"عدد هائل من الجماهير المنفية لم يقاوم أبداً هذا النفي، ويجهل السبب الحقيقي والمشؤوم لهذا الإبعاد معتبراً إياه إجراء محتوماً لظروف الحرب، لقوا حتفهم جوعاً وبؤساً في الطريق".
هذه الكلمات مقتبسة من كتاب أمير جلادت بدرخان بعنوان "قانون إبعاد وتشتيت الأكراد"، يتناول فيه مسألة قانون التشتيت والإبعاد، أو قانون النفي، والذي يطلِق عليه الأتراك تسمية "خطة إصلاح الشرق".
هي خطة وضعتها الدولة التركية الحديثة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، دون أن تُعرَض على البرلمان خشيةً من معارضتها، فقد أصدرها الرئيس التركي مصطفى كمال أتاتورك بمرسوم صادر عن رئاسة الجمهورية، وأعدّ تفاصيلها مجلس الوزراء بشكل منظم وتألفت من 27 مادة.
مصطفى كمال أتاتورك وأنصاره
وتتضمن الخطة موادَّ "لإصلاح وتطوير الوضع" في شرق وجنوب شرق تركيا، بحسب التعاريف المتواجدة في الأدبيات الرسمية التركية حول هذا القانون.
وفي حين أن متخذي القرار اعتبروا أن هدفه كان الحفاظ على استقلالية الجمهورية التركية وأمنها، بعد تقليص حدودها إثر الحرب العالمية الأولى، إلا أن الخطة الموضوعة للتنفيذ تُبيّن أنه كانت لها أبعاد مختلفة، آثار بعضها لا تزال مستمرة إلى يومنا الراهن، وكانت محاولة لتغيير الجذور الثقافية والتاريخية والوجودية للشعب الكردي الذي حُرم من أبسط الحقوق الحياتية.
قانون النفي أو التشتيت
أُقرّت الخطة المذكورة في أيلول/ سبتمبر 1925، بعد القضاء على ثورة شيخ سعيد بيران بثلاثة أشهر، وهي ثورة أو انتفاضة كردية ضد الحكم التركي "من أجل استقلال الأكراد الذين تعرّضوا للإنكار"، قادها شيخ سعيد بيران المتحدّر من قضاء بالوا التابع لمدينة ألعزيز، وكان أحد كبار الشيوخ الطريقة النقشبندية، كما كان لديه تأثير كبير على مريدي الطريقة، وانتهت بالفشل وبإعدام الشيخ.
ثورة شيخ سعيد
تضمنت الخطة مجموعة من الإجراءات الثقافية والسكانية والعسكرية في شمال كردستان، أو "جنوب شرق تركيا" وفق التسمية التركية، هدفها تذويب وصهر الأكراد في بوتقة الثقافة التركية الحديثة، وعلى رأسها منعهم من الحديث بالكردية في الأماكن العامة.
يقول سادات أولوغانا، وهو مؤرخ كردي تركي لرصيف22: "إصلاح الشرق كانت نتاجاً لمؤسستين تأسستا وقتها حديثاً، الأولى لصناعة التاريخ، والثانية لصناعة اللغة، بهدف احتلال شمال كردستان، ومعها بدأت أولى سياسات القمع الثقافية: منع اللغة والثقافة الكردية، وبدأ احتلال شمال كردستان من جميع المناحي".
وعن ظروف إقرار الخطة والدوافع إلى تبنّيها، قال الكاتب والباحث الكردي التركي حسن أوزغوينش لرصيف22: "أقرّ هذا القانون نتيجة قرار اتخذته الدولة التركية بحق الأكراد والشعوب الأخرى ذات الكثافة السكانية المنخفضة، ليصبحوا أتراكاً، ولدمج الأكراد في النسيج الاجتماعي والثقافي للأتراك".
وأوضح أن "الدولة التركية الحديثة عندما شعرت بالخوف على حدود الدولة المرسومة بموجب اتفاقية لوزان، بسبب وجود الشعب الكردي في منطقة حدودية، قررت القضاء على مخاوفها بإعداد خطة كبيرة تمّت الموافقة عليها بين ثلاث جهات: رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء ووزارة الداخلية".
احتوت الخطة على إجراءات تستهدف تفتيت القوة المجتمعية للأكراد وتشتيتها، ليتحولوا إلى جماعة ضعيفة، حسبما يقوله أوزغوينش لرصيف22 مضيفاً: "بلا شك إصلاح الشرق كان مخططاً كبيراً وواسعاً لإزالة أي مساعي ورغبات مستقبلية من الأكراد للحصول على حريتهم".
تضمنت الخطة مجموعة من الإجراءات الثقافية والسكانية والعسكرية في شمال كردستان، أو "جنوب شرق تركيا"، هدفها تذويب وصهر الأكراد في بوتقة الثقافة التركية الحديثة، وعلى رأسها منعهم من الحديث بالكردية في الأماكن العامة
بدوره، يعرّف الدكتور محمود عباس، وهو كاتب كردي سوري مقيم في الولايات المتحدة وباحث في التاريخ الكردي والشأن السياسي، وحاصل على دكتوراه في الجغرافيا الاقتصادية الخطة بأنها "عبارة عن مخطط لإحداث تغيير ديموغرافي للشعب الكردي".
وقال لرصيف22 إن مصطفى كامل أتاتورك، وبخداع سياسي للدول العظمى حينها، فرنسا وبريطانيا، وتحت عنوان القيام بإصلاحات في المناطق الكردية، عمل على منع قيام أي حراك أو انتفاضة من خلال تطبيق إصلاح الشرق.
تألفت الخطة من 27 مادة. تنص المادة الأولى على "الاستمرار في فرض الأحكام العرفية حتى الانتهاء من تنفيذ هذا البرنامج، ومع ذلك فإن هذا لن يكون قصير المدى، ولا يمكن للمنطقة أن تتخلص بسهولة من الأحكام العرفية" التي أقرّها المفتش العام الذي كان يتمتع بصلاحيات مطلقة ولا يخضع للمساءلة.
ونصّت المادة الثانية على إيلاء المفتشية العامة مهمة تنفيذ المواد والبنود الواردة في الخطة، وبينها ما ورد في المادة الخامسة من السماح للمهجرين الأتراك القادمين من القوقاز والبلقان بالاستقرار في الأراضي التي تركها الأرمن، في المناطق الواقعة بين مدينة وان وميديات.
وفرضت المادة الثامنة ضريبة خاصة على المناطق المشاركة في أعمال الشغب للتعويض عن الأضرار، كما نصّت المادة التاسعة على تهجير الأكراد المشاركين في الثورات وتوطينهم في الغرب، أي في مناطق ذات أغلبية تركية.
كذلك، نصت الخطة على نزع السلاح من الأكراد ومحاكمة كل مَن يمتلك سلاحاً بدون رخصة أمام المحاكم العسكرية، وأجبرتهم على تشييد المباني الحكومية ومراكز الدرك في المنطقة.
"خطة إصلاح الشرق كانت نتاجاً لمؤسستين تأسستا وقتها حديثاً، الأولى لصناعة التاريخ، والثانية لصناعة اللغة، بهدف احتلال شمال كردستان، ومعها بدأت أولى سياسات القمع الثقافية: منع اللغة والثقافة الكردية"
وتعتبر المواد 13، 14، 15، 16 و17 من الخطة مواد الصهر والانحلال، وبموجبها مُنع التحدث باللغة الكردية، وحُظر كل ما له علاقة بالثقافة الكردية من فنون وأدب وتاريخ، تحت طائلة السجن أو دفع غرامات مالية.
أما باقي المواد فتدور في مجملها حول منع الأكراد من الوصول إلى المراتب والمناصب المهمة، وعدم تعيين قضاة أكراد في المحاكم العسكرية والمدنية، وضرورة تعليم النساء في المناطق الكردية في غربي الفرات، وفتح المدراس ليلاً ونهاراً لتعليم اللغة التركية، وتفريغ القرى النائية من سكانها وإقامة ثكنات عسكرية مكانها.
منعطف نحو الصهر والانحلال
شكّل إصلاح الشرق محطة بارزة في تاريخ الأكراد، لِما نتج عنه من مؤثرات، غيّرت ملامح الثقافة الكردية في تركيا. كان عمل الجمعيات الكردية التي كانت تهدف إلى الاستقلال محظوراً قبل الخطة، ولكن بعدها زاد التضييق على الأكراد وحقوقهم الثقافية بشكل غير مسبوق، حسبما أوضح حسن أوزغونيش لرصيف22.
