سميرة، زوجةٌ وأمٌ لشابين، في بداية عقدها الخامس، لاحظت قبل سنتين ارتفاعاً غير عادي في درجة حرارة جسمها، وتغيّراً في سرعة نبضات القلب، لكنها ظلّت تقاوم هذه الأعراض، إلى أن تغيّرت نفسيتها، ولم تعد قادرةً على احتمال ضغط العمل.
تقول المرأة: "أعمل في قطاع التدريس منذ أكثر من خمسٍ وعشرين سنة. ربّيت أجيالاً تشهد لي بطيبة تعاملي، وتدبيري لأزمات الفصل، لكنني استشعرت مؤخراً عدم قدرتي على العطاء، كما كنت قبل سنوات. هذه المهنة أعشقها، ولا أريد مغادرتها قبل سن التقاعد القانوني. أنا في حاجة إلى استراحةٍ من حينٍ إلى آخر، أعود خلالها إلى نفسي. لا أريد أن يبدر مني تصرف خارج عن إرادتي، يشوّه سمعتي التي بنيتها لعقودٍ، بسبب التحولات الفيزيولوجية التي أعيشها".
تعيش سميرة فترةً من عمرها اقتربت فيها من مرحلة انقطاع الطمث. انقطاع الطمث، أو "سن اليأس" كما يُطلَق عليه في المجتمع، هو حالة بيولوجية يعلن من خلالها الجهاز التناسلي الأنثوي عن انتهاء وظيفته الإنجابية، ويعبّر عنها الجسد بعددٍ من المتغيّرات التي تشعر بها المرأة على المستويين الجسدي والنفسي، وتختلف من وقت إلى آخر، والشائع استمرارها سنوات، لدرجة يصعب معها ممارسة الحياة اليومية والعملية بالشكل المعتاد.
"علينا الحصول على عطلةٍ مدفوعة الأجر في مرحلة الدورة الشهرية"؛ طلب أصبحت تردده كثيرات من المغربيات، في مواجهة الصمت الذي يحيط بالصحة الجنسية.
وإن كانت هذه الفترة من حياتها تحدث اضطراباتٍ، ترى سميرة أنه من الضروري أن تحصل خلالها على عطلٍ مرخصة من طرف وزارة التعليم، ومدفوعة الأجر، خاصةً أن الكثير من المتاعب التي تلاحق النساء منذ سن البلوغ، في المدرسة، والشارع، والعمل، مرتبطة بالدورة الطبيعية لجسد المرأة.
اليوم، أصبحت الصفحات النسائية في مواقع التواصل الاجتماعي، تشهد رسائل كثيرة تذهب في هذا الاتجاه، بمطلب يتكرر كثيراً: "علينا الحصول على عطلةٍ مدفوعة الأجر في مرحلة الدورة الشهرية".
حقيقة علمية ولكن...
استطاع العلم تسليط الضوء على فيض المشاعر المتضاربة، وغير المتحكم بها، خلال انقطاع الطمث، وخلال الدورة الشهرية، وغالباً ما لا يتم البوح بها لعموم الناس، ويتم التستّر عليها، لأنها تندرج في خانة المخجلات. لذلك لا تستطيع سميرة تقديم مبررات لحالتها، ولا التحجج بأسباب أخرى للحصول على عطلة، كلما احتاجت. تضيف: "لجأت أحياناً إلى الكذب، لتبرير غيابي المتواصل، لكنني سئمت الوضع".
وفق ما يصرّح به القانون المغربي في المادتين 152 و270 من "مدوّنة الشغل"، فالرجال كما النساء العاملات يتمتعن بالحقوق نفسها، وبأيام العطل ذاتها، ما عدا في الحالة التي تدلي فيها المرأة بشهادة طبية تفيد بحملها، وهنا تتمتع بإجازة ولادة مدتها أربعة عشر أسبوعاً مدفوعة الأجر.
ويُعد هذا الاستثناء الوحيد الذي يراعي فيه القانون كيان المرأة، ويتجاوز الحالات الأخرى كلها، ومن ضمنها آلام العادة الشهرية، فيما ناقشت العديد من البلدان الغربية هذا الموضوع بحذافيره، ومنها بلدان توصلت إلى ضرورة مراعاة ما يمرّ به جسد المرأة من متغيّرات، وأقرّت عطلاً مدفوعة الأجر عن كل حالة على حدة.
انتقل النقاش إلى قبّة البرلمان المغربي منذ سنوات، ولعل أبرز لحظاته كانت عام 2016. حينها، صرّح محمد مبديع، الوزير المنتدب الأسبق المكلّف بالوظيفة العمومية وتحديث الإدارة، بأن "الوزارة لم تتلقَ أي طلبٍ من جمعيات نسائية وحقوقية يتعلق بالقضية، وتالياً فمن غير الممكن العمل به".
هذا التصريح ترتّب عليه جدل في صفوف الحركة النسوية، والنساء المغربيات اللواتي يرين أن عطلة الحيض الشهرية، وعطلة انقطاع الطمث، حقّان بديهيان لا يتوقف إقرارهما على تقديم "مطالب".
حرمان حتى من العمل...
طبيعة الصحة الجنسية للنساء تظلّ محل صمتٍ في المغرب. أما في محيط العمل، فالصمت أكبر، إذ يصبح الحديث عنها "ترفاً" في مجتمع ما زالت لم تنتشر في قطاعيه الحكومي والخاص بعد، ثقافة الاختلاف واحترام خصوصيات كل فئة مجتمعية ضمن الموارد البشرية للمؤسسات والمقاولات.
