في مدينة الجلفة جنوبي الجزائر، حلّ طيف روميو وجولييت، وأخذ معه من مدينة بسكرة بعضاً من تفاصيل قصة سعيد وحيزية، من أجل أن يخبر الناس أن عصر قصص الحب الخرافية لم ينته بعد، فعلى غفلة من الناس، نشأت هناك قصة حب، لكنها كباقي قصص الحب، احتفى بها الدهر لأنها حزينة ومأساوية، إنها قصة "محفوظ وزهرة"، حكاية عشق ذات مرارة عابرة للزمان والمكان.
"فط القلب"، قصيدة للشاعر الشعبي الجزائري محفوظ بلخيري، ابن مدينة مسعد بمحافظة الجلفة جنوبي الجزائر، هي قصة قادمة من زمن آخر، يعتبرها البعض خرافة، لكنها قصة حياة محفوظ الذي منحه الله ملكة الشعر منذ صغره، وكأن الله منحه إياها ليخطّ بها جرحه الذي لن يندمل أبداً.
موعد مع القدر
يكاد محفوظ يُجزم أنه وقع في حب زهرة منذ أول نسمة هواء صنعت أنفاسه، لقد بدأ القدر ينسج تفاصيل حكايته منذ أن كان صغيراً، هناك في ريف مدينة مسعد الصحراوية جنوب الجزائر، وسط الرمل الأصفر وفي خيام بادية سيدي نايل، خفق قلبه حباً لابنة عمه التي كانت من أقرانه، كان يزور الريف من أجلها، وكان الحب يكبر كلما حلّ الصيف وذهب محفوظ لقضاء عطلته هناك في منزل أقاربه.
في مدينة الجلفة جنوبي الجزائر، نشأت قصة حب احتفى بها الدهر لأنها حزينة ومأساوية، إنها قصة "محفوظ وزهرة"، حكاية عشق ذات مرارة عابرة للزمان والمكان
انقطع محفوظ عن زيارة الريف، ومرت السنوات، وبات الطفل الصغير طالباً جامعياً، غادر مدينة الجلفة متوجهاً نحو أضواء العاصمة الجزائر، بعد أن سجّل في كلية الفيزياء، لكن القدر كان يرتّب موعداً على طريقة الأفلام الرومانسية، ففي أروقة الجامعة، وبينما كان محفوظ منشغلاً باللحاق بالدرس، التقى طالبة متوجهة نحو فصلها في قسم الاقتصاد، إنها زهرة، بنت العم التي عشقها محفوظ صغيراً. لقد بدأت القصة من جديد، نُفخ في روحها، وأضحى ذلك الإعجاب بين صبي وصبية، عشقاً جامحاً يجمع قلب رجل بفؤاد امرأة.
بدأت القصة
بعد أن تخرّج محفوظ بلخير من جامعة الجزائر، وأصبح أستاذ فيزياء، تقرّب من عائلة عمه وطلب يد زهرة من والدها، وفعلا تزوجها وأحبها حباً كبيراً، وكان أسعد رجل في العالم.
مرت الأيام، ولم يُرزق محفوظ وزهرة بولد، فقد كانا يريدان أن يكون لهذا الحب الكبير ثمرة، كانا يريدان طفلاً بصلابة والدته وعيون ذابلة كعيني أبيه، لم يكن ذلك كل ما في الأمر، بل كانت زهرة تجهض كلما حملت، وهذا لعدة مرات، وقتها كان محفوظ يرى حلماً يزوره كل ليلة ويقض مضجعه، كان يرى زهرة جميلة وعندما يسقيها تذبل وتموت، تكرّر معه هذا الحلم لليال، وتحول الحلم إلى كابوس، وذات ليلة رأى في المنام شيخاً فسّر له هذا الحلم وقال له إن زوجته إذا بقيت معه ستموت لا محالة، وأصبح محفوظ يعيش كابوساً وخبأ على زوجته هذا الحلم.
"فط القلب"، قصيدة للشاعر الشعبي الجزائري محفوظ بلخيري، ابن مدينة مسعد بمحافظة الجلفة جنوبي الجزائر، هي قصة قادمة من زمن آخر، يعتبرها البعض خرافة، لكنها قصة حياة محفوظ الذي منحه الله ملكة الشعر منذ صغره، وكأن الله منحه إياها ليخطّ بها جرحه الذي لن يندمل أبداً
حاول الشاعر العاشق أن ينسى ذلك الشيخ الذي تغزوه لحية بيضاء كثيفة، لكن الأمر تكرّر، وباتت صورة ذلك الشيخ ترافقه كظله، وألح عليه بأن يطلب الطلاق من الزوجة قبل أن تموت لأنها ستواصل الإجهاض إلى أن تموت بسبب ذلك، وأخيراً قرر محفوظ أن ينقذها من الموت بطلاقها حباً فيها، وأخذها إلى منزل أمها وهي حامل في الشهر الخامس، ونذر على نفسه أن لا يتزوج بعدها.
لم يتحمل محفوظ أن يعود كل يوم لمنزله ولا يجد ابتسامة زهرة في استقباله، وتحولت حياته إلى جحيم حقيقي ،كيف لحلم أن يحطم حياتي؟ يسأل محفوظ نفسه، فيسمع صوتاً خافتاً قادماً من داخله: "لقد أنقذت حبيبتك، والدليل أنها أنجبت صبية بعد أن غادرت منزلك".
جني يكتب قصيدة بيد محفوظ
ذات مساء، وبعد صلاة العصر، اتجه محفوظ رفقة ابن عمه ساعد إلى مكان الخيمة التي تزوج فيها محبوبته، وهناك شعر محفوظ أنه لم يكن في وعيه وتوقفت قدماه عن المشي، سكنه شعور غريب، ورغبة جامحة في كتابة قصيدة، يقول محفوظ في كل المجالس أنه لم يتأكد لحد اليوم إن كان هو من كتب القصيدة "أم جني تلبسه"، في لحظات انسابت الكلمات على فمه، وأتى في مقدمة قصيدة من 400 بيت: " فط القلب من الفريسة يا ساعد"، والتي تعني باللهجة النايلية الجزائرية: "لقد غادر القلب جسدي (يا ساعد)".
" فط القلب من الفريسة يا ساعد" تعني باللهجة النايلية الجزائرية: "لقد غادر القلب جسدي (يا ساعد)"
فط القلب من الفريسة يا ساعد يا مهبلني جيت للمرسم عانيه
بكري كان متين سورو ما يتهد راه ازاوط كي الطيار بجنحيه
يا بن عمي عارفك راك مقيد من مسو هوداس لا بد يبليه
أرقع فيا سال عني محمد لعل ما غاب عن ذهني يوريه
يقول محفوظ إنه لم يتوقف عن الكتابة من المساء إلى غاية الصباح، لكنه لم يجد الأوراق حتى يواصل كتابة القصيدة، بعدما استنجد حتى بأكياس الإسمنت المتواجدة قرب المكان، ووصل عدد الأبيات إلى 400 بيت.
ذاع صيت القصيدة التي كان يتلوها محفوظ بلخير أينما حلّ وارتحل، وأضحت مادة دراسة لعديد رسائل التخرج في أقسام الآداب بالجامعات الجزائرية، حيث شبهّها الكثيرون بقصيدة الشعر الملحون "عزّوني يا ملاح"، التي تتغنى بقصة الحب الخالدة بين سعيد وحيزية، والتي يُجمع على أنها أعظم رواية حب جزائرية، والتي أنقذتها قصيدة الشاعر الشعبي بن قيطون من الموت تماماً كبطلتها حيزية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...