نشأتُ في منطقةٍ تسودها أيديولوجيات متناحرة، وصراعات محمومة، وأنظمة حكمٍ غير ديمقراطية. ارتكبنا أخطاءً كثيرةً لا يصحّ ارتكابها، جعلتنا نتخلّف عن ركب الحضارة. وعلى الرغم من ذلك، استقرّ في العقل الجمعي، منذ الأربعينيات من القرن الماضي، أننا دول عربية ذات روابط وثيقة، يتصدّرها أمن قومي مشترك، عقدنا للدفاع عنه اتفاقيةً تنصّ، في ما تنصّ، على أن الاعتداء على أي دولة منها، يمثّل اعتداءً على الكل. كان هدفنا التخلّص من الاستعمار، وتحرير فلسطين. نجحنا في التخلّص من الاستعمار، على الأقل بشكله المباشر، ولكن للأسف فشلنا تماماً في التعامل مع القضية الفلسطينية، على الرغم من دخولنا كدولٍ عربية في حروب عدة من أجل فلسطين، كونها جزءاً من الأمن القومي العربي.
أصبح من المألوف الآن أن يردد البعض أنه لا يوجد شيء اسمه العالم العربي، وإنما نحن منطقة تسكنها شعوب تختلف في الهوية، ولا تربطها سوى اللغة العربية.
لم يكن موضوع الهويات العرقية، أو الدينية، أو وضع الأقليات الموجودة في الدول ذات الأغلبية العربية، محلّ حوارٍ مجتمعي يُذكر في الماضي، ولعلّ طبيعة أنظمة الحكم في معظم الدول العربية لم تسمح بذلك، ولعلّ تلك التعددية أيضاً، لم يكن لها تأثير ذو شأنٍ على قدرتنا، ورغبتنا في العيش المشترك، سواء أكنا أغلبيةً، أو أقلية.
تغيّر المشهد بشكلٍ كبيرٍ منذ عقود عدة، وبدأت إشكاليات الهوية تطفو على السطح بشكلٍ بارزٍ، لتغيّر الكثير من المفاهيم المستقرّة في وجداننا في ما يتعلق بمن نحن؛ أصبح من المألوف الآن أن يردد البعض أنه لا يوجد شيء اسمه العالم العربي، وإنما نحن منطقة تسكنها شعوب تختلف في الهوية، ولا تربطها سوى اللغة العربية السائدة في المنطقة، وأصبح فريق من "الإسلاميين" يروّج أن هويتنا هي الإسلام فحسب، قبل أن نكون عرباً، أو أيّ شيءٍ آخر، كما تمّ الاعتراض على تسمية المغرب باسم المغرب العربي، بسبب أن عدداً كبيراً من سكانه من الأمازيغ. ومؤخراً، بدأت الأصوات ترتفع بأن خصمنا في المنطقة، إنما هو إيران ذات الإسلام الشيعي، بسبب أطماعها الإقليمية، وليست إسرائيل التي التهمت معظم ما تبقّى من أرض فلسطين -التي لم تعد في أذهان الكثيرين من أسبقياتنا- وبدأت دول عربية عديدة ترسم سياساتها الخارجية، ورؤيتها لأمنها من هذا المنطلق، وبقدرٍ ما ازدادت الخصومة مع إيران، بقدر ما ازدادت العلاقات الوثيقة مع إسرائيل؛ وبالتوازي، بدأ تركيز البعض على أن حضارة مصر هي حضارة فرعونية في الأساس، قبل أن تكون إسلاميةً أو عربية.
ولكن المحزن في هذا كله، أو كنتيجة له، هو أننا تباعدنا تدريجياً، كدولٍ وشعوبٍ، عن بعضنا البعض، إلى أن تحوّلنا مؤخراً إلى خصوم، فأصبحت حروبنا كلها تقريباً، هي حروب أهلية نصبّ فيها غضبنا، وعجزنا، على أنفسنا، في مشهدٍ مأساويٍ يدمي القلوب.
بدأت الأصوات ترتفع بأن خصمنا في المنطقة، إنما هو إيران ذات الإسلام الشيعي، بسبب أطماعها الإقليمية، وليست إسرائيل التي التهمت معظم ما تبقّى من أرض فلسطين
ما يحدث اليوم من انفراطٍ في هويتنا الجامعة كعرب يملكون حضارةً وثقافةً مشتركتين، قد أصبح يشكّل، في تصوّري، خطراً وجودياً على حاضرنا ومستقبلنا كدولٍ وكشعوب، فالتخلّي عن مكوّن مهم من هويتنا هو الخطوة الأولى للتشرذم، والاستقطاب، وبداية النهاية لكثيرٍ من دول المنطقة بشكلها الحالي، الأمر الذي نراه يحدث أمام أعيننا كلّ يوم. شعوبٌ تنظر إلى ماضيها، بطريقةٍ انتقائيةٍ، هي شعوبٌ غير واثقةٍ من حاضرها، ومن الصعب أن ترسم مستقبلها.
بالطبع، من بدأوا يشككون في الهوية العربية، سواء بحسن نية، أو بعكسها، قد طبعوا في أذهان الكثيرين أنه لا يمكن الجمع بين مكوّنات الهوية، وإنما علينا أن نختار بينها؛ فإذا كنت مسلماً، لا يجب أن تعطي اهتماماً كبيراً لهويتك العربية التي قد تنتقص من دور الإسلام في حياتك، وإذا كنت تنتمي إلى أقليةٍ غير عربية، فعليك ألا تخلط بين ثقافتك والثقافة العربية. ولا شكّ أن جزءاً كبيراً من هذا المفهوم الخطأ يرجع إلى ممارسات كثيرٍ من البلدان ذات الأغلبية العربية، والتي أدّت إلى طمس التعددية، وعدم الاعتراف بها، سواء أكانت دينيةً، أو عرقيةً، أو اجتماعيةً، أو لغوية.