وفي حالات خاصة، تصبح المرأة ضحيةً مزدوجةً، مثلما هو حال حنان. تعود الشابة العشرينية بذاكرتها إلى الوراء. "في أول دورة شهرية لم يكن الأمر مؤلماً أبداً، لا جسدياً ولا نفسياً. كان غريباً، لكن وقعه لم يكن قوياً، ولم أظن حينها أن تلك القطرة ستضيّق عليّ حياتي في ما بعد"؛ بين الفوط الصحية الملفوفة بأوراق الجرائد القديمة، والمعاطف التي تغطّي الأوراك، والابتسامة التي تخفي ألماً رهيباً، تجنباً للسؤال، تنبعث بوادر الانفجار.
بلغت حنان مرحلة البلوغ باكراً. كان ذلك في عمر إحدى عشرة سنةً، عندما كانت تدرس في المدرسة الابتدائية. تقول: "لا أعتقد أن الواحدة منا ستنسى أول يوم حيض لها. أتذكر أنه كان في شهر كانون الثاني/ يناير، والجو ماطر. فقدت تركيزي لوهلةٍ، إذ شعرت وكأنني قمت بتبليل ملابسي، فاستأذنت من المدرّسة للتوجه إلى مراحيض المؤسسة على وجه السرعة، تفادياً لوابل من العبارات الساخرة التي سيوجهها إليّ زملائي، إذا ما لاحظوا هندامي".
لم تكن حنان ملمّةً بالموضوع قط، ولا سبق لها أن سمعت به من محيطها الأسري، لأنه في دائرة "المسكوت عنه". هذا على الرغم من أنها الابنة الصغرى بين ثلاث بنات، وصبي.
سنةً بعد سنة، أصبحت حياة الشابة العشرينية أكثر تعقيداً. في سن السادسة عشر توجهت نحو طبيب نساء، بعد أن ادّخرت من مصروفها لأشهرٍ، من دون علم الأسرة، في خطوةٍ تُعدّ الأولى نحو ثورتها ضد "الصمت" الذي يحيط بوضعها الجديد، وتكمل: "كنت أعاني من اضطراب في العادة الشهرية. لكن بالنسبة إلى والدتي وصديقاتي، ما لم تنقطع الدورة أشهراً، فأنا لا أعاني من أي مشكلة، والبقية سببها ضيق المهبل، أو التوتر المتراكم".
لكن الطبيب كان له رأي مغاير، إذ أخبرها بعد الكشف عليها، بأنها تعاني من مرض يُدعى "بطانة الرحم المهاجرة"، وهو مرض يصيب واحدة من عشر نساء حول العالم، وغالباً ما يستدعي التدخّل الجراحي.
تعاني حنان بصمت، بسبب إصابتها بمرض "بطانة الرحم المهاجرة". لكن أمام صمت المجتمع المغربي عن الصحة الجنسية للنساء، فإنهن يعجزن عن عيش ظروف مهنية مريحة
لكن على الرغم من محاولتها مراراً وتكراراً، إقناع أسرتها بالخضوع للعملية، إلا أنها لم تنجح. ويعود رفض العائلة إلى حجةِ أنها بكرٌ، وستفقد عذريتها بسبب العملية: "الشعور بأن حياتي متوقفة على موافقة المجتمع، لكي أعالج نفسي، يقبض على أنفاسي، وقد أثر على حياتي كلياً. لم أعد أستطيع التقديم على فرصة عمل".
الشابة، وحتى إن حصلت على عمل، ستجد نفسها أمام متاعب جمة، بسبب الظروف المرتبطة بصحتها الجنسية: "لا أحد من المُشَغّلين سيتفهّم ضرورة حصولي على يومَي إجازة شهرياً، بسبب وضعي الصحي، حتى النساء غالبيتهن لسن مطلعات على الأمر، ويجهلن كل شيء عن هذا المرض". وتأسف الشابة "لأن الدورة الشهرية تمرّ بسلام عند بعض النساء، وتمرّ بشكل جيد يُعتقَد معه أن جميع النساء يكنّ مثلهن، ويعتقد كثيرون حتى من النساء، أن من تتحدّث عن ذلك مجرد مدّعية تريد استغلال الوضع لا أكثر".
هكذا تجد الشابة نفسها بين مطرقة العائلة، وسندان سياسات التوظيف التي ستحرمها من العثور على فرص عمل، ومن تطوير نفسها مهنياً، على الرغم من أنها حاصلة على شهادة جامعية.
حنان وسميرة، وعلى الرغم من الهوة بين أعمارهن، يشكّلن صورةً واضحةً لفيزيولوجية المرأة التي يتغاضى المجتمع والقوانين المؤطرة للعمل، عنها. وعلى الرغم من أنها "طبيعة" أثبتها العلم، ولا تمكن مواجهته بالنكران، إلا أن أرباب العمل يضعونها في أدراج النسيان.
رانية، وهي واحدة من النساء اللواتي يعانين من أوجاع جسدية أكثر منها نفسية، تقول لنا: "أي دولة تؤمن بمساهمة المرأة الفعالة في تقدّم البلد، عليها أن تأخذ بعين الاعتبار الاحتياجات البيولوجية التي تنفرد بها على الرجل، ولا جدوى من انتظار مطالب تُرفع في هذا الصدد، لأن هذه هي احتياجات من المفترض أن تكون كل دولة واعيةً لها". فهل تجد نساء المغرب آذانا مصغية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم