شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
في زمن الانهيار، لم يتبقَّ ما يوضَع على الرفّ كمنظرٍ من دون فائدة

في زمن الانهيار، لم يتبقَّ ما يوضَع على الرفّ كمنظرٍ من دون فائدة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 24 نوفمبر 202103:53 م

حسناً، ليس هناك ما نأسف عليه. ليس بعد الآن. ليس هناك ما يستمرّ في كونه كمالياً في موسم الانهيار. لم يتبقَّ ما يوضع على الرفّ كمنظرٍ من دون فائدة، سواء فائدة مباشرة، كأن يصبح حاجةً استهلاكية في المنزل، فيتحول إلى تلبية غايات عملانية يومية. أو فائدة تجارية غير مباشرة، كأن نبيعه بوصفه مقتنياتٍ لن نستخدمها بعد الآن، أو لم نستخدمها في السابق، فنستفيد من مردودها لاقتناء حاجيات وأشياء أكثر راهنيةً وضرورة. إنه الانهيار الذي أعاد جعل الأشياء كلها في موضع وظيفتها التي وُجدت من أجل إتمامها أساساً، قبل أن تنزاح لتأدية وظيفة أخرى ليست وظيفيةً استهلاكية يومية، بقدر ما هي جمالية في المنزل، أو المكتب، أو السيارة، أو حتى على رفوف المكتبة، والمنضدة.

تخيّل، لقد حسمنا الأمر في منزلنا، قبل أيام. جدّياً، لقد وصلنا خلال رحلتنا مع الانهيار إلى استهلاك أمور الزينة، تلك التي يمر زمن الانتظار عليها منتصبةً من دون أن تفيد في شيء، إلا تلبية المشهد. تلك الشمعات التي تحوّلت ماهيتها الأساسية، في زمن الرخاء، إلى بعض الرونق الذي يخدم غاياتٍ ديكورية في مشهد مدخل المنزل، لقد أعاد الانهيار إليها وظيفتها في أن تنير الردهة، خلال انقطاع الكهرباء المستمر والممتد منذ ساعات النهار حتى ساعات متأخرة من الليل. لعلها فرِحة في ذلك. لعلها سئمت الانتظار اللا نهائي على الرفّ، من دون أن تشعر بالرضا عن ذاتها، وها قد أتى الانهيار ليرضيها، بقدر ما يحطّمنا.

تلك الشمعات التي تحوّلت ماهيتها الأساسية، في زمن الرخاء، إلى بعض الرونق الذي يخدم غاياتٍ ديكورية في مشهد مدخل المنزل، لقد أعاد الانهيار إليها وظيفتها في أن تنير الردهة، خلال انقطاع الكهرباء المستمر والممتد منذ ساعات النهار حتى ساعات متأخرة من الليل

ليست الشمعات فحسب، التي شهدت إعادة الانزياح الوظائفي هذا، بل القمصان والسترات والأحذية والبدلات كذلك. كانت موضبةً، ومركونةً في زاوية الخزانة، للمحافظة عليها بهدف استخدامها في المناسبات فحسب، وحصراً. باتت مناسباتها هي التي تحدث يومياً، في حال كان هناك ما يحدث يومياً؛ كأن نذهب إلى العمل، إن ذهبنا؛ وكأن نتجه إلى السوبر ماركت، بهدف التبضع قبل ارتفاع الأسعار، في محاولة منا لاستباق وتيرة الارتفاع المستمر في سعر صرف الدولار مقابل الليرة في السوق السوداء.

حتى الصحون والملاعق والأشواك والسكاكين والمنافض والصواني والأباريق والأقداح، التي كانت تزيّن خزانة التحف، لطالما كانت مركونةً لمناسبة لم تأتِ يوماً. لقد أجبرها الانهيار على الانخراط في سوق العمل اليومي في المنزل، فباتت أي مناسبة قريبة هي مناسبتها؛ سهرة من السهرات التي قلّت وتيرتها، فباتت تتكرر مرةً واحدة في الشهر، أو الشهرين، أو لربما الثلاثة، إن كان ذلك ممكناً.

أمورنا وأشياؤنا الكثيرة التي لم نقتنِها لندرجها يوماً في خانة الاستعمال، فقدنا وفقدت هذه الرفاهة معنا، فانغمست في حركة تلاشيها اليومية. تلك الأواني و"السوفينيرات" (التذكارات) التي تستدعي ذكرى مرّت في زماننا، وتستدعي أشخاصاً رحلوا، فكانت تعييناً على استمرار وجودهم معنا، يسامروننا في أيام وحدتنا، كلها أمعن الانهيار في انهيارها، كأشياء ذاكرة، وأفكارها، فلم تعد أشياءً متكوّرة في زمان تستدعي فيه وبه متى تشاء، الذاكرة.

غريبة تلك العلاقة بيننا وبين أشيائنا. لقد طرأ التعديل المباشر عليها كعلاقة، إذ أجبرنا الانهيار على إعادة تعريف ليس الأشياء فحسب، بل الـ"نحن" أيضاً، وعلاقاتنا معها، وبها. هذه العلاقة التي باتت ترتبط بالموت القادم الذي نتوقعه، وبالرحيل إن لم يكن الموت، وبالهجرة كذلك

غريبة تلك العلاقة بيننا وبين أشيائنا. لقد طرأ التعديل المباشر عليها كعلاقة، إذ أجبرنا الانهيار على إعادة تعريف ليس الأشياء فحسب، بل الـ"نحن" أيضاً، وعلاقاتنا معها، وبها. هذه العلاقة التي باتت ترتبط بالموت القادم الذي نتوقعه، وبالرحيل إن لم يكن الموت، وبالهجرة كذلك. إذ من الذي سيستخدم هذه الأشياء، أشياءنا، في حال هاجرنا؟ لمن سنتركها؟ لتتآكل نتيجة عوامل الزمن؟ للسرقة؟ لمن ستزيّن المشهد من بعدنا؟ وأيّ مشهد؟ مشهد امتداد المكان من دون أي حركة؟ أصلاً، هل سيبقي الانهيار على مكانية المكان في هذه الحالة، أي في حال ابتعاد من أعاد تعريفه بهذا الشكل، وعلى هذه الوتيرة. مكان ممتد من دون أي شيء، ومن دون أي أحد يتحرك فيه، ليملأ فراغه.

يبدو أن رحلتنا مع الانهيار في بداياتها، وتلك الأمور المباشرة التي عايشناها، لم تكن إلا المقدمة، مقدمة ستفتح الطريق أمام درب وخلاصات لم تكن يوماً في حسباننا. لربما، وهذا هو الأخطر، لم يكن في خيالنا أن نستمر يوماً، لكي نحسبها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image