شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
ألوان تتحرّى عمائم الفصول

ألوان تتحرّى عمائم الفصول

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 11 ديسمبر 202112:39 م

الألوان المائية


أصفر-برتقالي

أذكر، في أول وعيي بالذاكرة، ضوءاً أصفر ساطعاً يخترق عينيّ، ضوء كاميرا تصوير فيديو عتيقة، سجّلت زفاف خالتي كله ولم تسجل لي ولو لقطة، لأنني سمعت مع اختراق الضوء لعيني الصغيرتين، صوت جدتي تقول للمصور: "صوّرها، كانت نائمة طوال الفرح ولم تظهر في الفيديو".

هكذا أذكر بداية الحياة: لون أصفر يغرق فيه عقلي، كان أول ما شاهدته، أو حفظته في ذاكرتي البصرية، لون أصفر تحول بمرور الزمن إلى لون لجدران عقلي، كلما أغمضت عينيّ رأيته. أحياناً، يشع الأصفر من خلاياي، أنجذب إليه بلا إرادة، يبدو زاهياً كالحياة، وميتاً أيضاً مثلها. لون الأعصاب المهتزة، والأفكار التي لم تتشكل بعد. الأصفر ليس للغيرة، بل للحب الناقص الذي يكره المنافسة والقلق والشعور بعدم الأمان، ولا يكتمل إلا بالحسم. الأصفر لون الحسم.

أكره أن أكون في موضع تنافس، بالذات على قلب رجل، أتقوقع على نفسي، وأغرق في الأصفر، أتخيله يلفني مثل شرنقة، لأن الأصفر يمدني بشيء ما في لحظات الحزن، ليس البهجة ولا الإشراقة ولا الدفء، يمدني بشيء أهم، هو القدرة على الاستغناء. الأصفر هو لون الاستغناء.

هكذا أذكر بداية الحياة: لون أصفر يغرق فيه عقلي، كان أول ما شاهدته، أو حفظته في ذاكرتي البصرية، لون أصفر تحول بمرور الزمن إلى لون لجدران عقلي، كلما أغمضت عينيّ رأيته... مجاز في رصيف22

انسحب الأصفر في عقلي أمام البرتقالي، انجذبت له، وارتحت لشرب الشاي في كوب بهذا اللون، انكسر يوم خطبتي، سقط ببساطة من يدي وانشق نصفين. كان كوب أبي من قبلي، جلبه معه من السعودية، جلب كوبين متطابقين كان يستخدمهما في غربته، برتقاليين من الخارج وبلون السلمون من الداخل، مع لمعة خفيفة تجعل سطحه عاكساً إلى حد ما. لم يجلب أبي شيئاً آخر من أدواته الشخصية في السعودية سوى هذين الكوبين، ربما لأنه عندما نظر إلى غرفته المشتركة مع آخرين داخل السكن في الفارعة، لم يجد شيئاً يستحق الحمل. لم يعد سوى ببعض الصور والكوبين البرتقاليين.

أثارت صور السكن الذي كان يعيش فيه أبي خيالي، لأنه بدا وكأنه كهف روبنسون كروزو في رواية دانيال ديفو، بيت على قمة جبل منعزل، يضم مجموعة من الرجال الملتحين، على امتداد الحيطان صفوا الصفائح الفارغة بدلاً من الموائد والأرفف، ربما وضعوا مفرشاً أو اثنين ليشعروا بأنهم يعيشون في بيت حقيقي، ربما علقوا ساعة، أو لصقوا صورة على الحائط. لكن كل هذا لم يكن كافياً، يمكنني أن أشعر بخوائهم من أكوام علب سجائر مارلبورو الأحمر المكدسة في الخلفية، وعلب الصودا الفارغة وحبات التفاح المتناثرة.
يمكنني أن أشعر بوحدة أبي في صورته جالساً أمام الطبق الذي يغسل فيه جواربه مبتسماً، بجواره على الأرض وضع الكوب البرتقالي، ربما كان يشرب النيسكافيه أو الشاي أو القهوة، وربما كان يفكر وقتها فينا، في بيت آخر يشع دفئاً يود لو كان فيه، أن يغمض عينيه ويفتحهما فيجد نفسه بيننا، بنفس هيئته، بجلبابه الأزرق وخُفه الأبيض ولحيته وكوبه البرتقالي.

أحببت كوب أبي لكنه بعد وقت نسيه، انكسر الكوب الأول فألقاه في القمامة، اختار كوباً آخر لا أذكره، ربما كان أسود أو أبيض أو زجاجياً، لم يهتم بالكوب، كان ينسى شيئاً فشيئاً سنين غربته، أو ربما تظاهر بالنسيان، ربما تظاهر بعدم الاهتمام، أراد إلغاء السنين من حياته، عاد إلى بيته بعد أسبوع تأخرت فيه طائرته عن ميعادها، قضيناه نحن ننتظر، وقضاه هو في فندق المطار هناك، يحاول الاتصال على هاتف بيتنا فلا يرد أحد، ونحاول السؤال عن مصيره فلا يرد أحد.

