تندرج المادة في ملف جديد عنوانه: "كان صرحاً من خيال... لعبة التاريخ البديل"
رابعة البلخية بنت كعب، حاكم بلْخ؛ فتاة بعينين سوداوين وقامة رشيقة، وقد لقّبها أبوها "زين العرب" لفرط حبّه لها وفضلها وأدبها. كانت رابعة تتقن الرسم، وتكتب الشعر بالعربيّة والفارسية، إذ هي أول شاعرة كتبت بالفارسية، رغم أن أصولها عربية، فكان أبوها من العرب المهاجرين إلى خُراسان. قبل أن يتوفى الأب، أوصى أخاها حارثاً بها، والذي كان سيخلف أباه.
كان لحارث غلام اسمه "بَكْتاش". في إحدى الحفلات الليلية رأت رابعة بكتاش، فوقعت في حبه. وبما أن حبّ الأميرة لغلام كان ذنباً لا يُغفر، فتكتمت رابعة، وصارت تكتب له القصائد وتصف حبها له بين المرض والضنى، إلى أن أصبحت طريحة الفراش.
كانت لرابعة "داية" ودودة، استطاعت أن تستدرج رابعة للاعتراف بأن سبب مرضها هو حبّها للغلام، فتخبر الداية بكتاشَ بحبّ رابعة له، وتصبح وسيطة الحبّ بينهما، وذات مرة ترسم رابعة صورتها وترفقها بقصيدة فتبعثها لبكتاش على يد الداية، فتستمرّ مراسلاتهما.
وسط ترحيب بالشعر والشاعر، قال رودكي: "أتعرفون أن هذه القصائد ليست لي. إنها لشاعرة."
يروي الشاعر الإيراني الشهير، صاحب "منطق الطير"، فريد الدين عطار النّيشابوري، قصةَ حبّ رابعة وبكتاش، ويستطرد أنه في إحدى المرات اقترب جيش العدوّ من بلْخ، فدارت حربٌ، شارك بها بكتاش، وذهبت إليها رابعة أيضاً متنكرة، بعد أن رأت في نفسها جزعاً دون خبر من بكتاش.
وذات مرة رأته جريحاً، فأشهرت السيفَ، وكرّت على الجيش، لتسحب جسمَ حبيبها من المعركة، قاتلة قبل ذلك بعض الجنود.
بعد مرور فترة، وحين هدأت الأوضاع، وانتصر جيش بلخ على المهاجمين، ذات يوم التقت رابعة في طريقها الشاعر الفارسي الشهير "رودَكي" الذي كان يعاصرها، ويسمى "أب الشعر الفارسي". قرأ رودكي ورابعة الشعر لبعضهما بعضاً، واستغرب رودكي برهافة حسّها وبلاغة شعرها، فعرف قصة حبّها، ذاهباً إلى بلاط ملك بخارى الذي كان قد ناصر حارثاً، وأقام حفلاً من أجل الانتصار، دعا رودكي فيه، كما أن حارثاً كان من الضيوف الخاصين.
دعا الملكُ رودكيَّ أن يقرأ شعراً، فقرأ رودكي ما كان قد حفظ من شعر رابعة. أشاد الحاضرون بالقصائد، وسأل الملك عن شاعر تلك الأبيات. أما رودكي، فمنتشياً بالخمر، نسي أنه لا ينبغي أن يذكر اسمها، فأباح السرّ. حين سمع حارث أن أخته هي صاحبة تلك الأبيات، وأنها واقعة في حبّ الغلام، غضب، وحين عاد إلى مدينته، تحرى الأمر، ووجد صندوقاً يحوي قصائد رابعة في غرفة بكتاش، فساء الظنّ بهما. يقال إن حارثاً أتلف القصائد أو أحرق الصندوق، وألقى بالغلام في السجن. أما رابعة فأمر بقطع شريانها ووضعها في حمام مغلق إلى أن ينقضي نحبها.
قيل إنه حين فتحوا باب الحمام وجدوا رابعة ميتة، وقد خطّت بدمها على الجدار أبياتَ حبّ لحبيبها بَكتاش.
بعد فترة، فرّ بكتاش من السجن، فذهب نحو حارث ليلاً وقتله، ثم اتجه نحو مدفن رابعة، وطعن نفسه فوق قبرها، ودُفن في قبرها.
قيل إنه حين فتحوا باب الحمام وجدوا رابعة ميتة، وقد خطّت بدمها على الجدار أبياتَ حبّ لحبيبها بَكتاش
تعالوا نتخيل القصة بشكلٍ آخر. قرأ رودكي قصيدة لرابعة. انبهر السامعون بها، ومنهم حارث، فطلبوا المزيد. استطرد رودكي بأخرى، وثالثة. وسط ترحيب بالشعر والشاعر، قال رودكي: "أتعرفون أن هذه القصائد ليست لي. إنها لشاعرة."
"إن كان لابدّ من حبّ فليكن كهذا، وإن كان لامرأة أن تحب فلتكن مثل هذه الشاعرة"؛ قال ملك بخارى، وطأطأ الأمراء والفضلاء رؤوسهم.
"ما اسمها؟"؛ سأل حارث، وانحنت الرؤوس نحو شاعر الفرس الجليل. رودكي الذي كان يذكر نفسه كلّ مرة، بين نشوة النبيذ والشعر، ألا يبوح باسم رابعة، أدار بنظراته في المجلس، ثم ركزها في عيني الملك، وقال: "رابعة بنت كعب". ثم نظر نحو حارث، وتبعته نظرات الحاضرين قاطبة.
وجد حارث نفسه متلقياً كلمات الإعجاب بأخته وأدبها، ونبل حبّها. شعر أنه يريد أن يلتقيها في أقرب فرصة، ويحضنها. لا يهمّ من الحبيب، إنه يريد لها أن تسعد بهذا الحب، وحسب.
في مشهد آخر ثمة عرس أقيم لرابعة وبكتاش. أتى حارث بالصندوق مبتهجاً، لتخرج منه رابعة قصائدها، وتقرأها لحبيبها، ويردّدها الآخرون، وقد انتقلت إلينا الكثير من القصائد، ليس فقط سبع قصائد وبعض المقاطع.
ما غير المصير كان دقيقة واحدة من الوقت فقط.
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 6 ساعاتلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري