيز وشكل وطبيعة جسمانية.

- "قائم بغيره متحيز كالأغراض"، وهي أشياء لا تقبل التحيز بذاتها، ولكنها تأخذ حيزاً من الوجود عن طريق غيرها، كالألوان (البياض والسواد) التي ترى برؤية ما تلون بها.

- "لا قائم بنفسه ولا بغيره ولا متحيز ولا لا متحيز ولا معدوم ولا لامعدوم..."، وهي النسب والعلاقات بين ما ذُكِر في العوالم الثلاثة الأولى، كالأين والكيف والزمان والعدد والمقدار وغيرها من أمور معنوية لكنها تنعكس على الوجود المادي.

إخوان الصفا وآخرون: الدائرة شكل وقانون كوني

 في رسائل إخوان الصفا نجد الدائرة هي شكل الكون وكذلك آلية عمله؛ فالكون لديهم عبارة عن مجموعة دوائر تحيط ببعضها بعضاً؛ أكبرها دائرة "الأمر الإلهي" أو "الدائرة الإلهية" التي تحيط بدائرة العقل الجامع أو الكلي، والذي يحيط بالروح الجامعة أو الكلية، وفي الداخل تحت فلك القمر تقع دائرة عالم الإنسان.

وكما يتكون العالم اللامرئي اللافيزيائي من دوائر، فإن عالم الطبيعة لديهم يتكون أيضاً من دوائر "ففي عالم الأفلاك والأجرام السماوية، الكل يدور بانتظام داخل دوائر متداخلة"، وأحوال الكائنات على الأرض "كالكرة، ومن ذلك أن أكثر ثمار الأشجار وأوراقها وحَب النبات ونور أزهارها كُرِيَّات الأشكال أو مستديرات".

كل مشتملات هذا الكون، ملموسة أو متخيلة، معنوية أو مادية، تعمل أيضاً بشكل دائري "يعطف أوائلها على أواخرها، مثل دوران الزمان من الشتاء إلى الربيع، ومن الربيع إلى الصيف، ومن الصيف إلى الخريف، ومن الخريف إلى الشتاء... وهكذا دوران الليل والنهار... وكذلك حكم دوران مياه الأنهار والبحار والغيوم والأمطار فإنها كالدولاب الدائر..".

وكذلك حياة الإنسان دائرية، أي تنتهي من حيث يبدأ؛ حيث يبدأ من النطفة ثم ينشأ ثم ينمو حتى يبلغ وتتولَّد منه النطفة، فيشتهي العَودة إلى حيث خرج لقضاء شهوته، وبالتالي ينتج إنساناً مثله. وكذلك يبدأ الإنسان طفلاً ناقص القوة ضعيف البنية، ثم يتزايد إلى أن يبلغ أشُده، ثم يبدأ في النقص إلى أن يُرَدَّ إلى أرذل العمر ضعيفاً كالطفل.

فلسفة الدائرة عند إخوان الصفا كان لها صدى لدى صوفية الأندلس، ففي القرن الخامس نجدها عند ابن السيد البطليوسي صاحب كتاب "الدوائر الوهمية" المعروف باسم "كتاب الحدائق"، وعند ابن برجان في "شرح أسماء الله الحسنى".

النقطة الإلهية ودائرة الوجود الواحد المكتمل

لاحظنا أن فكرة الدوائر عند ابن عربي وإخوان الصفا، كانت وسيلة لرسم شكل العالم أو لقانون عمله، أما الحسين بن منصور الحلاج، الذي ربما سبق الإخوان وبالتأكيد سبق ابن عربي، فأخذنا لما هو أعمق، حيث تناول تكوين الدائرة نفسها.

فالنقطة عنده هي نواة الكون ومركزه، هي السر الإلهي الساري في الموجودات، فهي "الأصل لا يزيد ولا ينقص ولا يبيد"، ومن مجموع النقاط تتكون الدائرة، وإذا فقدت نقطة انقطع محيط الدائرة واختلّ الكون، حسبما نفهم من "الطواسين".

"والنقطة التي في وسط الدائرة هي الحقيقة، ومعنى الحقيقة شيء لا تغيب عنه الظواهر والبواطن ولا تقبل الأشكال"، من هذا الاقتباس يمكن أن نفهم أن النقطة عنده هي الأصل الإلهي، وأن الكون هو الدائرة التي تتكون من هذا الأصل، وبدون الأصل (النقطة) فلا دائرة ولا كون؛ فـ"علم الحقيقة حَرَمِيٌّ، والدائرة حرمه".

وإذا ما طبقنا مفهوم الحلاج على رقصة المولوية، سنجد أن كل درويش يمثل نقطة، واتصال هذه النقاط يكوّن الدائرة، فكل درويش هو نقطة تجلٍّ إلهية، ومن مجموع هذه التجليات تتكون الدائرة المولوية، التي ترمز إلى الوجود الواحد المكتمل.

ويدعم فرضيتنا مقولة جلال الدين الرومي في "الرباعيات": "أيها البشر الأتقياء التائهون في هذا العالم، لِمَ هذا التيه من أجل معشوق واحد؟ ما تبحثون عنه في هذا العالم، ابحثوا عنه في دخائلكم فما أنتم سوى ذلك المعشوق".

وهواة التقريب والتوفيق يحبون الربط بين عبارة الرومي وفلسفة النقطة، وبين الحديث القدسي الشائع لدى المتصوفة: "ما وسعني لا سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image