حين قرأت حملات الهجوم والسخرية التي طالت الفنانة إلهام شاهين مؤخراً، إثر إعلانها تقديم مسرحية "المومس الفاضلة"، للمفكر الفرنسي جان بول سارتر، قلت لنفسي: لا جديد، لم يهتم أحد بمضمون القصة، وأهدافها، وقيمتها في الأدب العالمي، وتوقفوا عند لفظ "المومس" فحسب، وعدّوه "خروجاً عن النص"، ناهيك عمن حاولوا ربط الصفة بإلهام شاهين، في وقاحة تستحق العقاب، لكني اعترف بعدم توقّعي أن يصل الأمر إلى حد تقديم نائب طلب إحاطة في مجلس النواب المصري، مطالباً بتغيير الاسم الذي "استفزه جداً".
عدم اندهاشي من هذا الهجوم، سببه أن تلك الفنانة باتت عرضةً للهجوم على كل تصريح تطلقه.
عدم اندهاشي من هذا الهجوم، سببه أن تلك الفنانة باتت عرضةً للهجوم على كل تصريح تطلقه؛ فإن أعلنت عن موافقتها على التبرع بأعضائها بعد الوفاة، كما فعلت سابقاً، هوجمت. وإن أبدت أي رأي سياسي، أو رفضت أي فتوى دينية يرفضها غيرها، انطلقت ضدها التعليقات الساخرة، والمكفِّرة أحياناً، وإن روت بعض المواقف عن حياتها الشخصية التي تخصّها وحدها، شُتمت. لا يحدث هذا من فصيل بعينه، لنقول إنها كراهية لها مقاصد أخرى، بل من أطياف مختلفة، ما يعني أن تلك الفنانة في مرمى النيران دائماً، والسؤال الآن هو: لماذا يكرهون إلهام شاهين؟
لن يكون من الصعب معرفة أول أسباب الكُره لإلهام شاهين، فمن ناحيةٍ احترفت مهنةً يعشقها المصريون، لكنهم في الوقت نفسه يرون أن كل من يعمل فيها سيدخل النار. ثانياً، هي منذ البداية في مرمى الهجوم و"الازدراء". ومن ناحية أخرى، كونها في مجتمع ما زال يناقش أحقية المرأة في الخروج من المنزل أصلاً، فهذا يجعل الأمور أصعب، ففي أوطاننا العربية تظل الذنوب صغيرةً حتى ترتكبها النساء، فتصبح كبائر!
لن يكون من الصعب معرفة أول أسباب الكُره لإلهام شاهين، فمن ناحيةٍ احترفت مهنةً يعشقها المصريون، لكنهم في الوقت نفسه يرون أن كل من يعمل فيها سيدخل النار
لكن إن كانت تلك معاناة كل فنانة في أوطاننا، فإن إلهام شاهين شكّلت حالةً استثنائيةً، من خلال مسيرتها الفنية التي بدأتها في منتصف سبعينيات القرن الماضي، إذ إنها لم تكتفي بدور المرأة الجميلة أو المستكينة، ولم تنحصر في دور الحبيبة أيضاً، بل تنقّلت بين الدراما والتراجيديا وقضايا الفساد، وسريعاً اتّخذت مكانها ضمن نجمات الصف الأول، فناقشت حقوق النساء في أفلام عدّة، مثل "لحم رخيص"، وهذا زاد من شعبيتها وتأثيرها، وفي المقابل زاد من حملات الهجوم عليها. ففي النهاية، لن يُهاجَم أحد غير مؤثّر.
بالإضافة إلى ذلك، طبيعة إلهام شاهين وأفكارها، في رأيي، شكّلت أهم العناصر لهذا العداء المستمر ضدها من جانب المحافظين. فحين أعلنت أكثر من فنانة "التوبة" عن الفن، في تسعينيات القرن الماضي، في موضة أُطلق عليها "الفنانات التائبات"، وكانت وراء تلك "الموضة" صحوة التيارات الإسلامية التي استهدفت أهل الفن، لم تنجرف هي إلى هذا الطريق الذي ذهبت فيه زميلاتها، كما أنها لم تنجرف أيضاً في موضة الزواج من الأثرياء، ثم اعتزال الفن، أو ارتداء الحجاب فترةً، والحديث عن تحريم "الشعر"، ثم خلع الحجاب مرة أخرى، كما فعلت زميلات أخريات لها.
بعيداً عن الفن، الحياة الشخصية لإلهام شاهين، يمكن عدّها وثيقة اعتراض على الكثير من الأفكار السائدة في المجتمع، فهي المرأة التي ضحّت بأمومتها، وأجهضت حملها قبل طلاقها.
إلى جانب تلك القناعة الشخصية بما تفعله، وعدم الرضوخ لأي أفكار لا تتناسب مع طبيعتها، فإن إلهام شاهين لم تلتفت كثيراً أيضاً إلى أصحاب "مدرسة الأخلاق" الذين سيطروا على السينما، وحرّموا "القُبلات"، إلى درجة أنه خلال العشر سنوات الماضية، ندر أن تجد فيلماً مصرياً يحتوي على "قبلة"، وهذا على النقيض من إلهام المؤمنة بحرية الفن، وإبداعه، إذ طالما أن القصة تستحق، فلتجسَّد كما هي، ولذلك رأيناها في أفلام من الصعب أن تقبل بها غيرها، على الرغم من أهميتها وعمق ما تناقشه، مثل "سوق المتعة"، و"دانتيلا".
بعيداً عن الفن، الحياة الشخصية لإلهام شاهين، يمكن عدّها وثيقة اعتراض على الكثير من الأفكار السائدة في المجتمع، فهي المرأة التي ضحّت بأمومتها، "خوفاً من المسؤولية"، حسب تعبيرها، وأجهضت حملها بيديها قبل طلاقها، إذ قالت: "لو واحدة حَ تتطلق، تخلّف ليه؟!"، وتزوّجت أكثر من مرة، وعلى الرغم من أن تلك الأمور قد تكون عاديةً، لكن التصريح بها كقرار اتُّخذ، وعدم إبداء الندم، هو ما صدم المجتمع الذي لديه بالفعل موقف منها، وجاهز لمهاجمتها في أي وقت.
نحن إذاً أمام امرأة قوية وجريئة وصاحبة إرادة، قررت العمل، وعملت في مهنة يعدّها كثيرون "حراماً"، ولم تلتفت إلى أي موجة لتقول للمحافظين إنها اقتنعت ببعض آرائهم، أو تشعرهم بنصرٍ زائف، كما رفضت أي وصاية فنية، وفوق ذلك لم تخجل من قول ماذا فعلت في حياتها، أليست تلك التركيبة كافيةً لأن تُثير الكثيرين ضدها؟ وبمعنى آخر، أليست تلك الحرية التي تمتعت بها تلك الفنانة، تثير امتعاض الخائفين والخائفات؟
لم تلتفت إلهام شاهين إلى أصحاب "مدرسة الأخلاق" الذين سيطروا على السينما، وحرّموا "القُبلات"، إلى درجة أنه خلال العشر سنوات الماضية، ندر أن تجد فيلماً مصرياً يحتوي على "قبلة"، وهذا على النقيض من إلهام المؤمنة بحرية الفن، وإبداعه، إذ طالما أن القصة تستحق، فلتُجسَّد كما هي
ما سبق هو السبب الذي دفع أنصار الجماعات المتطرفة في 2012، إلى أن يقتطعوا صوراً من أفلام إلهام شاهين، ويطبعوها، وينشروها على الملأ، ليثبتوا أن الفن هو "العري"، وليجسّدوا أكثر المشاهد ظلاميةً في السنوات الأخيرة.
نعم، القصة ليست مسرحية "المومس الفاضلة"، أو الاسم الذي عدّه البعض "مستفزاً"، فإن أعلنت أي فنانة غير إلهام شاهين أنها ستقدّم تلك المسرحية، فلربما مرّ الأمر مرور الكرام، أو حصد حملات سخرية عابرة على أكثر تقدير. لكن المشكلة أنها إلهام شاهين التي تعمل ما تشاء، رافضةً أن تكون حياتها ومهنتها حسب رغبة الجميع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...