في عالمنا اليوم، أصبحت الهوية ومكوّناتها مسألةً معقّدةً، بسبب العولمة غير المسبوقة، التي أثّرت بشكلٍ بالغٍ على الهويات التقليدية العرقية والإثنية واللغوية، فأصبح من النادر أن نجد شخصاً لم تدخل "تعديلات" على مكوّنات هويته الأصلية، فهو إما قد تزوّج من شخصٍ يختلف عنه في المذهب، أو في العقيدة، أو أن ابنه قد حصل على جنسيةٍ أخرى، بسبب ظروف عمله في الخارج، أو أنه قد عاش معظم عمره يعمل خارج وطنه، وتعامل مع ثقافاتٍ مختلفةٍ، أو أنه قد أصبح يستخدم أغلب الوقت لغةً غير لغته الأم، بسبب ظروف عمله، وغيرها من الأمثلة. الهوية في عالمنا اليوم، أصبحت مركّبةً، وتختلف من شخص إلى آخر، بسبب الاختلاط المتزايد بين الشعوب، وإمكانية التنقّل السريع بين الحضارات والثقافات المختلفة.
ما يحدث اليوم من انفراطٍ في هويتنا الجامعة كعرب يملكون حضارةً وثقافةً مشتركتين، قد أصبح يشكّل، في تصوّري، خطراً وجودياً على حاضرنا ومستقبلنا كدولٍ وكشعوب.
في عالمنا المعاصر، أصبحت هناك هوية عامّة تجمعنا كبشر، تقوم على التزامنا بقيمٍ مشتركة، أياً تكن عقيدتنا، أو عرقنا، أو موقعنا الجغرافي، وهي ركيزة هوية كل إنسان؛ وهناك العديد من المكوّنات الإضافية المكمّلة للهوية، فهناك الهويه الدينية، كالمسيحية أو الإسلام، التي تضمّ المليارات من البشر، وهناك الهوية العرقية، مثل الهان الصينيين، والعرب، التي تجمع مئات الملايين، وهناك بالطبع الهويات الوطنية القائمة على الجنسية.
هل معنى هذا أننا يجب أن نختار بين تلك المكوّنات؟ بالطبع لا، إنما علينا أن نفهم أنه لا يوجد تعارض بين المكوّنات التي تشكّل هوية كل إنسان: انتمائي إلى وطني الذي أحمل جنسيته، لا يحب أن يتعارض مع عقيدتي، أو عرقي، أو لغتي الأم، أو مع انتمائي للإنسانية. وكما هو العرف الإنساني، فإن كلّ شخصٍ حريص على أن يكون انتماؤه الأول، وولاؤه، لوطنه الذي يشكّل ماضيه وحاضره ومستقبله، وأن يكون وطنه في المقدّمة، من ناحية التقدّم الحضاري، بأشكاله كلها.
أعود مرةً أخرى إلى منطقتنا ذات الأغلبية العربية، لأطرح سؤالاً محورياً: هل من الأفضل بالنسبة إليّ كمواطنٍ، أو كشعبٍ في المنطقة العربية، أن أعمل مستقلّاً، أو أن أعمل بشراكةٍ وثيقةٍ مع هؤلاء الذين تجمعني بهم روابط كثيرة من ثقافةٍ، ولغةٍ، وتاريخٍ، وجغرافيا؟ وإذا كان العالم كله يسير في هذا الاتجاه، ويرى فوائد التجمّعات الكبيرة، من الاتحاد الأوروبي، إلى الاتحاد الأفريقي، إلى دول الآسيان، إلى منظمة الدول الأمريكية... إلخ، أليس من العقل والحكمة أن نقوم بالشيء نفسه، في الدول العربية، لنعظّم من قوّتنا الناعمة والصلبة في العلم والتكنولوجيا والدفاع وغيرها، أو أن نتخلّى طواعيةً، ومن دون سببٍ عن تلك الهوية؟
إذا كان العالم كله يسير في هذا الاتجاه، ويرى فوائد التجمّعات الكبيرة، من الاتحاد الأوروبي، إلى الاتحاد الأفريقي، إلى دول الآسيان، إلى منظمة الدول الأمريكية... إلخ، أليس من العقل والحكمة أن نقوم بالشيء نفسه، في الدول العربية؟ لنعظّم من قوّتنا الناعمة والصلبة في العلم والتكنولوجيا والدفاع وغيرها
نحن دول لدينا روابط أكثر من أي منطقة أخرى: أغلبنا عرب، ونتكلّم العربية، ويدين معظمنا بالعقيدة نفسها، ونتجاور جغرافياً، ويربطنا تاريخ ومستقبل مشتركان. في هذه الظروف، فإن عدم التعاون الوثيق، والتكامل في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية كافة، هو سباحة عكس التيار، ورجوع إلى الخلف، ولنا في تصفية القضية الفلسطينية، وانتهاك أمننا الإقليمي، عبرة لمن يريد.
كما أن تمسّكنا بعروبتنا ليس معناه ألا نحترم التعددية بأشكالها المختلفة، والمساواة التامة في الحقوق والحريات كافة بين الجميع، بل على العكس تماماً، يجب أن ندرك أن حماية الأقليات من طغيان الأغلبية، هى إحدى ركائز الاستقرار والديموقراطية القائمة على الحرية والعدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان. أختم هذه الكلمات بأن أقول: إن غياب تلك القيم في معظم مجتمعاتنا، قد يكون هو الذي أدّى بنا إلى ما نحن فيه الآن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 9 ساعاتلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري