دائماً عندما أمر من تحت قوس باب شرقي ينتابني إحساس بأنني تركتُ زمناً ودخلت في آخر، ربما لكثرة الحكايا التي عشتها أو عرفتها وترتصف بجانب بعضها مثل حجارة الأرض السوداء التي أسير عليها، ويتعزز شعوري ذاك، عندما أدلف شمالاً في أوَّل زُقاق، حينها لا أعود فقط في زمن آخر، بل أشعر أن ذاك الزمن يُعانقني كما البيوت القديمة والدكاكين العتيقة والحانات، أما المستوى الثالث من علاقتي بالزمن فتتحقق تماماً في عمق الزقاق، عندما أنزل إحدى وعشرين درجة باتجاه كنيسة حنانيا، هناك أنسى تماماً ظرف "الآن" بكل جبروته، لأعيش علاقةً خاصةً مع حكايات احتضنها هذا المكان منذ ألفي عام.
ويزيد من اندغامي ذاك سينوغرافيا الكنيسة، إن صح التعبير، وطرازها المعماري: النافذتان في السقف العالي، والقناطر والشموع المُضاءة والأيقونات الثلاثة في الهيكل، والقصص المصورة التي تحكي عن بولس الرسول ورحلاته التبشيرية. كل ذلك يجعلني في قلب كتاب مُصوَّر على شكل كنيسة، أو لنقل بأنني أحيا الحكاية مع أطياف أبطالها الذين مروا من هذا المكان منذ زمن بعيد. والجميل في الأمر أنني لم أكن بحاجة لأن أسأل أحداً عن شيء، فمعظم ما أريد معرفته قادتني إليه اللوحات، وما أن يخطر في بالي استفسار عن شيء كنت ألقى الإجابة، إما في لوحة الإعلانات أو ضمن الكُتَيّب المُعَدّ سلفاً ليضعنا على اتصال مع كل ما نريد معرفته.
حنانيا وبولس الرسول
لعل أول تلك الأسئلة سيكون حول من هو القديس حنانيا؟ ليأتي الجواب وفق سفر أعمال الرّسل في الإنجيل، أنه في تلّ كوكب (حوالي 15 كم جنوب دمشق) الواقع على الطريق التاريخية بين مدينة دمشق وفلسطين. وإذا نور من السماء سطع حول شاؤول (بولس الرسول لاحقاً) -الذي جاء إلى دمشق بنيّة القبض على المزيد من المسيحيين، وزجّهم في السجون بأمر من عظيم الأحبار- وصوت يقول: "شاول شاول لماذا تضطهدني؟"، فقال: "من أنت؟"، ليرد عليه الصوت: "أنا يسوع الذي تضطهده، فقم وادخل المدينة، فيُقال لك ما يجب عليك أن تفعل".
أما رفاقه فوقفوا حائرين يسمعون الصوت ولا يرون أحداً، فنهض شاول عن الأرض وهو لا يبصر شيئاً مع أن عينيه مفتوحتان، فاقتادوه بيده ودخلوا به دمشق، فلبث ثلاثة أيام مكفوف البصر لا يأكل ولا يشرب، وكان في دمشق تلميذ اسمه "حنانيا"، ناداه الرب في أثناء الرؤيا: "يا حنانيا... قم فاذهب إلى الزقاق المعروف بالزقاق المستقيم، واسأل في بيت يهوذا عن رجل من طرسوس اسمه شاول، وإنه الآن يصلي، وقد رأى في رؤياه رجلاً اسمه حنانيا يدخل ويضع يديه عليه فيبصر".
يؤكد التقليد الشرقي أن حنانيا كان أحد تلاميذ المسيح الاثنين والسبعين الذين يكلمنا عنهم القديس لوقا (1: 10) وأنه جاء إلى دمشق بعد رجم القديس استفانس، ثم رسمه الرّسل أسقفاً لكنيسة دمشق
فأجاب حنانيا: "يا رب، سمعت بهذا الرجل من أناس كثيرين كم أساء إلى قديسيك في أورشليم، وهنا لديه سلطة من الأحبار يستطيع بها أن يوثق كل من يدعو باسمك". فقال له الرب: "اذهب، فقد اخترته داعياً يحمل اسمي إلى الوثنيين والملوك وبني إسرائيل، وسأريه ما يجب عليه أن يتحمل من الألم في سبيل اسمي". فمضى حنانيا ودخل البيت ووضع عليه يديه وقال: "يا أخي شاول، إن الرب يسوع الذي تراءى لك في الطريق قد أرسلني إليك لتبصر وتمتلئ من الروح القدس". فتساقط عند ذاك من عينيه ما يشبه القشور وعاد بصره، فقام واعتمد على يد حنانيا، ومن حينها أخذ ينادي في المجامع بالإيمان المسيحي.
الموت رجماً بالحجارة
أما الكُتيّب المُصوَّر الذي حصلت على نسخة منه، فيتضمن بأن ذاك القديس هو إحدى الشخصيات الواردة في الكتاب المقدس، في أعمال الرسل (1: 9-16) و (4: 16-22)، حيث يُذكر حنانيا كشخص دمشقي من أصل يهودي، كان يتمتع بشهرة وتقدير عظيمين في كنيسة دمشق الفتية، وله كشف السيدُ المسيح المهمة التي عينها الله لرسول الأمم "بولس". كما يؤكد التقليد الشرقي أن حنانيا كان أحد تلاميذ المسيح الاثنين والسبعين الذين يكلمنا عنهم القديس لوقا (1: 10) وأنه جاء إلى دمشق بعد رجم القديس استفانس، ثم رسمه الرّسل أسقفاً لكنيسة دمشق.
وكان حنانيا يسافر إلى جهات عدة مُبشِّراً بالإنجيل، واحتمل أشدّ الاضطهاد والعذاب، ومن ذلك تبشيره بالكلمة في بيت جبرين الفلسطينيّة، واستطاع أن يجذب العديد من الوثنيين إلى الإيمان، خاصةً أن الله أعطاه موهبة صنع العجائب، ويُقال إنّ عمله البشاريّ في بيت جبرين كلّفه حياته، إذ قبض عليه الحاكم الروماني ليسينيوس وحكم عليه بالموت مرجوماً بالحجارة خارج سور دمشق في اليوم الأول من شهر تشرين الأول، لينُقل بعدها المسيحيون جثمانه إلى داخل المدينة.
أقدم كنائس دمشق
أما هذه الكنيسة التي أضحت مزاراً لكثيرين يتبرّكون به ويشعلون الشموع ويحضرون فيه القداديس والصلوات، فكانت هي بيت القديس حنانيا الذي تحول منذ القدم إلى معبد مسيحي باسم "كنيسة الصليب". ورغم الجهل بتاريخ هذا التحول لكنه بالتأكيد قبل الفتح الإسلامي عام 636م، كما يشير الكُتيّب، ففي المجلة العلمية (سوريا) وتحديداً ضمن عددها الخامس الصادر عام 1924، ورد أن الكونت "أوستاش دي لوريه" مدير البعثة الأثرية في سوريا قام بحفريات سنة 1921 في مدينة دمشق ضمن منطقة كانت تعرف باسم حنانيّا بالقرب من الباب الشرقي. وكانت هناك كنيسة باسم "كنيسة الصليب المقدس" أو بالأحرى "المصلّبة"، وهي إحدى الكنائس التي سمح الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك للمسيحيين باستعمالها بدلاً من الجامع الكبير (الأموي).
دي لوريه اكتشف موضوع الهيكل، وحفرياته أظهرت أن الكنيسة كانت سابقاً هيكلاً وثنياً يعود للقرن الثاني أو الثالث بعد المسيح، كما تشهد على ذلك كتابة باليونانية ورسومات، ما يجعلها أقدم كنائس دمشق
ويضيف الكتيب التعريفي بأن "دي لوريه" اكتشف موضوع الهيكل، وحفرياته أظهرت أن الكنيسة كانت سابقاً هيكلاً وثنياً يعود للقرن الثاني أو الثالث بعد المسيح، كما تشهد على ذلك كتابة باليونانية ورسومات، ما يجعلها أقدم كنائس دمشق، وبعد بضعة قرون يتحدث ابن عساكر (1105-1176) عن كنيسة في دمشق باسم "الكنيسة المصلبة"، ويقول إنها قرب السور بين باب توما والباب الشرقي، وهدمت نحو سنة 700م. وفي سنة 1363 يقول الكاتب ابن شاكر إن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (702-712) أعطى المسيحيين خربة "كنيسة الصليب" بدلاً عن كنيسة القديس يوحنا المعمدان التي حولها إلى جامع (الجامع الأموي الحالي).
وتشير الوثائق أنه في سنة 1820 استملك الآباء الفرنسيسكان التابعون لحراسة الأرض المقدسة هذا المكان المقدس وبنوه وكرسوه للعبادة، لكن هذا البناء هُدم في ثورة 1860، وفي سنة 1867 أعيد بناء هذا المعبد، وفي سنة 1973 رُمم على شكله الحالي، ليتم تسجيل الكنيسة ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي في عام 1979 كجزء من مدينة دمشق القديمة.
خوفاً من الاضطهاد
تتألف الكنيسة التي هي في الأصل كهف طبيعي من قاعتين: الأولى متطاولة شمالاً وجنوباً، وفيها الهيكل الذي تتصدره ثلاث أيقونات تروي أولاها حادثة أخذ بصر شاؤول. أما الثانية فتصور حنانيا واضعاً يده على شاؤول ليعيد له البصر، في حين تقصّ الثالثة واقعة نزول بولس في سلة على سور دمشق هرباً من الموت بعد الوشاية به. أما القاعة الثانية فصغيرة تقع في الزاوية الشمالية الغربية من القاعة الكبرى، وعُلِّق على جانبيها مجموعة من اللوحات تحكي قصة بولس ورحلاته الأربعة بين عامي 46 و62م، التي أخذته إلى القدس وأنطاكية، بالإضافة إلى قبرص وبلاد اليونان وكريت، ليصل بعدها إلى روما حيث ينهي مسيرته التبشيرية على يد سياف نيرون.
أما عن سبب كون كنيسة حنانيا تحت الأرض بما يقارب الخمسة أمتار، فإن الجواب ضمن الكتيِّب بأن المؤمنين كانوا في بداية التبشير بالديانة المسيحية يتعرضون للاضطهاد لذا كانوا يجتمعون للصلاة في سراديب ويتخذونها كمكان للعبادة، في حين أن الكنيسة الآن تشهد قداساً إلهياً كل يوم سبت عند الساعة السادسة، وصلاة سجود للقربان الأقدس كل اثنين بنفس التوقيت، وتستقبل زوارها يومياً من الساعة التاسعة صباحاً وحتى الخامسة مساءً.
ويتضمن بناء الكنيسة الذي يقع في بداية شارع "العازرية" إلى جانب الكنيسة، مكتبة تتضمن مجموعة من الكتب والبروشورات، وفيها قسم لشراء بعض التذكارات كالشموع والأيقونات والبخور والمسابح، إلى جانب بعض الغرف في الجهتين الغربية والشرقية، فضلاً عن فسحة سماوية تشبه نظيراتها في البيوت الدمشقية القديمة، تحتوي على تمثال يجسد حنانيا وهو يعمّد بولس الرسول وآخر للسيدة العذراء، يتوسطهما الباب المفضي إلى درج الكنيسة، يعلوه شعار كنيسة الفرانسيسكان مع يدين متقاطعتين تمثلان تعانقَ يدِ السيد المسيح ويد القديس فرنسيس الأسيزي الذي نال نعمة جروحات المسيح.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...