عاد وأنا نائمة، أيقظوني وقالوا: بابا تحت البيت. ركضت على السلالم، لم أخف من الظلام، رأيته واقفاً أمام البوابة في الشارع، ناديته فحملني ولفّ بي. بكيت.

بكيت عندما انكسر الكوب البرتقالي يوم خطبتي، وقلت هذا فأل شؤم، لم أخبر أحداً، التقطت النصفين المكسورين ووضعتهما في البوفيه الأسود، وعندما فسخت الخطبة بعد شهرين، ألقيته في القمامة. واشتريت آخر برتقالي، كلما انكسر كوب اشتريت آخر. كلها انكسرت، وفي كل مرة ينكسر فيها كوبي البرتقالي، ينتهي شيء داخلي لا أعرفه، لكني أشعر به، وكأنه طيف يتلاشى شيئاً فشيئاً، رقع من الذاكرة تبهت، وتتركني-ربما- أكثر خفة.

أزرق-أخضر

للانتقال من لون متوهج مثل البرتقالي إلى جرح الأزرق يلزم للروح أن تنشق، تنضج ربما على نار باردة، لأن الأزرق لحظة تحول الليل إلى فجر مؤلم. وكنت وأنا أسير في الشارع الطويل، بأرضه الطينية ورائحته العتيقة، مزيج من خضار معطوب وقمامة مزالة حديثاً، أتألم بشكل ما، في جسمي منطقة مؤلمة غير ثابتة، مثل ضفدع يتقافز من البطن إلى الصدر من الركبتين إلى العنق من الذراعين إلى العينين.

للانتقال من لون متوهج مثل البرتقالي إلى جرح الأزرق يلزم للروح أن تنشق، تنضج ربما على نار باردة، لأن الأزرق لحظة تحول الليل إلى فجر مؤلم... مجاز في رصيف22

أحاول التمسك بأي شيء صلب فلا أجد سوى يافطات بيضاء قماشية تهنيء بحلول رمضان، في نهاية الشارع وقبل الوصول إلى الميدان المدوّر حول نافورة تشبه النوافير الصغيرة القبيحة التي تباع في الجاليريهات الشعبية، ارتفعت يافطة بآية قرآنية، "لا تقنطوا من رحمة الله"، وكنت أحسب أنني قنطت. السفر اليومي وقتها لم يكن مبهجاً، كان بطعم الاغتراب والتوهة. لم أشعر بنفسي، واعتقدت أنني أتلاشى كل صباح، قلت لن يتبقى مني شيء، سأشف إلى أن أتحول إلى لون أزرق، لأن اللون الأزرق شفاف رغم عتمته، ولأنه في عروق يديّ البارزة يشف الجلد من فوقه، ولأنه حزين مثلي، تائه مثلي، دائخ مثلي، مثل دوخة ولي، مثل دوخة مجذوب، مثل دوخة متصوّف، مثل دوخة امرأة تتمنى صبياً فتدور في دوائر صاخبة، تحرك رأسها يمنة ويسرة إلى أن تهوى ساقطة.

يلتقي الأزرق بأخضر السوق أسفله، مثل التقاء أزرق السماء بأخضر البحر. بحر من عربات محملة بخضار قادم لتوه من قلب الأرض، لا تزال رائحة الطين عالقة به، خضار مات لتوه لكنه بشكل ما حيّ. خضاره مغسول وشهي، رائحته بالنسبة لي كانت ملاذ. تريحني من تعب وإرهاق السفر، من قلة النوم، ومن دراسة كنت أحسب أنني أكرهها، لأكتشف بعد انتهائي منها أنها منحتني كل شيء، وشكلتني على ما أنا عليه.

دراسة الألوان والفن والتأمل في تفاصيل العالم، جعلتني أدرك أن الألوان ماكرة، مثل الأخضر لا يمنح راحته إلا برغبته. يمنح أحياناً شعوراً غريباً بالزيف، بالرعب وبالمرض، ويخفي الحقائق التي لا نريد الاعتراف بها لأنفسنا وللآخرين، مثل أننا نحب الأشياء بعد أن تنتهي، كما نعرف قيمة الأزرق بعد بهتانه، والأخضر بعد ذبوله.

رمادي-أحمر

س: ماذا سيحدث لو أضفنا بطشة أحمر إلى لوحة رمادية؟

ج: سيهتز سطح العالم.

الرمادي اللون الأقوى بين الألوان، مكتف بما يحمله من ثقل، مضمخ بعطر من تبغ وخشب صندل، أنيق ومطمئن ومستكين وثائر. في الصور الرمادية بهاء ورصانة، وفيها من الضعف ما يدفعنا لحنين ما، لصور قديمة وأشخاص ميتين. فلتر الرمادي في الهواتف الحديثة يحوّل الأحياء في الصور إلى أموات، لكنهم أموات جميلون. ينظر الشخص إلى صورته الميتة ويبتسم، لأنها رغم الوهن فريدة، تنتمي إلى عالم آخر ساحر وبعيد.

صورتي الرمادية هي ما أضعه في سيرتي الذاتية، أرسلها إلى جهات العمل آملة أن تسحرهم. صورة أبتسم فيها فتمتزج حدود شفتيّ بأسناني في بياض الرمادي، لو كنت أضفت الأحمر إلى شفتي، لتحولت الصورة كلها، لن أحصل على العمل لكني ربما كنت سأقع في الحب.

الأحمر لون الحب، إضافته للرمادي يُلجمه، لأن الحب طائش، والحب غاضب والحب دم، دم يسري في الشرايين. الأحمر هو اللون الأقرب للإنسانية، هو لون الإنسان نفسه، لون آدم في بداية الخلق، ولون التفاحة التي طردته من الجنة، ولون الحب الذي عرّفه إلى جمال العالم، والرمادي لون الموجودات في أول الأرض، اللون الذي أيقظه من غيبوبة العشق إلى بداية العيش.

فلتر الرمادي في الهواتف الحديثة يحوّل الأحياء في الصور إلى أموات، لكنهم أموات جميلون. ينظر الشخص إلى صورته الميتة ويبتسم، لأنها رغم الوهن فريدة، تنتمي إلى عالم آخر ساحر وبعيد... مجاز في رصيف22

ارتديت بنطلوني الأحمر وكنزتي الحمراء في العيد، ضحكت شقيقتي، قالت أبدو مثل المحكوم عليهم بالإعدام، ضحكت معها، وتمسكت به. قلت سأحمل حقيبة رمادية، سأنتعل حذاء رمادياً، لأن الأحمر الباذخ مثل الرمادي الصامت، لون موت. يلزم الأحمر بعضٌ من الرمادي، ويلزم الرمادي بعضٌ من الأحمر لتكتمل الحياة.

أسود-أبيض

الولادة والموت، البداية والنهاية، أرتدي بنطلون أسود وتيشيرت بيضاء، داخلي خواء ثقيل، يشبه إناء زجاجياً محكم الغلق، ممتلئ بفراغه، ثقل شفاف وغير مفهوم يحني ظهري. وتذكرت اللحظة التي رأيت فيها كل شيء أبيض، أبيض باهت يشي بالنهاية، لأن الأبيض لون النهاية.

في الكلية، رسمنا دائرة الألوان، كل الألوان ودرجاتها إلى جوار بعضها، قصصت الورقة، وثبتها على عصا خشبية وأدرتها في الهواء، ذابت الألوان مع الحركة، تحولت إلى الأبيض، الأبيض ليس بلون لكنه اختصار لكل الألوان. والأسود لون الأغاني...

في لحظة فراقنا، بحثت عن أغنية على الهاتف، أردت أغنية تكسر الصمت، أغنية عادية، ربما أغنية تذكر بأيام مضت، أو حياة تبدو الآن وكأنها وهم، كأنها لم تحدث، وكأن حياتي بدأت وستنتهي في الصمت، وأنني لن أتمكن حتى من سماع صوتي داخل رأسي، لن أسمع صوت بلعي لريقي، ولا صوت بكائي، ولا صوت دقات قلبي.

"وبحبك... قد العيون السود بحبك". الأسود يأسرني، رغم أنه لا نهاية له، دوامة من لون ليس لوناً لكنه قادر على ابتلاع كل الألوان، الأسود فجوة مظلمة تبتلع الحياة والضوء، لكنها في نفس الوقت تعد بالانتقال لعالم غامض جديد.

كل الأيام التي ارتديت فيها الأسود، كل المرات التي صبغت فيها شعري باللون الأسود، كل مرة نظرت إلى عينيّ في المرآة وغصت في الأسود، وكل مرة تشاجرنا فيها، تصالحنا فيها، بكينا فيها، يئسنا فيها، كانت مطلية بالأسود.

"وأنت عارف قد ايه كتيرة وجميلة العيون السود في بلدنا يا حبيبي". كل الأغاني لا تصل، لا تكسر الحاجز الممتد، ولا الحاجز داخلي الذي يسري مع دمائي في عروقي ليحيط بأعضائي، أردت أن أبكي دموعاً سوداء تترك أثراً على الجلد، حرقني أنفي بما يشبه البكاء، ثم تلاشى كل شيء.

لكن الأبيض لا يستسلم، هو صفحة فارغة تستعد لرواية جديدة، ومقدمة لقصة على وشك البداية، لأن الأبيض -شئنا أم أبينا- هو أيضاً لون البدايات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image