ويضيف: "بعد ترسيم الحدود القومية بين الدول، وقطع أوصال الشعب الكردي، عملت الدولة التركية على هندسة جديدة، بشكل منظم وممنهج، للقضاء على الثقافات ضمن تركيا، وذلك بعد استلام النخب القومية المتطرفة قيادة الدولة".
ويتابع: "هناك مؤسستان لصناعة اللغة وصناعة الثقافة أنشأتهما هذه النخبة، وبإمكاني القول إن جميع بنود قانون إصلاح الشرق ممهورة بختم هاتين المؤسستين".
ويوضح أن "تطبيق هذا القانون جرى بسلاحين: العنف الجسدي المحض والإبادة، والمجاعة والبطالة. وكانت البداية في إقحام الثقافة الكردية في مكبس كافة أنواع المؤسسات الاجتماعية التركية، فدخل التتريك إلى كل مسامات المجتمع، ومن هنا شكل إصلاح الشرق منعطفاً بارزاً وخطيراً في سياق تغيير الملامح الثقافية للشعب الكردي".
ويعتبر حسن أوزغونيش أن إصلاح الشرق أسس أرضية مناسبة للحكومات التركية المتعاقبة من أجل إنكار الحقوق الكردية، و"التعامل مع المسألة الكردية بذهنية استحواذية وبمعادلة صفرية"، على أساس أنه "لا توجد قضية كردية في تركيا".
ظروف إقرار الخطة
ظهرت خطة إصلاح الشرق في أجواء كانت الرياح القومية قد بدأت تعصف بالمنطقة، وبعد توقيع اتفاقية لوزان بين فرنسا وبريطانيا وتركيا، والتي اعترف بموجبها الأتراك بالحدود التركية الحالية، وفي ظل اندلاع انتفاضات كردية بسبب الإقصاء السياسي والثقافي للأكراد.
يشير أولوغانا إلى أن "الخطة وُضعت في ظروف متوترة للغاية بالنسبة للأتراك، على خلفية استمرار الثورات الكردية، ثورة بيتليس وكوجكري وشيخ سعيد".
وهنالك ظرف آخر برأي أولوغانا ذو أهمية، وهو تبلور الوعي القومي وظهور الروح الوطنية الكردية وخاصة في ثورة بيتليس، في عام 1914، والتي أعطت الدفع للثورات التي قامت بعدها.
وثورة بيتليس قامت في 10 آذار/ مارس 1914 بقيادة ملا سليم، بدأت من بيتليس بسبب الوضع الاقتصادي المتردي وسوء الإدارة ثم توسعت نحو مناطق آخرى، وكان من أهدافها تحرير كردستان، ولقيت تأييداً واسعاً من أرمن بيتليس، لكنها أخمدت بعد اعتقال ملا سليم في أواخر شهر نيسان/ أبريل من نفس العام، وكان من آثارها تهجير حوالي 700 ألف كردي من المناطق التي أيّدتها نحو الأناضول.
وثورة كوجكري اندلعت في آذار/ مارس 1918 واستمرت حتى حزيران/ يونيو 1921، وبدأت في ديرسم وسيواس وأرزينجان، بقيادة جمعية الكرد العالي في إسطنبول، وطالب المشاركون فيها أيضاً باستقلال كردستان.
ساعدت الظروف الدولية التي كانت سائدة في عشرينيات القرن الماضي تركيا كثيراً في إقرار خطتها، بخلاف الفترة التي سبقتها. يشير بدرخان في كتابه المذكور إلى ذلك بقوله: "كما علمنا في ما سبق لحظة قبول تركيا في عصبة الأمم، لم يجد أي عضو في المجلس العالي المكلف بالدفاع عن حقوق ومصالح الأقليات وقتاً ملائماً للتمسك بالنظام الأقلي في تركيا، بما أن مصالح الدول الكبرى لم تكن تتطلب إزعاج جمهورية أنقرة بأية وسيلة".
ويرى بدرخان أن المصالح الدولية كانت تتطلب حينها إرضاء تركيا بعد تقديمها تنازلات كثيرة، ولم تهتم بشأن الأقليات، بعد أن كانت الدول الكبرى تؤكد إبان انتهاء حرب العالمية الأولى على الوقوف إلى جانب الشعوب المضطهدة.
يرى أولوغانا أن هناك سببين رئيسيين خلف هذه الخطة "الأول هو وقف انتشار الثقافة الوطنية بين الأكراد، والوقوف في وجهها، والثاني منع قيام ثورات كردية أخرى بعد ثورة شيخ سعيد بيران".
ويضيف: "نتيجة تخوّف الأتراك من فقدان السيادة الجديدة، نظراً لأنهم كانوا أقلية صغيرة من الأقليات الموجودة ضمن الإمبراطورية المنهارة، ونظراً لأن اللغة التركية لم تكن لغة الإمبراطورية العثمانية، وُضع هذا القانون لفرض التتريك ولاحتلال المناطق الكردية لمنع حصول الأكراد على حقوقهم".
ويشير الباحث محمود عباس إلى أن "معرفة الدولة التركية حينها بأن التوازنات الدولية القائمة بعد الحرب العالمية الأولى كانت لصالحها، وأن الدول الكبرى لن تتدخل لمساعدة الأكراد... دفعتها إلى تطبيق الخطة للقضاء على العامل الكردي المهدد لدعائم الجمهورية".
تأثيرات على المناطق المستهدفة
شملت خطة إصلاح الشرق المدن الكردية التالية: هكاري، وان، موش، ييتليس، سيرت، كينج، ديار بكر، أورفا، سويرك، ألعزيز، ديرسم، مالاتيا، كيغ، خنس، وفقاً للمادة الثانية منها، وهي مناطق شهدت ثورات وانتفاضات ضد الدولة التركية. واستمر تطبيقها حتى عام 1946.
في المرحلة الأولى من التطبيق، يقول الباحث عباس، "عُمل على تصفية الشخصيات الكردية المتنفذة، عشائرياً وسياسياً، والحد من دور المثقفين الأكراد، ومن ثم مُهّد الطرق لعملية تهجير الأكراد من المنطقة، تحت حجة الحد من الانتفاضات".
لم تنجح عمليات التغيير الديموغرافي المأمول كما كان متوقعاً. يعود ذلك، بحسب بدرخان، إلى التكلفة الاقتصادية الهائلة لتهجير الأكراد إلى مدن تركية، وتوطين الأتراك القادمين من دول أخرى في مناطق الأكراد.
"هذا لا يعني أنه لم تجرِ عمليات تهجير للأكراد، إذ يقدَّر عدد الأكراد المهجرين جراء تطبيق هذا القانون بحوالي 200 ألف شخص"، بحسب أولوغانا. ووفقاً لمصادر أخرى، وصل عددهم إلى نصف مليون.
إجراءات حظر استخدام اللغة الكردية في الدوائر الرسمية والأسواق والمرافق العامة، وفرض تعلّم اللغة التركية، ومنع الأكراد من التسلّح، بعكس ما كان الحال عليه في عهد الإمبراطورية العثمانية، واستخدامهم كعبيد في إقامة الثكنات وتعبيد الطرق العسكرية وبناء المراكز الحكومية، وأجواء الرعب والترهيب، "دفعت الأكراد إلى قبول الحكومات التركية المتعاقبة بعد إقرار هذا القانون"، بحسب أوزغوينش.
وتركت هذه الممارسات تأثيرات كبيرة وصلت إلى يومنا الراهن. نتيجة منع استخدام اللغة الكردية وتدريسها، "تراجعت اللغة إلى مستويات متدنية جداً من التداول مع الزمن إلى أن أصبحت لغة ضعيفة في تلك المناطق الكردية"، يقول أولوغانا.
وأدت سياسات التتريك إلى تغيير ثقافة المناطق الكردية الواقعة غربي الفرات، وهي مرعش وسمسور ومالاتيا وسيواس، وصهرها في النسيج الثقافي الجديد، وفقاً لأولوغانا، وذلك "من خلال التشديد على ممارسة العنف".
والآن، يحذّر بعض المهتمين بشؤون الثقافة الكردية من زوال اللغة الكردية من "شمال كردستان" بحلول عام 2040. هذا ما يقوله لرصيف22 كاوا نامر، أحد المختصين باللغة الكردية ويعمل في مجال الترجمة إليعا. يستند هذا التقدير إلى واقع اللغة الكردية في شمال كردستان حالياً، فالمتكلمون بها هم من أبناء أجيال ما فوق الأربعين عاماً، أما الفئات العمرية الأصغر فيتكلمون بالتركية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع